محمد درويش يكتب: الإذاعة.. خيال

محمد درويش
محمد درويش

■ بقلم: محمد درويش

أمس الأول الأربعاء كان العيد التاسع والثمانون لميلاد الإذاعة المصرية، ما يقرب من تسعة عقود كان لها دورها التنويرى فى بث القيم والمثل العليا للمجتمع بل إنها ساهمت فى إحداث نقلة حضارية كبيرة منذ أن انطلقت عبارة «هنا القاهرة» فى الحادى والثلاثين من مايو عام ١٩٣٤.

كان ظهورها قد واكب اكتمال حالة التنوير التى عاشها مجتمعنا وبدأت إرهاصات هذا العصر مع بدايات القرن التاسع عشر، ووصلت لأوجها بعد أكثر من قرن ليجىء افتتاح الإذاعة تتويجاً لهذا العصر الذى عاشته مصر بانفتاح النخبة من أبنائها على حضارات دول البحر المتوسط الأوروبية، وما تحقق على أرضها من وجود جاليات أوروبية كانت لها إسهاماتها فى غرس قيم حضارية جديدة تؤهل أبناء مصر لاستيعاب ما هو مطلوب من شعب عليه أن يلحق بركب التطور والحضارة.

وربما كان أهم ما صنعته الإذاعة المصرية هو إطلاق الخيال خاصة عند مستمعيها من الأطفال، كان من حسن حظنا ونحن صغار أن الراديو كان الوسيلة الوحيدة للترفيه خاصة قبل أن نبلغ مرحلة تعلم القراءة لتكون مجلات الأطفال دورها التنويرى جنبًا إلى جنب مع ما  يبثه الراديو من مسلسلات وبرامج.

نعمنا بانطلاق الخيال بدون حدود  وكان لهذه الانطلاقة أثرها البالغ فى تشكيل الوجدان عقلياً وقلبياً وكنا نسرح من أصوات سواء من مذيعين أو ممثلين تم انتقاؤها بعناية وتحمل خلفيات ثقافية توافرت لمعظم أبناء عصر التنوير الذين كانوا يمثلون نخبة استند إليها الوطن فى معاركه من أجل البناء والتنمية.

ورغم كل ما وفرته وسائل الاتصال الحديثة من طفرة كبيرة سواء فيما يخص عالم الأطفال أو الكبار، إلا أنها- كما أرى- قد قيدت الخيال ولم يعد منطلقاً فى الطفولة كما انطلق فى أجيال سابقة. وما كانت تزرعه داخلنا الإذاعة كان خيالًا مثاليًا رائعًا تحكمه دائمًا فطرة الإنسان نحو الحق والعدل والجمال.

طبيعى أن تتقدم الإنسانية وتتعاظم حضارتها على أيدى أجيال جديدة من الشباب لهم أدواتهم الأحدث والأرقى التى تمكنهم من صقل مهاراتهم والإسهام فى التقدم الحضارى بالفكر والابتكار، ولكن يظل  للأجيال التى وضعت أسس هذا التقدم صاحبة الفضل رغم قصر أدواتها.

والآليات التى استندت إليها فى الاختراعات والابتكارات والدليل أننا مازلنا ننسب ابتكار الراديو إلى صاحبه ومخترع المصباح الكهربائى وغيرها وغيرها.. ولأن هذا هو الأساس الذى وضعه هؤلاء لم نعد ننسب أى ابتكار جديد إلى شخص بعينه، صار هؤلاء فى هذا البلد أو ذاك يعملون فى إطار جماعى للوصول إلى كل ما هو مفيد للإنسانية بل وقد يكون أحيانًا مدمرًا لها.

تنطلق الدنيا وتدور بنا الأيام ويظل الخيال الذى أصقلته الإذاعة فى حياتنا حتى اليوم حتى لو كان الذكاء الاصطناعى فى طريقه للسيطرة على مقدراتنا وأحلامنا التى يدعمها خيالنا.