«حيرة» .. قصة قصيرة للكاتبة أيار عبد الكريم

 أيار عبد الكريم
أيار عبد الكريم

عصفور صغير استهواه الزمن أن يهرب من نفسه حتى يتخلص من الوحدة وعذاب الرحيل، يبحث عن عصفور آخر حتى تنشأ بينهما نوع من الألفة؛ فالألفة تصنع الذكريات وتنمو بمحاذاتها. 
ظلّ العصفور الصغير يامِن يحلق في سماء بعيدة، ذلك الفضاء الكونيّ الذي لا حدود له وليس له منتهى للبصر، يطير بجناحيه الرقيقين مسرعاً كسرعة الضوء، من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنا و كأنه يبحث عن ضالته المفقودة التي ستصنع له حياةً جديدة.
ذات يوم من الأيام، و أثناء تحليقه كعادته، وجد عصفورة جميلة تطير بجانبه، لكنها بائسة حزينة، تبكي و تذرف عيناها دموعاً منهمرة، و البكاء يُعيقُها عن التّحليق بسلاسةٍ وحرّيةٍ.
اقترب يامن من العصفورة، أثاره الفضول لمعرفة سبب بكاء هذه الجميلة أو ربما فُتِن يامن الصغير بجمالها وبهائها، فهي ليست شبيهة بالعصافير التي تحلق بجانبه، فلونها الأصفر يجذب العين للنظر إليه،كما أنّ جناحيها مخططان باللون الأخضر الذي تحبه النفس وتميل إليه كونه؛ يشبه الطبيعة.
وجد يامن نفسه يحدثها قائلاً: ما اسمك؟ ماذا بك أيتها العصفورة صاحبة الألوان الزاهية الجميلة؟ ماالذي يدْفَعُكِ إلى الشعور بالحزن والجزع إلى درجة البكاء في سنك الصغيرة هكذا؟
قالت: اسمي جنة؛ فقدت أمي،أبي،أخوتي،وعُشّنا الصغير. كانت رياحاً قوية تلك التي هبت فجأة وأطاحت بهوائها كل ذكرياتي الجميلة، كل ما أملك. قلبي يعتصر ويتمزق من هول الفراق الغادر، تؤلمني هذه الكلمة، يؤلمني رحيل عائلتي.  تؤلمني الوحدة، لماذا لم تأخذني الرياح وتريح قلبي من ألم و أنين الفراق؟ حتى أجنحتي الصغيرة ينتابها ألم الفراق وكأن مذاقه المر قد أسكب عليها ناراً ولن يستطيع الرماد إخمادها أو إطفاءها.
من سيشعر بي غير أمي الحبيبة صفوة؟
من سيحميني من غدر الحياة و متاعبها سوى أبى جاسر؟
من سيؤويني غير عشنا الهاديء الصغير الذي ابتلعته الرياح وكأنها موجةٌ في بحرٍ ثائرٍ؟
أمي صفوة قالتها دوماً:( تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن). لم أُدرك معنى هذه المقولة التي كانت ترددها أمي الحنونة دائماً مع هبوب كل رياح ولو كانت خفيفة، كان أبي دائماً يقول لها ألا تفترض هذه التنبؤات المخيفة الساذجة، دائماً كان يصفها بأن إيمانها الضعيف هو من يصور لها تلك التنبؤات.
وأنا اليوم بعد فقدانهم جميعاً، أدركتُ جيداً مخاوف أمي من هذه المقولة، بتُ أكره الرياح والهواء، أكره حتى التحليق الذي هو بمساعدة ذلك الهواء الخبيث؛الذي حملته الرياح و أنهت كل حياتي و ذكرياتي، دعني و شأني أيها العصفور، دعني و شأني.
يامن: لا داعي للبكاء و القلق أيتها الجميلة العذبة، من اليوم و صاعداً، سأكون لك بديلاً عن عائلتك و ذكرياتك الجميلة. سنحيا سوياً عصفورين في هذا الفضاء الكوني الواسع؛ لن يفرقنا أحدا . بل وسيصل الأمر بنا إلى أن نطوف العالم كله بأجنحتنا الجميلة و كل ما عليك هو أن تشاوري بإصبعك الرقيق على العش الذي عشقته عيناك الجميلتان وترغبين أن يكون مأوى لك. و سوف أحقق لك حلمك الجميل كمارد المصباح السحري، و أقول لك " شبيك لبيك،  عشك الجميل بين إيديك"
تقهقه جنة الجميلة من الضحك، كانت المرة الأولى التي تضحك فيها جنة من أعماق قلبها بعد مدة طويلة من الحزن والألم المستمرين .
