عندما كان اللواء عبد المنعم معوض مشرفاً على مجلة «الشرطة» حمل أوراقه وذهب ليجرى حواراً مع أول امرأة تدخل بلاط صاحبة الجلالة الصحافة وتثبت ذاتها ككاتبة وصحفية وناشطة حقوقية تتبنى بقلمها الدفاع عن قضايا المرأة، إنها الكاتبة الكبيرة أمينة السعيد التى انضمت وهى فى الرابعة عشرة إلى الاتحاد النسائى، وكانت ضمن أول دفعة طالبات يلتحقن بجامعة القاهرة عام 1931، عملت بمجلة «آخر ساعة» وهى بالسنة الثانية بكلية الآداب بتشجيعٍ من مصطفى أمين، وعملت بعد تخرجها بمجلة «المصور» عام 1935، نالت شهرتها من خلال زاوية «اسألونى»، وكانت أول سيدة تتولى رئاسة تحرير مجلة «حواء» التى صدر عددها الأول عام 1954 وكان توزيعها يتخطى 175٫000 نسخة، وقد أسند إليها رئاسة مجلس إدارة مؤسسة «دار الهلال» العريقة.
تعالوا لنرى كيف دار الحوار الذى قالت خلاله إنها كانت أول فتاة تعمل فى مهنة الصحافة، وأوضحت أن «روزاليوسف» كانت صاحبة جريدة ولم تكن تكتب أو تعمل فى الصحافة، وقالت: «أما أنا فدخلت الصحافة من أول السلم وكان راتبى ثلاثة جنيهات وعندما وصل إلى ستة جنيهات طردنى «اميل زيدان» صاحب دار الهلال ظناً منه أننى أكتب موضوعات سطحية، بينما كنت أعتقد أننى كاتبة عظيمة، أرسل لى خطاباً يقول فيه: «إنتاجك الضئيل لا يتناسب مع مرتبك الكبير»، أحسست بصَفَعَة على وجهى، وكنت فى هذا الوقت مخطوبة لزوجى الدكتور عبد الله، الذى وقف فى صف «اميل زيدان» وقال لى إن الجامعة لا تثقف ولكنها تفتح أبواب الثقافة وإذا أردت أن أتثقف يجب أن أقرأ وقدم لى هدية عبارة عن «دائرة المعارف» فى كل آداب العالم.
اقرأ أيضًا| بعد خروجه من السجن .. كلمات مؤثرة لمصطفى أمين
■ سألتها عن رصيد ذكريات الطفولة ؟
- عايشت وأنا طفلة غليان ثورة 19 فأنا وُلدت بأسيوط ومولدى كان بالصعيد لأن والدى الدكتور أحمد السعيد قرر أن يبتعد عن القاهرة بعد تخرجه فى مدرسة الطب ليبدأ حياته ويصنع اسمه وشهرته فى أسيوط، وكان من زعماء الثورة لأنه كان من رجال الحزب الوطنى البارزين واتهمه الإنجليز بأنه يحرض الشعب ضدهم واعتقلوه فى القاهرة، وفجأة غاب والدنا عنا، وبعد أربعة أشهر من الثورة تركنا أسيوط وانتقلنا مع أبى إلى القاهرة، واستأجر والدى «عوامة» على النيل أقمنا فيها خمسة أشهر ثم رجعنا بعدها إلى أسيوط وقابل أهل أسيوط والدى على إنه بطل ومن اعتزازهم به أطلقوا اسمه على شارع كبير كان يحمل اسم «العدلية»، وبعدها عاد أبى بنا إلى القاهرة لكى يلحقنى مع أخوتى بمدارس أجنبية، التحقت بمدرسة الحلمية للبنات التى كانت تدرس كل المواد باللغة الإنجليزية، ورسبت فى أول عام دراسى فى كل المواد، بينما أختى الكبيرة كريمة وأختى عزيزة أنهتا دراساتهما التى تشابه الثانوية العامة فى نفس المدرسة !
■ غريبة.. وما سر رسوبك فى كل المواد ؟
- كنت شقية جداً، ألعب ولا أهتم بالمذاكرة، وأتذكر أن أحد المدرسين أغضبنى فى الفصل، أحسست أنه ظلمنى فجلست طول الحصة أفكر فى رد الظلم، وفوجئ المدرس عندما كان يغادر الفصل بلكمة من يد صغيرة فى ظهره، نظر خلفه وكنت قد أطلقت قدمىّ للريح خوفاً من أن يضربنى، وأتذكر مدرساً آخر ضربنى ذات يوم فأردت الانتقام لنفسى عندما أحضرت ماء وسكبته على مقعده ولم يفطن للمقلب وجلس فوق الماء وانفجر الفصل فى الضحك، وما أكثر الشكاوى التى كانت تصل إلى والديّ منى!
