«الدموع السوداء» قصة قصيرة للكاتب عبد النبي النديم

 عبد النبي النديم
عبد النبي النديم

حسّنت ملامح خديها.. داعبت شفتيها بأصابعها.. تزيد من حمرة خديها.. بإضافة بعض مساحيق التجميل لتضيف بهاء علي حسنها.. جمعت أطراف خصلات شعرها الذهبية.. اطمئنت إلى جمالها بعد أن سحبت أصابعها على أهدابها ناظرة إلى المرآة حتى تتأكد من عدم هروب أي من شعيراتها خارج خطوطها.. التفتت حيث ارتمى فستان زفافها الأبيض..

تنهض كأنها قادمة من ماض سحيق، تمد يدها تتحسس خطوط فستان زفافها المصنوعة من حبات اللؤلؤ في شكل أزهار تنسدل على جنباته, تنتقل بأناملها من زهرة إلى زهرة .. يسرح خيالها برؤيته على تضاريس جسدها النافرة، وصفير ونظرة الإعجاب من عريسها عندما يقع نظره عليها بداخله، تزداد خجلا كأنه أمامها، تنظر إلى الأرض..

ترفع فستانها الأبيض أمام عينيها، تضعه على صدرها، تحتضنه بشدة وتغمض عينيها .. تتخيل لحظات السعادة وعريسها ينزعه من على جسدها.. تلف حول نفسها مرات .. ومرات، اتخذت القرار، سأرتديه الآن.. فقد حان الوقت.

تحاول أن تضع الفستان على جسدها، تفشل .. تحاول مرة أخرى وتفشل..

تتوقف عن المحاولة .. لا بد أن يساعدني أحد في ارتداء الفستان!!

أمي .. تسرع إلى الباب، تمسك بمقبضه ..تتوقف.. أمي؟؟ لأ مش هينفع..

تعود إلى وسط غرفتها تعقد ذراعيها على صدرها، تقضم أظافر يديها ..مفيش غير إلهام..

مسرعة تفتح باب غرفتها بهدوء، ترقب الحركة داخل صالة المنزل، خشية أن يراها أحد .. بصوت خافض تنادي علي شقيقتها إلهام.. التي احتواها مقعد الصالون وغاصت بداخله، ترتدي بلوزة وجيبة سوداء، فتحت كتاباً تقرأه رغم أنها أنهت دراستها .. تستعين به لمرور الوقت المتثاقل والسكون الذي يخيم على المنزل، منذ وقوع الحادث، تمر الدقيقة كأنها دهر .. بعد أن أنهك التعب أمها من مراقبة ابنتها، فطلبت منها أن تظل بجوار حجرة أختها لمراقبتها حتى ترتاح قليلا وتعاود لتحل محلها..

ترامى إلى إلهام صوت أختها الكبرى هالة تناديها .. انتفضت مسرعة إلى أختها .. تدفع باب الغرفة الموارب لتقع عيناها على فستان زفاف شقيقتها يغطي سريرها، وقبل أن تفيق إلهام من صدمتها، وجدت هالة تطلب منها مساعدتها في لبس الفستان.

بتلقائية ردت إلهام كيف؟! .. أقصد دلوقتي؟! .. طب ليه؟!

نظرت إليها هالة نظرات لم تعلم إلهام مدلولها ..أجبرتها أن ترضخ لمساعدتها في ارتداء الفستان ..

حاولت إلهام أن تلقي على مسامع شقيقتها كلمات تجاملها، يمكن أن تهدئ من إصرارها وتثنيها عما هي مقبلة عليه، هيكون جميل عليكي أوي يا حبيبتي، لكن الوقت متأخر أوي، يجب أن تنامي ولو قليلا، فالساعة قاربت علي الثالثة صباحا .. وأول شيء نفعله في الصباح ارتداء الفستان ..

بتستهزئي بيا يا إلهام !!.. هو في عروسة بتتزف لعريسها الصبح.. كل العرايس بتتزف بالليل..

بسرعة جيبي الفستان محمود عريسي زمانه جاي.. ميعاد الزفة قرب..

