الدكتور زين عبد الهادي يكتب: أحلامي الصغيرة

 الدكتور زين عبد الهادي
 الدكتور زين عبد الهادي

أحلامي التي ظلت صغيرة في عيون أبي.. حين أخبرتني أمي ذات صباح.

وكنت بالسرير أرقب آخر مشهد في أحلامي الصغيرة.. أن أبي أصبح خلف القضبان، وأن الطعام قد فرغ

وكانت القذائف تلملم غيام المدينة..

والناس

والعربات

والدموع والألم

قال لى سنونو عابر في صيف نادر

انهض فقد أصبحت رجل،

لم أكن سعيدا بأن أبدأ رحلتى مع السجائر في العاشرة

وأن أتمتع باستنشاق رائحة زيت العربات أو أن أسير دون حذاء.

اقرأ أيضا: الشاعر أحمد حسن عمر يكتب.. جرجس أفندي

لكني عرفت أن تشقق جلد كعب القدم يحمى من أمراض الرفاهية وقذف الحصى.

على السلالم البالية المضيئة أقفز دون عناء .. طفل لا يعرف أن الحروب تقتل

الرجال..

وأحلام الأطفال..

واللعب..

الشارع الخال من المارة، نفس المشهد في نيويورك في الثالثة فجرا والأضواء تفتك بالليل..

أتدفأ في بهو الفندق أتابع حياة كنت أقول عنها زائفة،

أتذكر ماكينة (سنجر) وهى تدق الملابس القديمة ورقع الأقمشة والأفئدة

سائق السيارة يطلب عشرين وقبل نهاية الطريق توقف وقال مائة وعند الوصول وضع سكينا في جانبي وطلب مئتان..

كنت أظن أن ذلك غير مزيف.. وأن الحياة الحقيقية تمتلئ بالدم والقتل إلى أن يأتى هرقل بعد أن يصرع الأسود

والأمساخ

وبقية الآلهة

لينقذ الجميع

لكن كما يبدو كنت على خطأ!!

خلف القضبان الساكنة المنتصبة كالرماح تحذر السجين من الهرب والأهل من الأمل

أبي في ملابسه الزرقاء ووجهه المعدني الخال من الشفقة والتعب يلاحظ طولى ولا يشير بشئ

صديقتى التي لاتكف عن الغواية حين تساءلت هل عرف أبي الغواية؟

وحين أقبل المساء وقد أشعلت سيجارتي الأولى في الشوارع التى لا تنتهى من التثاؤب .. المصابة بالصمم

كل البيوت والحوانيت والملاعب مغلقة .. حتى الحانوتي الوحيد سأم الموت رغم موسمه المزدهر

لم تغفر أمي لأبي أبدا حبه لقطرات المطر رغم أنه حين مات أشفقن عليه وبكين كثيرا ..

قال لي الطبيب أن الحب تتذكره أغشية القلب وأن قلبي سليم إلا من بعض الهزات

في الليالي التى نغفر فيها لكل شئ عدم وجود الطعام .. تضع أمى وعاء الماء الساخن وبعض الملح وثمرة طماطم فاسدة وأنفاسها

نأكل وننام

نحن الذين أمهلهم الرب آلاف الأعوام .. دون فائدة ولكن آلاف الكهنة لم يصلحوا لنا جوربا ولا حذاء وقالوا أيضا أننا يوما سنصعد للسماء..

حين أدارت حبيبتى ظهرها العاري لاحظت للمرة الأولى أنها بلا فقرات عظمية .. كم كان ذلك جميلا ومثيرا..

وحين ألقت بي حبيبتي  في حمام السباحة في قارة أخرى ذات شتاء .. عرفت أن الحب يمكنه أن يكون باردا بشكل جيد تماما مثل ما نأكله في الحروب من طعام

تقول التوراة أننا سنعيش في ظلام ثلاثة أيام .. لكن!!

طلب أبي علبة سجائره وبعض القرنفل لأسنانه وقلما وأوراق .. مددت يدي بما تحمل .. وكنت أرى ابتسامته للمرة الأولى..

قبلة حبيبتى أطارت فراشات صمتى وقت الظهيرة .، وقال الطبيب انه يمكننى التحمل بضع سنوات..

حين مات أبي بعد خروجه بأيام، لم أجد قطعة حجر أكتب اسمه عليها .. كنت أريد أن أكتب "هنا مات جزء من الوطن"..

حين عدت لأمى بعد سنوات وجدتها في السرير وبجوارها صورة أبي..

وصورتى وعمري عامان ممسكا بلعبتى التى فقدتها في الحرب ..

وبجوارنا كتاب أبي الذي لم يعرف الطريق للنور .. ولا للوطن