الحرب الإعلامية بين روسيا وأوكرانيا.. استخدام وسائل غير نزيهة ولا تخضع لمواثيق الشرف المهني

الحرب الإعلامية بين روسيا وأوكرانيا
الحرب الإعلامية بين روسيا وأوكرانيا

يقدمه: أيمن موسى

قد يعتقد البعض بمتابعة وقائع الحرب الشرسة بين روسيا وأوكرانيا أن ساحة المواجهة تقتصر على الأسلحة والقوات والعمليات العسكرية المختلفة، ولكن بإمعان النظر فى الأحداث سيتضح أن ساحة المواجهة الإعلامية ربما تبدو أكثر شراسة من ساحة القتال المسلح، والجانبان فى هذه الساحة يستخدمان شتى أنواع الوسائل والأساليب التى لا يمكن وصف أى منها بالنزيه أو الشريف، بل إن هذه المواجهات لا تخضع لأى نوع من مواثيق الشرف المهنى.

البعض يرى أن هذا النوع من التناحر قد بدأ مع بداية المواجهات العسكرية المباشرة، ولكن المتخصصين يدركون جيدا أن الحروب التقليدية غالبا ما يسبقها تمهيد إعلامى وربما مواجهات إعلامية لتهيئة الرأى العام سواء المحلى أو الدولى لتقبل مواقف طرف ضد طرف، أو على الأقل الحد من رد الفعل الرافض والمدين للطرف الغازي.

تشويه روسيا

وكانت روسيا قد تعرضت منذ تفكك الاتحاد السوفيتى السابق وربما من قبله لحملات ممنهجة من العالم الغربى سواء لتشويه صورتها.

ومن يتابع لقاءات الرئيس فلاديمير بوتين مع زعماء الدول الغربية منذ توليه السلطة فى روسيا فى نهاية العقد الأول من القرن الحالى سيلاحظ عنصرا مشتركا وثابتا فى أحاديثه معهم، وهو أنه كان يلفت النظر عما يجرى الترويج له من صورة مشوهة عن روسيا ليس فقط فى الإعلام الغربى بل وفى العالم أجمع.

وقامت روسيا قبل ستة عشر عاما بإنشاء مؤسسة إعلامية جديدة تتيح لها مخاطبة العالم بمختلف لغاته هى مؤسسة اروسيا اليومب، وقد لعبت هذه المؤسسة ــــ التى يتعدى عدد متابعيها فى أكثر من مائة دولة من دول العالم أكثر من 700 مليون انسان من ١٠٠ دولة ــــ أدوارا رئيسية سواء على مستوى تحسين صورة روسيا وإظهار الوجه الذى ترغب فى الظهور به أمام العالم أو إفضاح التحركات المختلفة التى يقوم بها الغرب فى العالم أو حتى على مستوى الرد على استفزازات الغرب تجاهها أو تجاه الدول الشريكة والحليفة لروسيا، وهو الأمر الذى زاد من حنق الغرب على هذه المؤسسة والذى اعترف بأنها انتصرت عليه فى المعركة الإعلامية، مما دفع الكثير من دول الغرب إما لطرد مراسلى المؤسسة منها أو حتى اتخاذ إجراءات متشددة تجاه مكاتبها إلى حد الإغلاق التام .

والغريب فى هذا الأمر هو أن كافة مآخذ الغرب على مؤسسة روسيا اليوم هى ذاتها وأكثر التى كانت روسيا من قبل تتهم الغرب بها من حيث التدخل فى الشأن الداخلى إلى حد التدخل فى حركة الانتخابات والتأثير على الرأى العام وزعزعة الاستقرار الداخلى وغيره من الأضرار التى قد يستخدم الإعلام لإحداثها فى المجتمعات.

وعندما بدأت المواجهات العسكرية المباشرة بين روسيا وأوكرانيا فى عام 2014 ووصولها للذروة فى فبراير من عام 2022 كان الإعلام بمثابة الجبهة الثانية للصراع الذى ربما يفوق فى شراسته المواجهات العسكرية، وكان من الواضح فى هذه الجبهة أن الصراع يدور بين روسيا منفردة فى جانب وأوكرانيا والغرب والولايات المتحدة وشركائهم وحلفائهم من جانب آخر.

خصائص الصراع

ونلاحظ فى الصراع الإعلامى بين الجانبين أن كلاً منهما يستخدم ذات الوسائل والأساليب، فعندما بدأت روسيا عمليتها العسكرية فى أوكرانيا حرصت على التمهيد لذلك بربطه بمبرر رئيسى وهو تخليص أوكرانيا من الطابع النازى والعسكرى وإنقاذ سكان دونباص من التصفية التى تمارسها السلطات الأوكرانية ضدهم، وقبل ذلك كانت وسائل الإعلام الأوكرانية تصف روسيا فى الحديث عنها بالنازية والعنصرية وكراهية الغير واضطهاد الأقليات والطمع فى أراضى وثروات الغير، وهو ما يوضح أن الجانبين يستخدمان ذات الألفاظ والاتهامات كل تجاه الآخر.

