حوار كاتب نوبل الياباني عن الفن والتعافى

كنزابورو أوى
كنزابورو أوى

أجرى هذا الحوار بمركز الدراسات اليابانية ومركز تاونسند للعلوم الإنسانية، جامعة كاليفورنيا، ١٩٩٩ وهو يكشف تفاصيل مهمة من كاتب نوبل الياباني.. وهذا نص الحوار:

أين ولدت ونشأت؟

ولدت عام 1935 فى جزيرة صغيرة من الأرخبيل الياباني. بدأت الحرب بين الولايات المتحدة واليابان وأنا فى السادسة، وفى العاشرة، شهدتُ انتهاء الحرب. لذا، يمكن القول إننى قضيتُ طفولتى فى زمن الحرب.

هل كنت أول كاتب من عائلتك؟

هذه مسألة معقدة للغاية. عاشت عائلتى فى تلك الجزيرة لمائتى عام أو أكثر. ظهر الكثير من الصحفيين بين أجدادي. إذا أرادوا نشر كتاباتهم، أعتقد أنهم كان من الممكن أن يصيروا الكتاب الأوائل. لكن لسوء الحظ، أو لحسن الحظ، لم ينشروا، لذا فأنا أول مَن نشر مؤلفاته من بينهم؛ كانت والدتى تقول دومًا "أنتم يا رجال عائلتنا تكتبون الشيء ذاته".

اقرأ ايضاً| أبو الحسن الجمال يكتب: الانتصار بين محمد علي والسادات

صرَّحتَ فى مقابلة بأن: «محاولة التذكُر وفعل الإبداع يتداخلان، وهذا هو السبب فى أننى بدأتُ كتابة الروايات»،نعم. وإن جاز لى أن أضيف شيئًا: أبدأ كتابتى بنهج التخيُل، على أرض الخيال، وأواصل فى سبيلى نحو الخيال.

ما الكتب التى قرأتها عندما كنت شابا؟

لم أقرأ كتبا كثيرة قبل بلوغى التاسعة من عمري. كنت مفتونًا بحكايات جدتي. كانت تتحدث عن كل شيء تقريبًا عن عائلتى ومنطقتى؛ كان ذلك كافيا بالنسبة لي. لم أشعر باحتياج إلى أى كتب فى ذلك الوقت.

 

 

لكن ذات يوم، دار نقاش بين جدتى ووالدتي. استيقظت والدتى فى وقت مبكر جدًا من الصباح، وعبأت كيلوجرامًا من الأرز وذهبت إلى المدينة الصغيرة فى جزيرتنا، عبر الغابة. عادت فى وقت متأخر جدًا من الليل وأعطت أختى دمية صغيرة، وقدمت بعض الكعك لأخى الأصغر، وأخرجت كتابين من حقيبتها.

مجلدين. لم أكن أعرف اسم مارك توين، أو توم سوير أو هاكلبيرى فين، لكن حينها دار بينى أنا وأمى أول حديث عن الأدب، والأخير تقريباً. قالت: "هذه أفضل رواية لطفل أو لبالغ.

وهكذا قال والدك". حدث ذلك قبل وفاة والدى بعام. "أحضرتُ لك هذا الكتاب، لكن المرأة التى قايضته بالأرز قالت: احذري. المؤلف أمريكي. مازالت الحرب بين الولايات المتحدة واليابان مستمرة. سينتزع المعلم الكتاب من ابنك. إذا سأله المعلم من هو المؤلف، عليه أن يجيب بأن مارك توين هو اسم مستعار لكاتب ألماني".

قرأتَ أيضًا، وفقًا لخطاب تسلم جائزة نوبل، كتابًا بعنوان "مغامرات نيلز المدهشة"،نعم، كتاب من تأليف سلمى لاجرلوف، وهى مؤلفة سويدية شهيرة، كتبته لأطفال السويد لدراسة أطلس بلادهم.

بطل هذا الكتاب يسافر عبر البلاد على ظهر أوزة صغيرة. كانا كتابين عزيزين عليّ فى طفولتى وواصلت قراءتهما مرارًا وتكرارًا. مازلت أحفظ كل كلمة من هذين الكتابين تقريبًا.