لم يكن في وسع إلهام حل آخر، تنصاع لأختها خوفا من كسر خاطرها والشلل الذي أصاب عقلها منعها من التفكير ومعالجة الموقف، مدت يدها تمسك بأطراف الفستان، ترفعه إلي وجهها .. تخفي خلفه دموعها، لم تستطع أن تحتجزها من السقوط، أسرعت بتجفيف الدموع على صدر الفستان الأبيض، حتى لا تراها هالة في هذا الموقف، يلا بسرعة يا إلهام .. انتي بطيئة أوي..

أشاحت هالة بوجهها بعيدا متصنعة إصلاح هندام الفستان، تعدل من وضع الجيبونة، تربطها بإحكام على وسط شقيقتها، يسرح عقلها إلى لا شيء، تشرد بما هو آت بعد هذا الموقف العصيب الذي سيضعها في موقف لا تحسد عليه مع والدتها..

تفيق إلهام من شرودها على صوت هالة، هانذا جاهزة للبس الفستان.

التفتت إليها إلهام لتجدها تخلصت من عبائتها السوداء ولم يبق عليها إلا ملابسها الداخلية، بقايا الملابس المتبقية من طقوس الزفاف، وقد برز حسنها وانسدل شعرها الذهبي على ظهرها ويزين كتفيها، لم تجد مفرًا من رفع الفستان ووضعه على جسد شقيقتها وقلبها يتمزق ألمًا، وكأنها تضع على جسدها الغض جمرة من نار، تفكر فيما ستقوله لأمها إذا رأتها وهي تلبس هذه الخرقة البيضاء لأختها، وماذا يحدث لو لم تسمع هالة كلامها لكي تخلع الفستان عنها؟!

كيف سايرتها في فعلتها هذه .. كيف..كيف ..كيف؟!

فاض الكيل بها، أغلقت الأزرار الخلفية للفستان قائلة في نفسها: فليكن ما يكون، فقد توقف عقلي عن التفكير، وعميت بصيرتي عن الفهم، ولا أدري ماذا فعلت بأختي ذات الحظ العثر.

مدت إلهام يدها تضع لمسات أخيرة على الفستان، تجعله أكثر اتساعا، واندمجت مع جمال أختها في ثوب الزفاف، الذي أخذ عقلها، ونسيت ما هي فيه، وكأن أختها تستعد بالفعل لزفافها، منحنية تعدل حذاء شقيقتها الأبيض، تمسك قدميها وتضعهما في الحذاء، ترتسم على شفاه إلهام بسمة طارئة، فرحة بجمال شقيقتها في ثوب الزفاف.

وقفت إلهام فجأة وارتسمت على شفتيها ابتسامة واسعة أراحت إلهام عندما رأتها بعض الشيء.. إيه رأيك.. مش حلوة؟!.. فردت عليها إلهام زي القمر يا حبيبتي.. وشردت إلهام بتفكيرها وهي تنظر لأختها بفستانها الأبيض.. تفكر كيف تقنعها أن تخلع من عليها هذا الفستان.. وما العاقبة إذا لم تستطع ذلك.. ورأتها أمها على هذه الحال؟!

لم تفق من تفكيرها إلا على صوت أختها.. هيا بنا.. صعقت إلهام.. إلى أين؟!

محمود في انتظارنا..

فأدركت أنها يجب أن تحتوي الموقف حتى لا تخرج أختها من الحجرة ويستيقظ من في البيت..

فقالت إلهام لها.. مش المفروض إن العريس هو اللي يجي وياخد عروسته في إيده..

فردت عليها هالة.. لكنه لم يأت في المرة السابقة..

فردت عليها.. لا بد أن يأتي هذه المرة حد يشوف جمالك ويسيبه..

فتقول لها هالة.. أتظنين ذلك..

فتؤكد لها إلهام.. أكيد.. ورأت نظرات منكسرة في عين شقيقتها وهي تقول لها سننتظر لعله يأتي هذه المرة..

لم تستطع إلهام التحكم في دموعها فخرجت مسرعة متعللة لأختها سأتصل به في التليفون لأستعجله.. وما أن تخطت باب حجرة أختها وأغلقت الباب بإحكام خلفها حتى انفجرت عيناها بالدموع والألم يمزق أحشاءها على أختها فيخرج بآهات مسموعة لم تستطع منعها من الخروج.. بعد أن شقت صدرها على فرحة أختها التي لم يمهلها القدر من إتمامها.. لم يخرجها من نحيبها إلا يد حانية مذعورة تربت على كتفها.. ماذا حدث؟!