الشيء الآخر الذى يستند إليه الصراع الإعلامى بين الجانبين هو تخليص الجبهة الداخلية من اأصحاب الصوت الآخرب.

وقد كانت أهم أدوات الصراع الإعلامى محاولة التقليل من شأن الخصم وقدراته والأفضل التشكيك فى كيانه بصفة عامة، وهو ما تابعناه منذ اللحظات الأولى للعملية العسكرية حيث حاولت روسيا التأكيد على أن أوكرانيا هى دولة مصطنعة وأن أراضيها جانب منها هو أراضٍ مسلوبة سواء من روسيا أو من دول مجاورة، وهنا نلاحظ أن الحديث عن مزاعم الدول الأخرى فى جانب من أراضى أوكرانيا الهدف منه هو كسر مساندة الدول المجاورة لهذا البلد والتمليح بما قد يجنونه فى حال سحب هذه المساندة.

وقد يعتقد البعض أن روسيا لجأت لهذا الأسلوب حديثا ولكن المتابع سوف يكتشف أن الرئيس بوتين خلال لقائه مع الرئيس الأمريكى بوش فى أبريل 2008 أعرب عن دهشته من الحديث عن أوكرانيا كدولة حيث أشار له قائلا اعن أية دولة تتحدثب هذا البلد عبارة عن أراض من أوروبا الشرقية والباقى هو أراضٍ منهوبة من روسياب.

التشكيك فى كيان الدولة من أساسه لم يقتصر على روسيا حيث استخدمت أوكرانيا ذات الأسلوب عندما استحدثت قانونا يحظر استخدام اسم روسيا واستبداله باسم اموسكوفياب، وربما لم يستوعب الكثيرون وقتها المغزى من ذلك ولكن بالعودة للتاريخ سوف نجد أن الدولتين قبل القرن الثانى عشر، وربما بعده بعدة قرون، لم يكن لهما وجود وكانت هناك دولة كبيرة تسمى اروسب وعاصمتها كييف، وعندما غزا المغول هذه الدولة قضوا عليها بشكل تام ولم يعد لها وجود، حيث تركزت فيما بعد قبائل ومجموعات فى أماكن مختلفة وأهمها منطقة بجوار موسكو حاليا، وأطلق عليها اسم موسكوفيا قبل أحداث تاريخية ليست مجالنا فى الوقت الراهن لتقوم على إثرها دولة جديدة تسمى روسيا، أما أوكرانيا فقد نشأت بعد ذلك بقرون وسنوات طويلة .

كسب المتعاطفين

السمة الأخرى فى الصراع هو العمل على استقطاب أكبر عدد ممكن من المؤيدين على مستوى الرأى العام والجماهيرى فى العالم، وهنا سوف نلاحظ اختلافا بيّنا فى الجمهور المستهدف ولغة الخطاب، فالواضح أن أوكرانيا تستهدف فى الأساس جمهور الدول التى يمكنها تقديم المساعدات وهى أوروبا والولايات المتحدة والدول الأنجلو سكسونية، وإن كان هناك اختلاف كبير حيث لا تحتاج أوكرانيا فى مخاطبة هذا الجمهورى لمجهود كبير نظرا لأن حكومات هذه الدول لا تألو جهدا فى تشويه صورة روسيا، وغالبية وسائل الإعلام بها مهيأة ضد روسيا إلى جانب التجارب التاريخية لشعوب هذه الدول خلال الحربين الأولى والثانية.

فى نفس الوقت حققت روسيا نجاحا كبيرا جدا فى اكتساب تعاطف عدد أكبر بكثير من الجمهور فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وربما جانب غير بسيط من الدول الأوروبية ذلك عن طريق التركيز على مخططات كان الغرب يضمرها تجاهها ويستخدم أوكرانيا فى تنفيذها وإظهار أن ما يعانيه العالم من مشاكل وبصفة خاصة فى مجال الغذاء ليست روسيا السبب فيه، ولكنه الغرب وأوكرانيا اللذان يؤثران على حركة النقل والتجارة، بل وفضح استئثار الغرب بما يجرى إخراجه من أوكرانيا من حبوب فى إطار صفقة الحبوب التى تشرف عليها الأمم المتحدة، وأخيرا إظهار أن روسيا ليس لها أطماع فى أراضى الغير، لأن لديها مساحات شاسعة من الأراضى وتمتلك أكبر ثروات طبيعية فى العالم وأن تدخلها لم يكن سوى لإنقاذ الأبرياء المسالمين.