 

وذكرتَ أن سطرًا  على وجه الخصوص مثَّل لك الكثير. حين يعود بطل القصة إلى بلدته، ويقول: "صرتُ إنسانًا من جديد"، نعم، صار البطل صبيًا صغيرًا جدًا بفعل تعويذة سحرية ولم يصدق إمكانية أن يعود لحجمه الطبيعى مرة أخرى.

ولكن حين يعود إلى بيته، يتسرب إلى المطبخ. يجده والده. ثم تظهر بداخل البطل عاطفة إنسانية طيبة للغاية. حينها ينمو بشكل طبيعى حتى يصل إلى حجمه العادي. ثم يصرخ، "يا أمي، صرتُ إنسانًا من جديد".

أطلقتَ على نفسك لقب كاتب من الأطراف. فى إشارة إلى أصولك، ولكنك تعنى أكثر من ذلك. فما الذى تعنيه بقولك "أنا كاتب من الأطراف"، لقد ولدت فى جزيرة صغيرة، واليابان نفسها على أطراف آسيا. هذا مهم. يرى زملاؤنا البارزون أن اليابان هى مركز آسيا.

ويؤمنون سرًا أن اليابان هى مركز العالم. أقول دائمًا أنى كاتب من الأطراف – من مقاطعة طرفيَّة، من اليابان على طرف آسيا، وهى دولة على حافة هذا الكوكب. بكل فخر أقول هذا.

يجب كتابة الأدب من الأطراف باتجاه المركز، ويمكننا انتقاد المركز. عقيدتنا أو موضوعاتنا أو خيالنا، ما يخص الإنسان على الأطراف. الإنسان الموجود فى المركز ليس لديه ما يكتبه. من الطرف، يمكننا كتابة قصة الإنسان ويمكن لهذه القصة أن تُعبر عن إنسانية المركز، هذا أهم ما أؤمن به.

وفى كتابك "عائلة متعافية"، تقتبس من حديث فلانيرى أوكونور عن عادة الكاتب، الممارسة التراكمية. حدثنا عن هذا الاقتباس؟

بدايةً، كلمة عادة ليست فى صالح الفنان. ولذلك يجب استخدام كلمة "عادة" بالضبط وفقًا لما عَنَته فلانيرى أوكونور. ولقد تلقت هذه الكلمة من معلمها جاك ماريتين، فى برينستون. ولدت فلانيرى أوكونور فى عام 1935، وبعد فترة وجيزة من الحرب أجرت حوارات بالمراسلة مع معلمها، وكان يتحدث عن فكرة توماس أكويناس، الذى حظى بمكانة هامة لدى جاك ماريتين.

ما قصدته أوكونور أنى عندما أكتُبُ كل يوم لمدة عشر أو ثلاثين عامًا، تتشكل فى نفسى طبيعة الكاتب بالتدريج. لا أستطيع ان أكون واعيا لذلك أو لا يمكننى أن أعيشه بدون وعي. لكن على أى حال، لدى عادة أن أُولَدُ من جديد ككاتب.

ولذلك إذا وجدتُ نفسى فى أزمة لم أختبرها من قبل، فيمكن أن أُولَدُ من جديد، بأن أكتب شيئًا، بقوة العادة. حتى الجندى أو الفلاح أو الصياد يمكن أن يُولد من جديد بقوة العادة عندما يواجه أكبر أزمات حياته.

ونحن البشر نولد ونولد من جديد، وإذا خَلقنا عاداتنا كبشر، فأعتقد أننا نستطيع مواجهة أقسى الأزمات حتى تلك التى لم نختبرها من قبل. لا بد أن تلك هى فكرة فلانيرى أوكونور، وأنا تلميذٌ لفلانيرى أوكونور.

