كنوز| حكايات الصيف فى «عشة» أمير صاحبة الجلالة لها طعم تاني

محمد التابعى 
محمد التابعى 

 يجب على كل منتمٍ لبلاط صاحبة الجلالة الصحافة أن يشاركنا الاحتفال بالشمعة 127 لميلاد أميرها المُتوج، وما دمنا نضىء لروحه الشموع وحرارة الصيف قد هجمت علينا، فاللحظة تجعلنا نستدعى ما كتبه عن «عشته «برأس البر التى كان يقضى بها شهور الصيف مع أصدقائه من الكتاب والفنانين، إذ لم يكن مسافراً لقضاء الصيف خارج مصر، وبسبب ظروف الحرب قضى «الأمير» صيف 1940 فى عشته برأس البر، فتعالوا لنرى ما يرويه لنا عن تلك الظروف . 

يقول الأستاذ التابعى فى مقاله: «قامت الحرب وأقبل صيف 1940 والطرق الى أوروبا مسدودة أمام المصريين الذين اعتادوا تقضية فصل الصيف على ضفاف بحيرات إيطاليا وسويسرا ومصايف جبال الألب وشواطئ الريفييرا والنور ماندى، واضطر هؤلاء 

اقرأ أيضًا| اسماعيل يس.. رأي صادم في ممثلي الكوميديا

 إلى أن يقنعوا راضين أو كارهين برمل الإسكندرية وبورسعيد وبور فؤاد، لكن غارات طائرات المحور بدأت تزلزل الإسكندرية وبورسعيد وقواعد الجيش البريطانى على امتداد قناة السويس، فلجأ المصيفون الى مصيف رأس البر الهادئ الآمن الذى ليس فيه أهداف عسكرية وليس فيه ما يساوى ثمن قنبلة واحدة، ولأول مرة عرف مصيف رأس البر الإقبال والزحام، ولأول مرة سمعت شوارع رأس البر ألقاب أصحاب المقام الرفيع والدولة والمعالى والجلالة والسمو، فصاحبة الجلالة ملكة مصر السابقة «نازلى» وبناتها يقمن فى فندق «كريستال» على الضفة الشرقية للنيل، والنحاس باشا وأسرته يقيمون فى فندق «كورتيل»، وصاحبا الدولة إسماعيل صدقى باشا وعبد الفتاح يحيى باشا يقيمان فى فندق «مارين فؤاد»، ومعالى مكرم عبيد باشا يقيم بفندق «كورتيل» بالقرب من صديقه النحاس باشا».

ويستطرد قائلا: «كانت لى عشة صغيرة على شاطئ البحر مباشرة، وأنا من هواة رأس البر من قبل قيام الحرب، كانت عشتى الصغيرة أشبه بدار ضيافةٍ للأصدقاء الذين كانوا يقيمون معى ويؤنسون وحدتى، كنت أترك رأس البر الى القاهرة لعملٍ ما ثم أعود بعد يومين فأجد صديقاً أو صديقين قد حضرا واحتلا غرفة نومى، وكان نزلاء العشة يجتمعون فى هيئة «لجنة طوارئ»، يبحثون لى عن «كنبة» أو مقعد طويل يضعونه فى حجرة الطعام لأنام عليه، أو يجرون قرعة بينى وبين الصديقين اللذين احتلا حجرتى وفراشى، مع أن العشة كانت مكونة من ثلاث حجرات للنوم وفى كل حجرة سريران، وأريكتان بقاعة الطعام ومثلهما فى الشرفة المطلة على البحر، كنا عشرة وكان العدد يرتفع فى عطلات الأسبوع الى خمسة عشر، عدا الأصدقاء الذين كانوا يقيمون فى الفنادق ويفدون على العشة للزيارة أو تمضية السهرة، وكنا نسميهم «أعضاء شرف» ومنهم: «أم كلثوم ويوسف وهبى وروزاليوسف ونجيب الريحانى وإستيفان روستى والدكتور سعيد عبده وعلى يوسف الشريعى وأحمد الألفى عطية وآخرين»، أما الأعضاء الذين كانوا يقيمون فى العشة فكان منهم: «سليمان نجيب وتوفيق الحكيم وكامل الشناوى وأحمد الصاوى محمد وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الوهاب ومصطفى أمين «، وفى شهر رمضان كان بيننا من يصوم ومن لا يصوم، والوحيد الذى كان يصوم ويؤدى فروض الصلاة هو سليمان نجيب، لكنه كان فى يومى السبت والأحد يتصل بالتليفون بمكاتب المراهنات بالإسكندرية ليملى رهانه فى سباق الخيل ثم يجلس فى المساء الى جانب التليفون ينتظر النتيجة، وسخر جمال جبر ذات مرة متسائلا عن كيفية الجمع بين الصلاة وصيام رمضان والمراهنات، احمر وجه سليمان غضباً ونفرت عروق جبهته، وفتح فمه ليسب ويلعن لكنه يتذكر أنه صائم، فكان يقول» اللهم إنى صائم يا ابن «.... » بعد أذان المغرب ها أتفاهم معاك يا ابن ستين «... »!