بدأ يامن و جنة الجولة الأولى لهما في التحليق كعصفورين متآلفين، يحلقان بأقصى سرعة و كأن كلا منهما يهرب من ذاته الحائرة. تأخذهما الرياح إلى أميال و مسافات بعيدة، حتى قررا الاستقرار على عش على إحدى الأشجار فى مكان هاديء يبعث على نفسيهما الحائرة الهدوء و التأمل النسبي.
لكنّ النوم تمكن من يامن و جنة، نام العصفوران في سباتٍ عميق و كأنهما لم يستغرقا في النوم منذ سنوات طويلة، فجنة قد جافاها النوم منذ رحيل العائلة كما أنّ يامن هو الآخر لم ينم منذ مدة طويلة.
 تشرق الشمس و يستيقظ العصفوران يامن و جنة، تبدأ زقزقتهما التي تشبه أنغام الكمان في بث السعادة على عشهما الصغير والعشش المجاورة لهما. 
كما يبدأ الشعور بالجوع يسيطر على جنة، فخوفها وبكاؤها هو الذي جعلها تمتنع عن الطعام لفترة طويلة. فالخوف والجوع متناقضان، تربطهما علاقة عكسية. 
يبدأ يامن في البحث عن طعام من الشجر و الأماكن المحيطة بهما، فقد أخذ على عاتقه تحمل مسؤولية جنة الجميلة. ووعدها أن يكون لها أباً حنوناً، وأخا شجاعاً سيحميها من الذئاب ومتاعب الحياة. 
تأكل جنة و يامن طعامهما،بعد الطعام تبدأ الجولة المعتادة للتحليق في السماء، و تبدأ معها مشاعر الانجذاب تسيطر على يامن الصغير، فهو لا يرفع عينيه من على جنة الجميلة طوال تحليقهما.
كل يوم تزداد مشاعر الانجذاب نحو جنة، حتى بدأ الحب يكبر في قلبه شيئاً فشيئاً.
حسناً إنه الحب الذي يأخذُنا إلى حيث لا نعلم، ولا نعرف تحديدا ماسببه أو المعادلة المسببة له حتى نجعله اختيارياً أو طواعيةً وفق مزاجنا و أهوائنا الشخصيّة!
ذات يوم وأثناء تحليقها، تصطدم جنة بأحد العصافير ، كان عصفوراً مشاغباً اسمه مازن، بدأ بمشاجرتها و كيف أنها تحلق وهي غير منتبهة لوجود عصافير أخرى؟
يتجه يامن مسرعاً نحو جنة، يتشاجر مع هذا العصفور الأبله كما ذمه، بدأ التشاجر يحتدم بين يامن وهذا العصفور غريب الأطوار، يقول يامن له: أنت من يتحتم عليه أن يُعير الانتباه إلى العصافير الأخرى وليست جنة، فالفضاء ليس ملكك وحدك أيها المغرور. 
ينظر مازن بضيق ويقول: حسناً، سأتركك هذه المرة فقط، لكن المرة القادمة لن تستطيع الإفلات مني، فأنا مازن سبَّاق العصافير في بلدتي،لن يستطيع أحد منافستي في التحليق أو مُبارزتي في النضال أو مُجاراتي في الحوار. 
تنظر جنة إليه بدهشة وتعجب ثم تقول له: انطلق أيها المازن المغرور، دعنا و شأننا. 
فيرمقها بعينيه الماكرتين قائلاً: حسناً أيتها الجميلة، اسمك على مسمى، جنة و أنت حقاً جنة.
تبتسم جنة ابتسامة صغيرة، و يبدو عليها الخجل.
تواصل جنة و يا من تحليقهما في الفضاء، و أصوات زقزقتهما تشبه أصوات السوبرانو الصاخبة، في جولة التحليق هذه تستعيد جنة الذكريات، ذكريات عائلتها و الحنين إلى حضنها الدافئ. ويستعيد يامن هو الآخر شريط حياته مع والده الذي علًّمه الشدة والصرامة في مواجهة الحياة، وأن الرفق واللين سمتا الضعفاء المقهورين.
لكنّ مازن كان لجنَّة بالمرصاد، كرقيب خفيّ لا يتوانى عن مراقبتها و ملاحظة خطواتها خطوة خطوة، كل يوم يقترب منها.  فهو يُدرك جيداً أن القرب منها هو الذي سيجعله يحظى بقلبها الصغير و يُوقِعُها في شباكه.  فهو يؤمن بأن البعيد عن العين بعيد عن القلب. 
وهو الآخر أحب جنة وانجذب لها بشدة، فهي لها من الملامح و الصفات الشخصية ما يجعلها عصفورة مميزة في نظري يامن و مازن على السواء.