 

 

وكانت ولادة ابنك نقطة محورية فى سبيل اكتشاف صوتك ككاتب. لقد كتبتَ: "منذ خمسة وعشرين عامًا، وُلد ابنى الأول مصابًا بتلف فى الدماغ. كانت هذه كارثة، على أقل تقدير. ولكن بصفتى كاتبًا، عليَّ الاعتراف بحقيقة أن الموضوع الرئيس لكثيرٍ من أعمالى هى الطريقة التى تمكنت بها عائلتى من العيش مع هذا الطفل ذو الإعاقة.

نعم بالضبط. كتبتُ هذا فى الثامنة والعشرين من عمري، وُلد ابني. وفى الثامنة والعشرين من عمرى كنتُ كاتبًا مشهورًا إلى حد ما على الساحة اليابانية وطالبًا أدرُس الأدب الفرنسي. كنت أتحدث بصوت جان بول سارتر أو موريس ميرلو بونتي.

وكنت دائم الحديث عن كل ما يتعلق بعملي. لكن عندما وُلد ابنى مصابًا بضرر بالغ فى دماغه، بدأتُ ذات ليلة أبحثُ عن شيء يرفع معنوياتي، فقرأتُ كتابى - كانت تلك هى المرة الأولى التى أقرأ فيها كتابي، الكتاب الوحيد الذى كنتُ قد كتبته حتى ذلك التاريخ - واكتشفتُ بعد أيام قليلة أن قراءة كتابى لم تقدم لى الدعم والتشجيع؛ ورأيتُ أنى بالطبع لا يمكننى تشجيع أحد من خلال عملي. لذلك قلتُ لنفسي، "أنا لا شيء وكتابتى لا شيء".

أصبتُ باكتئاب حاد. ثم طلب منى صحفى لمجلة سياسية فى اليابان السفر إلى هيروشيما، المكان الذى ألقيت فيه القنبلة الذرية، حيث عُقِدت فى ذلك العام اجتماعات حركة السلام المناهضة للقنبلة الذرية.

وفى تلك الاجتماعات نشبت معارك كبرى بين المجموعة الصينية والمجموعة الروسية ، وكنت الصحفى المستقل الوحيد هناك. لذلك انتقدتُ كلاهما،ووجدت مستشفى الناجين من هيروشيما وهناك التقيتُ بالطبيب العظيم فوميو شيجيتو. أثناء محادثاتى معه ومع المرضى فى المستشفى، اكتشفتُ تدريجيًا شيئًا شجعني، فأردتُ أن أتبع هذا الإحساس بأن هناك شيئًا ما.

ولذلك عدت إلى طوكيو وذهبت إلى المستشفى حيث كان ابني، المولود الجديد، وتحدثتُ إلى الأطباء حول إنقاذ ابني. ثم بدأت فى الكتابة عن هيروشيما، وكانت هذه نقطة تحول فى حياتي. ولادة جديدة لي.

ما رأيته دفعك بطريقة ما إلى اتجاه مختلف فى التعامل مع مأساتك الشخصية؟

نعم. قال لى شيجيتو، "لا يمكننا مساعدة الناجين. حتى اليوم لا نعرف شيئًا عن طبيعة مرضهم. وحتى اليوم، بعد مُضى زمن على وقوع القصف، لا نعرف شيئًا، لكننا فعلنا ما نستطيع فعله. حوالى ألف شخص كانوا يموتون يوميًا. لكنى واصلتُ عملى وسط الجثث.

كينزابورو، ماذا يمكننى أن أفعل غير ذلك، حين يحتاجون إلى مساعدتنا؟ ابنك بحاجة إليك الآن. لا أحد على هذا الكوكب يحتاجك بقدر احتياج ابنك لك". ثم أدركتُ. عدت إلى طوكيو وبدأت أساعدُ ابنى ونفسى وزوجتي.

كتبت روايتك "هموم شخصية" عن ولادة ابنك ذو الإعاقة، وجمعت كتاباتك عن هيروشيما فى "ملاحظات هيروشيما"، الذى ذكرتَ فيه: "عندما تلاحق كارثة القنبلة الذرية خيال أطباء هيروشيما، فإنهم يحاولون أن يروا بشكل أعمق وأكثر وضوحًا الجحيم الذى وقعوا فيه هم أيضًا.