فالتفت مسرعة فإذا بوجه أمها وقد علت عليه علامات التساؤل.. فردت عليها إلهام.. لم أستطع منعها.. لم أستطع منعها.. كررت الأم سؤالها منزعجة ملتفتة إلى حجرة هالة.. هالة جرالها حاجة..

لم تنتظر الرد من إلهام.. أسرعت تجاه حجرة ابنتها وقد ضاع شحب وجهها وابيضت شفتاها، وانسحبت روحها.. أمسكت بمقبض باب الغرفة وكأنها أمسكت بجمرة من نار.

فتحت الأم باب الغرفة وكأنها تفتح باب قبرها فشهقت عندما رأت ابنتها عروسة بكامل زينتها مرتدية فستان زفافها، جالسة أمام مرآتها ممسكة بصورة عريسها محمود بين يديها تضمها إلى صدرها.

نظرت هالة إلى أمها، طأطأت رأسها خجلا من أمها وزادت حمرة الخجل على خديها.. نظرت الأم صامتة إلى ابنتها، ولم تفق إلا على كلام هالة، ما رأيك في فستان الفرح يا ماما جميل عليا أوي.

تململت الأم قليلا تسترد روحها التي هربت من جسدها، نظرت إلى إلهام نظرة عتاب على فعلتها، وأدركت ما كان يبكيها.

ردت إلهام حتى تخرج أمها من سؤال هالة.. زي القمر.. مفيش بعد كده حلاوة.. هل حضر محمود يا إلهام؟!

على وصول اتصلت بهم قالوا إنهم في الطريق إلى هنا.

لم تحتمل الأم رؤية ابنتها في ثوب الزفاف، فذرفت عيناها الدموع .

قالت هالة لها.. لماذا تبكي يا أمي؟!

ترد عليها إلهام: دموع الفرح يا عروسة.

تأخذ هالة يد أمها تحثها على الجلوس بجوارها على السرير: هيا يا أمي اجلسي بجواري.

قالت لها أمها: قدر الله نفد وإن شاء الله يعوضك أحسن منه يا بنتي، ومش أول واحد ولا آخر واحد في الدنيا.

ترد هالة متعجبة: من مين يا أمي؟

تزيد الأم من بكائها.. تتابع هالة: هو محمود مش هيجي المرة دي كمان ؟

تصمت الأم .. تضع وجه عروستها بين راحتيها.

تؤكد هالة لأمها والدموع تملأ عينيها : محمود بيحبني من زمان، ومكنش في حد بيحبه زي ما كنت بحبه، مش ممكن يتخلى عني!!

فكرت الأم في أن تغير مجرى الحديث عن مساره: إيه رأيك أنا جعانة أوي، نتعشى سوا الأول وربنا يقدم اللي فيه الخير.

ترد هالة نتعشى قبل ما يجي محمود ويتعشى معانا كعادته؟

ترد أمها وتأخذها في أحضانها: هنحضر الأكل وننتظره.. والتفتت إلى ابنتها الصغرى تغمز لها بطرف عينيها، مشيرة لها أن تعد بعض الطعام لأختها، ففهمت إلهام ما تقصده أمها من وضع بعض الأدوية المهدئة لهالة في الطعام.. فخرجت مسرعة إلي المطبخ، تاركة أمها مع هالة، تخفيها داخل أحضانها.

بصوت متهدج تحاول الأم أن تهدئ من روع ابنتها: حبيبتي الأمور متتاخدش كدا، وكل اللي يجيبه ربنا خير، وإحنا ناس مؤمنين بربنا وراضيين بقضائه، وكل واحد بياخد نصيبه المكتوب له، والبلاء اختبار من عند ربنا ليكي، وياما عرايس كتير أوي حصلت لعرسانهم حوادث ليلة دخلتهم، وربنا عوض عليهم، يعني لا إحنا أول ناس ولا آخر ناس يحصل معاهم كده..