■ هذا عن مرحلة المدرسة، فماذا عن مرحلة الجامعة ؟
- كنت أول طالبة تلتحق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، وكان هذا فى حد ذاته مغامرة كبيرة جداً، كان يحاضر لنا فى القسم أساتذة من لندن، ولم يكن بالقسم إلا سبع طالبات وأنا وكانوا يغيظوننى بأن هذا القسم هو قسم «سبعة ونص»، وكان يطلق وقتها على أحد الأحزاب حزب «السبعة والنص» نظراً لأن رئيس الحزب كان قصيراً جداً !
■ سمعت أن لكِ ذكريات كثيرة مع الكاتب مصطفى أمين فى الجامعة ؟
- مصطفى أمين كان طالباً بكلية الحقوق وحدثت واقعة غريبة جداً عندما فوجئ أثناء وجوده فى المحاضرة بطالب يصرخ بأعلى صوته «الحقوا.. فضيحة فى الجامعة»، ترك مصطفى أمين المحاضرة ليشاهد الفضيحة المزعومة، من صغره والخبر الصحفى فى دمه، شاهدنى وأنا ألعب التنس بملعب الكلية ولم أكن أرتدى الملابس الخاصة بلاعبات التنس، كنت أرتدى فستاناً طويلاً إلا أن وجود طالبة تلعب التنس كان بمثابة العار، وكتب مصطفى أمين القصة فى أحد كتبه، وكان والدى يشجعنا على ممارسة الرياضة، والزميل مصطفى أمين هو الذى أدخلنى عالم الصحافة وأنا بالسنة الثانية بكلية الآداب، ظل يقنعنى بأن أعمل صحفية فى مجلة «آخر ساعة» مع الأستاذ محمد التابعى، ولم يكن بالمجلة سوى الأستاذ محمد التابعى ومصطفى أمين والرسام صاروخان وأنا، وكان الدكتور قاسم فرحات وهو من طلبة كلية الصيدلة يفهم فى الحساب فكان يقوم بدور المحاسب بالمجلة.
■ وما هى المهام التى كلفكِ بها مصطفى أمين للعمل كصحفية ؟
- طلب منى أن أعمل مخبرة صحفية، فكنت أحصل له على الأخبار التى أراها وأسمعها وكان يتحقق منها، وذات مرة طلب منى أن أتوجه إلى «سان ستيفانو» بالإسكندرية لوجود حمام كان يُطلق عليه فى ذلك الوقت «حمام السيدات»، وكان لا يدخله إلا سيدات المجتمع، طلب أن أدون كل ما يدور على ألسنتهن، ذهبت إلى هناك وجلست أستمع إليهن ثم كتبت ما سمعته وأرسلته الى مجلة «آخر ساعة» ونشر الموضوع، وإذا بالدنيا تنقلب رأساً على عقبٍ فى كل مصر بسبب ما نُشر وحمدت الله أننى لم أوقع على الموضوع، وقرأت فى الصحف أن وزارة الوفد مصممة على إغلاق المجلة واجتمع مجلس الوزراء ليقرر ذلك لأن المجلة نشرت أسراراً عائلية! وظل مصطفى أمين يطمئننى إلى أنهم على استعدادٍ لإغلاق المجلة دون أن يذكروا اسمى، كانت تجربة قاسية أنقذنى منها على أيوب المحامى الذى كان من أعز أصدقاء والدى، وكان من رجال الوفد البارزين، وقد عرفت وزارة الوفد أننى من كتبت الموضوع، ومرت الأزمة التى جعلتنى أتوقع القبض عَليّ فى كل لحظة !
■ هل تعرضتِ لمشاكل مهنية أخرى؟
- هناك واقعه لا أنساها، لأننى لم أكن قرأت قانون النشر وكتبت موضوعاً أنتقد فيه المحاكم الشرعية وجميع أحكامها، وفوجئت بعد النشر بطلب مقدم لوزير الداخلية للقبض عَليّ لأننى تعديت على القانون وعلى الأحكام والمحاكم، وأنقذنى من هذه الورطة مرة أخرى المحامى على أيوب الذى أنذرنى بأنه لن يدافع عنى أو يقف بجوارى ونصحنى بالتروى فيما أكتب وضرورة أن أكون على علم ودراسة بقوانين النشر والصحافة والسب والقذف ومعرفة حدود النقد المباح وغير المباح وإلا سوف أعُرض نفسى لدخول السجن !
عبد المنعم معوض
مجلة «الشرطة» - أغسطس ١٩٨٣