وهذا القلق المزدوج بشأن النفس والآخرين يحمل أذىً بالغ؛ لكنه يضيف إلى الصدق والأصالة بداخلنا." هل تقول إن رؤية هذه الإزدواجية فى الطبيب، ساعدتك فى إدراك مدى تعقيد معضلة بيرد، بطل روايتك؟

نعم. حتى ذلك الحين، كانت التيمة التى تشغلنى فى الكتابة بسيطة، وهى ازدواجية أو غموض البشر. هذا المفهوم جاء من الوجودية فى فرنسا. أعتقد أننى اكتشفت الإزدواجية الحقيقية وكيف يمكننى أن أكون "أصيلًا". لكن لا يجب تجميد كلمة "أصالة" فى حالتي.

استخدمتُ كلمة جان بول سارتر فى السابق، واليوم سأستخدم كلمة أخرى. الأمر بسيط. أردت أن أقف مستويًا وبصلابة. كما وصف الشاعر الإيرلندى ييتس فى قصيدته «الشاب الواقف منتصب القامة». هذا النوع من الشباب الذى أردت أن أكونه، لكن حينها استخدمت كلمة «أصيل»،وكتب ليونيل تريلينج أن الاعتراف بمشاعرك هو أحد أشجع الأمور التى يمكن للكاتب فعلها وأكثرها قيمة. هذا ما فعلتَه فى "هموم شخصية".

نعم. أردتُ ذلك. حينها لم أفكر فى قيمة أن أكون رجلاً صلبًا ومنتصب القامة. شعرت أننى يجب أن أكتب عن نفسي. سألتُ، ولم لا؟ شعرتُ أنى إذا لم أفعل فلن أولد من جديد ولن يولد ابنى من جديد. لذلك عندما كنت بجوار البحر، قررت أن على إنقاذ نفسى وإنقاذ ابني. لذلك كتبت هذا الكتاب، على ما أعتقد، وصار ابنك ملحنًا. شكلَّت رعاية عائلتك - زوجتك وأبنائك وأنت – له قدرته على التواصل. أخبِرنا كيف استطعتم فعل ذلك.

وحتى بلغ ابنى من العمر أربع أو خمس سنوات، لم يكن قادرًا على التواصل معنا. ظننا أنه لن يتكون لديه أى إحساس بالعائلة. بدا منعزلًا جدًا، كحصاةٍ فى العشب. لكن ذات يوم، أبدى اهتمامًا بصوت الطيور فى الراديو، فاشتريت اسطوانات لأصوات الطيور البرية فى اليابان.

وسجلتُ له خمسين عينة من نداءات الطيور. سمع نداءات الطير وصوت محايد، مذيعة تقول أسماء الطيور. "تادا دا، هذا عندليب"، " تادا دا، عصفور". استمعنا لهذا الشريط باستمرار لمدة ثلاث سنوات. خلال تلك السنوات الثلاث، وأثناء استماعه لأغانى العصافير، كان ابنى هادئًا جدًا. وكانت هناك حاجة لجعله هادئًا. كى تؤدى زوجتى عملها، وأتابع عملي. لذا، عاش ثلاثتنا مع أصوات الطيور.

وفى الصيف حين بلغ السادسة، ذهبنا إلى منزلنا الجَبَليّ، خرجتُ للغابة حاملًا ابنى على كتفي. بالقرب من بحيرة صغيرة، غنى طائر. فجأة نطق بصوت واضح وصافٍ: إنه مِرعة ماء، وهو نوع الطائر. ارتجفتُ. كان الصمت مطبِق فى الغابة.

صمتنا لخمس دقائق وصليتُ من أجل شيء ما، يحلق فوق رأسي. صليت، «صوت آخر لذلك الطائر، تعليق آخر من ابني، إذا لم يكن ذلك شبحًا أو حلماً» ثم بعد خمس دقائق غنت وليفة الطائر. فقال ابنى «إنه مِرعة ماء». ثم عدت إلى منزلى مع ابنى وتحدثت إلى زوجتى.