ترد هالة على أمها منزعجة: يعني وكأنها تسمع كلام أمها لأول مرة، يعني إيه يا ماما محمود مش جاي النهاردة كمان، دا أنا لبست الفستان اللي هو مختاره معايا، وهو اللي أصر يدفع ثمنه، يعني أنا مش هقدر أكلمه تاني، لأ .. لازم يجي.. لازم يجي.. تنفجر عيناها بشلالات الدموع، لتغرق وجهها، تتساقط على خديها تختلط بكحل عينيها لتتحول إلى دموع سوداء، تحفر على خديها خطوط سوداء، تشق حمرتها، تسقط على صدر فستانها الأبيض تاركة بقعًا سوداء على صدر فستانها يحوله إلى لون الحداد.

تلقي هالة برأسها داخل صدر أمها، تدفنها في أحضانها، كأنها تهرب من مارد يملأ عليها حجرتها، تهرب من الانقلاب التي عكر عليها فرحتها وصفو مستقبلها.

تتمتم أمها بكلمات غير مفهومة مختلطة بنحيبها، تضمها أكثر في أحضانها، تربت على رأسها، تعدل من خصلات شعرها الهاربة على وجهها واختلطت بنهر الدموع السوداء، تدعو الله أن يحفظ ابنتها من كل سوء ويسبل على قلبها السلوان.

تقطع عليهم إلهام حالة الحزن مقبلة بالطعام، تحاول تغيير مجرى الحديث بينهما تمازحهما.. تطرد حالة السلبية التي عبأت غرفة شقيقتها قائلة: عاوزة أشوف طباخة في العالم بتعمل البيض بطريقة أحسن مني، أومال ..مش تعليم أختي الكبيرة حبيبتي.

تضع إلهام الطعام بجوار أمها وأختها علي السرير، بيد حانية تطبطب الأم على ظهر ابنتها تشجعها على تناول بعض الطعام، ليخرجها من حالة الهزال الذي أصابها بعد الحادث.

ترفض هالة .. تبكي أمها، أكثر من أن تكون قد تصنعت البكاء، ترفع هالة رأسها تنظر لأمها .. لماذا تبكين الآن.. أنت مش عاوزة تاكلي، وأنا مش هاكل أنا كمان.

تمد الأم يدها ببعض الأكل إلى فم هالة، تتمنع في البداية، تكتفي بقدر بسيط لم تمضغه ويسكن فمها، تنظر لوجه أمها الباكي، تبلع على مضض، أشاحت بوجهها عن أمها، تصر الأم على أن تكمل هالة طعامها، فتناولت قدرًا آخر من الطعام.

تمد أمها يدها للمرة الثالثة، فتلقي هالة بجسدها على السرير، لتبتعد عن إجبار أمها على تناول الطعام.

تجبرها أمها على الاعتدال ممسكة بكوب العصير، تأخذها على كتفها، وتضع كأس العصير على فمها وبالقوة تضعه في فمها، حتى تستطيع النوم بما يحويه العصير من دواء منوم، وتتركها أمها لتهوي على سريرها.

تناديها أمها ..هتنامي بالفستان يا هالة؟

لم ترد عليها هالة.. لم تحاول الأم أن تعدل جسد ابنتها الممدد على السرير، حتى تستقر في نومها.

بدأت هالة تشعر بثقل شديد في جسدها، بما تحمله من أحزان بداخلها، تعدل رأسها التي ثقلت ناظرة إلى أمها وأختها متمتمة بكلمات واهنة.. هو محمود لسه مجاش؟؟

لتغط بعدها هالة في النوم، إلهام وأمها واقفتان مكتوفتي الأيدي بجوار سريرها، تسأل إلهام أمها، إيه العمل دلوقتي، هتنام بالفستان ؟

لم ترد الأم، تمد يدها تسرع إلهام في مساعدتها، تعدلان الجسد الملئ بالأحزان على السرير، تنظر الأم إلى ابنتها ودموعها السوداء ما زالت تجري في خطوطها السوداء على خدود ابنتها، تحاول أن تمحوها من على وجه ابنتها، إلا أنها تلطخت خدود هالة بلون الحداد، لم تجد بدًا في منع جريان دموع ابنتها، فتمسح على رأسها، وتسحب غطاء السرير لتغطي فستانها الأبيض المطلخ بالدموع السوداء، لتترك الأم العنان لدموعها أن تسقط.. تسحب إلهام من يدها، تطفئ نور الحجرة وتغلق باب الأحزان على ابنتها..