إيهاب بسيسو يكتب: أمل دنقل أو المجدل «كلمات سبارتكوس الأخيرة» 

أمل دنقل
أمل دنقل

يشكل أمل دنقل حالة فريدة فى المشهد الشعرى العربي، فهذا «الجنوبي» الذى التحم مع الريح كما الفرسان الأسطوريين وروَّضها جاعلاً من حروف اللغة والكنايات الشعرية متاريس ضد الهزيمة والانكسار، حقق حضوراً خاصاً فى الحياة الثقافية المصرية والعربية، وحياة متوهجة بالمعنى والقدرة على الانتصار للحرية والعدالة رغم كل التحديات ومساحات الضباب الثقيل.

ولعل حياة أمل دنقل القصيرة (١٩٤٠- ١٩٨٣) ومعاناته فى سنواته الأخيرة مع مرض السرطان، لم تمنع الشاعر من أن يحلق خارج الفضاء الجسدى المطوق بالمرض وخارج حدود الزمن والوقت، ليصبح أمل دنقل بإبداعه الفكرة الرافضة للمساومة، السابحة عبر الأزمنة فى قوة العبارة الخارجة بعنفوان من صدور البسطاء، والمنطلقة بكل صلابة الأمل الذى لا يلين مهما توالت الضغوطات وضاق الأفق.

اقرأ ايضاً| بحضور وزيرة الثقافة.. إعلان الفائزين بجوائز الدولة غدا


إن تأمل هذه الحياة الثرية لأحد أبرز شعراء المناعة الوطنية المصرية والعربية ضد الاستعمار يحيلنا إلى قراءة التاريخ الثقافى المعاصر وحالة المجتمع الثقافى والسياسى بمزيد من الاهتمام، خصوصاً فى ظل التحولات السياسية المتصلة والمتواصلة التأثير فى مفردات اللحظة السياسية والاجتماعية والثقافية الراهنة ... هذا ما تعكسه حياة الشاعر الشخصية، خلال مرورها بالعديد من المحطات السياسية البارزة فى التاريخ المصرى والعربى المعاصر.


فمع أحداث نكبة عام ١٩٤٨ وانطلاق الثورة المصرية المعاصرة فى عام ١٩٥٢ والمقاومة المصرية الباسلة ضد العدوان الثلاثى فى عام ١٩٥٦، كان الطفل والفتى فى حياة أمل دنقل يجمع مفردات معجمه اللغوى الخاص ويشكل ملامح رؤيته الوطنية الشاملة، مستفيداً من إرث الأب والعائلة الثقافى والذى شكل المرحلة الأساسية والضرورية لصقل ملامح أمل دنقل فى فترة التكوين .


ومع هزيمة ١٩٦٧ وانطلاق مرحلة حرب الاستنزاف البطولية التى خاضتها القوات المصرية المسلحة فى السنوات التى تلت الهزيمة والتى مهدت لانتصار أكتوبر المجيد فى عام ١٩٧٣ كان الشاب فى حياة أمل دنقل قد خرج من شرنقة التكوين ليجسد خلال فترة السبعينيات أحد أبرز ملامح الحركة الشعرية العربية المعاصرة.


فلسطينياً يعد أمل دنقل - وبكل تأكيد - أحد أبرز الشعراء المصريين والعرب الحاضرين بكثافة فى المشهد الثقافى الفلسطينى على مدار العقود الماضية، ورغم رحيله المفجع قبل أربعين عاماً إلا أن قصائد أمل دنقل ما زالت تشكل وبكل حيوية وتوهج مرجعاً وطنياً وأدبياً فى شعر المقاومة، وأدب المقاومة بمفهومه الانسانى الشامل.


هكذا رأيناه نحن أبناء جيل الانتفاضة الشعبية الفلسطينية فى عام ١٩٨٧ والذين كنا ومازلنا نستند إلى قوة العبارة الشعرية وبلاغتها فى قصائد أمل دنقل لشحن الوقت بالإصرار الممتزج بالكبرياء، وهكذا انتقلت كلمات أمل دنقل جيلاً بعد جيل فى فلسطين المحتلة، كما لو أنها كلمات تعويذة وطنية شعرية تحصن الذات بمزيد من الصلابة والبلاغة الوطنية.


إن ملامح أمل دنقل الانسان، لا تقل توهجاً فى الذاكرة عن ملامح أمل دنقل الشاعر العبقرى المميز، ولعل فى حياته اليومية وإصراره على مكافحة اللا عدل ما يجعل من ملامح الشاعر الحياتية امتداداً لوهج الحياة الشعرية بين الكلمات.


هذه الشهادة من فلسطين، بمثابة تلويحة محبة وتقدير للجنوبى العملاق، الذى لن تخبو ذكراه فى تفاصيل الحياة اليومية الفلسطينية.