مختلفة والاختلاف عامل ضروري في الانجذاب، كانجذاب المغناطيس للأقطاب المختلفة.  فالأقطاب المتشابهة تتنافر. 
لكنّ القلب له أحكام، وقلب جنة الذي عانى من الحرمان العاطفي والدفء العائلي جعلها تفكر في العصفور مازن. 
فهو لديه من الكلام المعسول، و الفكاهة والمرح ما يجعله محل انجذاب أيضاً لجنة، فالكلام المعسول بالنسبة لجنة كأنثى خصلة عشق.  فرغم رصانة يامن و مُسالَمتِه، و قدرته على التحليق والانتشار، و تحمل المسؤولية.  لم يستطعْ المسكين أن يحظى بقلب هذه العصفورة الفاتنة.  فصمته طبيعة فيه، 
ربما لأنه تربى مع أب بغير أم، و كانت تربية الأب له قاسية صارمة بعض الشيء. 
ولكنه أخطأ في تقديره للأمور حين توقع أنه من الممكن أن تحبه جنة. فهي أنثى هوائية. ومعاناتها منذ طفولتها قد فرضت عليها هذه الصفات غير المستقرة المتذبذبة.  هي تريد العاشق أولاً ثمّ تأتي العائلة فيما بعد.
لا تريد يامن الصامت الذي لايستطيع أن ينطق حرفاً واحداً، و لا يمتلك سوى النظرات و الفعل الذي يعبر به عن الحب.  الفعل الذي ورثه من أبيه العصفور " مهران" بعد وفاة أمه " سلوى"
بدأ يامن يخجل من نفسه ويدور حديث بينه وبين ذاته الحائرة: حسناً، هي لا تحبني.  كل مافي الأمر أنها خدعتني، اتخذتنى مجرد حماية لها حتى وجدت الحبيب المُنتظر الذي خفق قلبها له. 
بدأت الغيرة تشتعل في قلب يامن، و بدأت الرغبة في الانتقام من كليهما تسيطر عليه إلى حد الجنون. 
 ففكر في وضع خطة محكمة للتخلص من مازن. ثم بعد ذلك سيقرر الرحيل ويترك جنة تعاني ألم الوحدة والفراق هذه المرة إلى الأبد.  ويكون بذلك قد انتقم لكرامته وحبه.
اقترح يامن على مازن أن يتبارا في جولة تحليق كعادتهما اليومية، لكن هذه المرة بدون جنة، و حاول إقناعه بأن طبيعة جنة الأُنثويَّة ستُعيقُها عن التحليق لأميال بعيدة، ولن يستطيع كلاهما التحليق بسرعة و الوصول إلى المفاجأة الغريبة التي وعده إياها.
وافق مازن في التو، فهو الآخر مغرور و مندفع و يتباهى بذاته بأنه العصفور ذو الأجنحة الصاروخية، ولم يجعله غروره يفكر ولو  لحظة أنه فخ من يامن للإيقاع به،  كان شغله الشاغل في السباق و المفاجأة التي وعده بها عند الفوز.
أتمّ يامن خطته بالفعل، وبدأ الاثنان سباقهما في صباح اليوم التالي باكراً قبل استيقاظ جنة. 
بدأ السباق والتحليق، و كلما حلقا، كلما أخذتهما الرياح أميالاً و أميالاً حتى وجدا ذواتهما قد ابتعدا بشكل مريب عن جنة و مكانهما المعهود. 
لكنّ هذا كان غرض يامن، التخلص من مازن ثم الهروب، وترك جنة تعاني الوحدة ولكن  هذه المرة إلى الأبد. 
تحوّل الحب في قلبه إلى رغبة في الثأروالانتقام،  و طالما أنه لن يحظى بحب جنة، فلن يجعلها تعيش حياة هادئة مستقرة مع عصفور غيره. 
أهكذا تتبدل القلوب في لحظة؟ أم أن انكسار قلب يامن و جُرحُه العميق هو الذى يُثبِت حقاً أنّ من الحب ماقتل!
استيقظت جنة، ولم تجد يامن أو المحبوب مازن، أحسّت وكأنّ أجنحتها مُقيَّدة من خوفها وقلقها.  فقد شعُرتْ كونها محبوبة بخطر داهم يترقب حياتها.
بدأت تُحلَّق رويداً رويداً، تُحاول أن ترسم من خطوط سيرهما في السماء، خارطةً للطريق الوَعِر الذى حلقا به، لكن دون جدوى.  ظلت تبكي وتبكي حتى وجدت نفسها حائرة هي الأخرى ولا تستطيع العودة إلى عشها الصغير أو البحث عن يامن و مازن. 
فهل ستستطيع العصافير الثلاثة البحث عن ذواتهما الحائرة؟
أم ستُفقَد بين طيّات النسيان؟"