فى نفس الوقت يبرز دور الثقافة والفن فى هذا النوع من الصراع، حيث نشطت روسيا بشكل كبير فى مجال تنظيم المهرجانات والمناسبات الثقافية لتظهر أن الحياة الطبيعية تسير بها بشكل طبيعى وكأنه لا توجد حرب فى الأساس، وفى نفس الوقت نشطت فى مجال إيفاد الفرق الثقافية والفنية إلى مختلف دول العالم وتنظيم المعارض الفنية لتذكير العالم بما تمثله روسيا كمركز للإشعاع الثقافى والفنى والحضارى، كما قامت بمضاعفة عدد المنح الدراسية المجانية لأبناء الدول الأفريقية، ناهيك عن تنظيم المؤتمرات والندوات ودعوة أكبر عدد ممكن من ممثلى الدول المساندة لها للمشاركة فيها.

من جانبها كانت أوكرانيا تعتمد فى الأساس على جالياتها فى الخارج إلى جانب الملايين من الشعب الأوكرانى الذين نزحوا إلى الدول الأوروبية، بمن فى ذلك فنانون حيث قاموا بإنتاج الأفلام الفنية والتسجيلية وتنظيم الحفلات للتذكير بوجود شعب تم تشريده من دياره والتأكيد على صورة روسيا كدولة معتدية وسالبة لأراضى الغير.

سلاح التشهير

كان للتشهير بقيادة الدول دور بارز فى الحملات الإعلامية لكل طرف حيث ركزت الحملات الإعلامية الروسية على إظهار أن الرئيس الأوكرانى مجرد ابهلوانب نظرا لأنه قبل خوضه السباق الانتخابى فى بلاده كان يعمل فى مجال التمثيل الكوميدى، وحاولت الإمعان فى التشكيك من قدراته عن طريق إظهار أنه ضعيف وأنه غائب عن الوعى معظم الوقت نظرا لتعاطيه المخدرات وأنه لا يتحرك إلا بأوامر من أسياده فى الغرب.

أما الدعاية الأوكرانية والغربية فقد قامت على أساس التركيز على أن بوتين هو رجل مخابرات سابق ولا يعرف سوى التنكيل والوحشية فى التعامل مع الآخرين، وأنه لا يكتفى بالتنكيل بأصحاب الرأى الحر فى بلاده وكل من يتبنى رأيا مخالفا له، بل إنه أيضا لا يتردد فى التنكيل بأية دولة مجاورة تحاول أن تكون لها شخصية وسياسة مستقلة.

فى الوقت الذى يحاول الغرب إظهار أن الرئيس الأوكرانى يتحرك بحرية حيث يقوم بزيارات خارجية ويستقبل الضيوف من الخارج، بينما الرئيس الروسى يعانى العزلة نجد أن الرئيس الروسى ينجح من وقت إلى آخر فى كسر هذا التصور من خلال التنقل بين دول الكومنولث والدول الشريكة لبلاده ويستقبل أكبر عدد ممكن من قيادات الدول الأخرى لتأكيد أن ما يتصوره الغرب من أنه نجح فى فرض طوق عزلة حوله ليس سوى ضرب من الوهم.

الأمر الواقع

فى إطار المناوشات بين الجانبين على المسار الإعلامى سنجد أن روسيا قطعت شوطا كبيرا وناجحا فى مجال استقطاب الرأى العام من خلال محاول طرح سيناريوهات وسبل التسوية الممكنة للنزاع، فالواضح أن روسيا اختارت مبرراتها للحرب بشكل احترافى بما يعطيها الفرصة لفتح الحدود الزمنية والمكانية لمسرح العمليات وبالتالى الحديث عن نهاية الحرب لا يعتمد فقط على وقف العمليات القتالية وإنما سيكون مجرد بداية لطرح شروط يجب على الجانب الآخر تقبلها، فى نفس الوقت سعت روسيا ومن البداية إلى ربط كافة تحركاتها بالاعتبارات الإنسانية وبالتالى فالحديث عن رد الأراضى سيعنى مهلك الملايين من سكان هذه الأراضي.

الجانب الآخر لا يضع أى تصور لنهاية الأحداث إلا برد الأراضي، وفى نفس الوقت لا تتوفر لديه القدرات الكافية لتحقيق هذا الهدف وما يقوم به يبدو أمام الرأى العام ليس سوى إطالة أمد الحرب ليتحقق أغراضا تخص الغرب فقط وهى إنهاك روسيا.

لذلك نجد أن هناك محاولات تظهر فى وسائل الإعلام من وقت لآخر تقوم على أساس ضجر العالم من هذا الصراع وتقبل مبدأ الأمر الواقع كنهاية ولو مؤقتة للصراع القائم، ولكن لكي يتحقق ذلك ربما تكون العملية المثيرة للجدل التى استهدفت الكرملين مؤخرا هى أولى حلقات التمهيد لهذا الواقع المؤقت اطويل الأجلب.

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 10/5/2023

اقرأ أيضًا : روسيا تبحث مع دول "بريكس" ومنظمة شنغهاي التعاون في مشاريع بالقطب الشمالي