ويستطرد الأستاذ محمد التابعى بأسلوبه الرشيق قائلا: «كان طاهى العشة الأسطى أحمد لا ينسى أن يرسل فى الصباح الباكر الى صديقنا توفيق الحكيم فصين من الثوم النيء ليتناولهما على الريق، ويمضغهما جيدا وهو يتلمظ ويمصمص شفتيه ويقول إن فص الثوم على الريق يقى من واحد وأربعين مرضا منها: الروماتيزم وتصلب الشرايين واليرقان وذات الرئة أو الدرن وتجلط الدم، الى آخره...، أما صديقنا الصاوى فكان ينصحنا دائما بالإقلال من طعام العشاء قائلا: «اقلل طعامك تحصد منامك»، وكان يعزف عن تناول اللحوم الحمراء فى العشاء ويكتفى بطبق البسطرمة المقلية بالسمن مع ست بيضات، وكان يسمى هذا طعاماً خفيفاً يحصد معه المنام، أما سليمان نجيب فكان يحضر من القاهرة برطماناً مملوءًا بالشطة والفلفل الأحمر، وكان يضع طبق الشطة أمامه ويرش منه على الحساء والأرز والملوخية وأى نوع من الخضراوات المطبوخة، وكانت أم كلثوم تضحك وتقول له وهو ينثر الشطة بسخاء على طعامه: «والله لو تشرب الشطة بالملعقة، برضه ما فيش فايدة»، والذين يفهمون النكتة كانوا يضحكون، أما توفيق الحكيم فكان دائماً يسأل «يعنى إيه.. عاوزة تقولى إيه .. مفيش فايدة فى إيه ؟»!

كانت أم كلثوم تقيم فى عشة فى جنوب المصيف، تجلس على الشاطئ تحت مظلة وفى يدها كتاب، وكنا نحييها ونجلس على الرمال حولها، وبعد أن توزع نكاتها علينا، كانت تسألنى: «طابخين عندكم إيه النهاردة؟» فكنت أحيلها على سليمان نجيب الذى يهتم بالمطبخ وما يجرى فيه، وكان يشترك مع الأسطى أحمد فى إعداد الطعام، وكان البط على الطريقة الدمياطية والأوز بالملوخية والرقاق، وورق العنب والكوارع واللحم والحمام من أهم الأطباق المفضلة عند أم كلثوم، فإذا تصادف وجود أحد هذه الأطباق كانت تقول «اعملوا حسابى، جاية اتعشى النهاردة معاكم»، وكانت تسخر من الذين يأكلون بشهية، والذين يأكلون بدون شهية، كنا نتحدث عن الحرب والسياسة الداخلية، ونتناول سيرة أحد المصطافين أو المصطافات، فتصرخ أم كلثوم «أعوذ بالله من لسانكم اللى زى المبرد» ومع ذلك تشترك بنصيب الأسد فى الحديث، وفجأة تخفت الأصوات وتسكت تماما عندما تبدأ أم كلثوم «تدندن» كأنها تتحدانا أن نستمر فى حديثنا إذا استطعنا، ويعلو النغم قليلاً ويرتفع، ثم ينطلق قويا ويجلجل، وتتوه عيناها فقد نسيت كل ما حولها وهى تغنى لنفسها، وأدور بعينى على الحاضرين، أحمد الألفى عطية أطبق بأسنانه على راحتيه يعض فيها لكى يحبس فى حلقه صرخات الإعجاب، وإذا انفرجت أسنانه نسمع حشرجة «آه يا خرابى.. يا خرابى يانى»، أما سليمان نجيب فيشد فى شعر رأسه ثم يركل بعصبية، وهنا يتراجع توفيق الحكيم بمقعده الى الوراء فقد أصيب بإحدى «رفصات» سليمان نجيب، ويهز «الحكيم» رأسه ويمصمص شفتيه، والصاوى أحمر العينين يغالب النعاس فقد كان يسهر فى عمله الصحفى الى الصباح، وكان فى تلك الأيام لا يطيق السهر بعد العاشرة مساء.

وإذا ما انتهت أم كلثوم من الغناء نسمع دوى التصفيق خارج العشة، فنخرج الى الشرفة لنجد عشراتٍ من سكان العشش المجاورة الذين أقبلوا على غناء أم كلثوم وقد افترشوا الرمال التى تفصل بين العشة ومياه البحر، ويستأذن الصاوى منسحباً الى غرفة نومه، ونجلس نحن على الشرفة لنمضى السهرة فى الحديث، وكم سمعنا وكم روينا فى هذه السهرات، من أم كلثوم وصفحاتٍ من تاريخ كفاحها المضنى فى دنيا الغناء، ويروى لنا محمد عبد الوهاب يوم كاد أن يفقد صوته وكان عمره عشرة أعوام، ويحدثنا يوسف وهبى عن مغامراته أيام الشباب فى إيطاليا، ويروى لنا أحمد الصاوى جولاته وغزواته فى باريس، وكيف كان توفيق الحكيم يسير على غير هدى فى شوارع الحى اللاتينى الضيقة، وجلوسه فى مقهى أو فى بار قديم ليستوحى من «الجو» المحيط به قصة ما، وفى هذه العشة كتب الصاوى قصته «الشيطان لعبته امرأة»، وعلى نفس الشرفة وُلدت فى رأس «الحكيم» نظرية التعادلية وكان يحدثنا فيها وهو لا يدرى على وجه التحديد فى أى موضوع يتحدث فقد كانت المولود شيئا لا ذات له ولا كيان ولا اسم يُعرف به بين الأسماء، وكان لابد لصديقنا أن ينتظر اثنتى عشرة سنة قبل أن يعثر على الذات والكيان والاسم، وينفض عن المولود لفائف الغموض والإبهام! 

ولحكايات ليالى الصيف فى «عشة» التابعى بقية وبقية. 

محمد التابعى 

من صفحة «أمير الصحافة»