انتظرنا صوتًا آخر، ولفترة طويلة، لكن لم يصدر أى صوت أثناء الليل. لم ننَم. وفى الصباح الباكر، حَطَّ عصفور صغير على شجرة أمام نافذتنا. أصدر صوتًا خفيفًا، فقال ابني، "إنه عصفور". ثم بدأ كل شيء، وشغلنا تسجيل لصوت طائر، فاستجاب ابني.

سجلنا اسطوانات عديدة من أصوات للطيور، حتى طيور الولايات المتحدة وأوروبا. كان تعليق ابنى هادئًا وصحيحًا جدًا بعد أن يسمع اسم طائر مرتين أو ثلاث مرات. بدأنا نتواصل بالكلمات.

وبعدها، بدأنا التواصل، وقُبِلَ ابنى فى مدرسة لذوى الإعاقات الذهنية، ثم رأى بعض المعلمين أنهم لا يستطيعون الاعتناء به. يذيعون موسيقى هاندل وباخ عبر إذاعات FM. بدأ ابنى يستمع إلى الموسيقى. بعد اهتمامه بالموسيقى، نسى فجأة جميع أسماء أصوات الطيور.

وحين بلغ السادسة عشرة من عمره، تعرض لنوبة مرض شديدة وفقد بصر كلتا عينيه. صار يستطيع أن يرى بكل عين على حِدة، ولكن لا يمكنه الرؤية بكليهما. عجز عن رؤية البيانو أو النوتة الموسيقية. لذلك بدأ تدوين بطريقة النوتة الفائتة وهذا أمر غير مريح بالنسبة له.

وتخلى عن البيانو وعلمته والدته كتابة الموسيقي. خلال خمسة أسابيع، بدأ فى كتابة موسيقى باخ بقلم رصاص. فى البداية، كانت موسيقى بسيطة للغاية. فى غضون عام بدأ تأليف موسيقاه الخاصة بنفسه، وقدحقق ابنك أحلام نيلز، ركوب أجنحة الطيور أو أصوات الطيور فى حالته، ونعم، بالإضافة إلى التعلم من الطيور، مثل نيلز، يمكن لابنى أن يقول، "نعم، أنا إنسان." حين أرى اسطوانات ابني، أقول لنفسى أنا أيضًا "أنا إنسان".

وفى "عائلة متعافية"، كتبتَ أن موسيقى ابنك قد أرشدتك إلى وجود "قوة شفاء، قوة لإصلاح القلب" فى فعل تعبيره عن نفسه، ثم واصلتَ "خلال إبداعنا للموسيقى أو الأدب، رُغم أوقات اليأس التى نمر بها - تلك الليالى المُقبِضة للروح التى نمر بها جميعًا – نكتشف أنه من خلال التعبير عنها بحقيقتها.

ويمكن أن نشفى ونعرف متعة التعافي؛ ومن خلال تلك التجارب الُمتصلة من الألم والتعافى التى تضاف إحداها إلى الأخرى، طبقة فوق طبقة، لا يتم إثراء عمل الفنان فحسب، بل ومشاركة منفعته مع الآخرين".

وبعد كتابة هذا المقال، تلقيتُ العديد من الأسئلة. وقال النقاد "لقد أصبح أُوى محافظًا جدًا الآن. هادئ جدًا؛ يقول، إن موسيقى ابنه شَفَته ويمكن أن يُشفى هو ذاته باسطوانة موسيقى. هذا أمر سلبى للغاية ورجعي". يجب أن أجيب على ذلك.

لا نقول "أنا شُفِيتُ" فى اليابانية. يجب استخدام فعل "الشفاء" بصيغة البناء للمعلوم. أنا "أَشفي" نفسي. لكن الإنسان يُشفى بشيء. هذا فِعل بشرى إيجابى للغاية. عندما أستمع إلى موسيقى ابني، لا أرى فى الأمر أى فعل سلبى أو مبنى لآخر.

وأشعر أننى أفعل شيئًا إيجابيًا مع ابني. نحن ننظر فى الاتجاه ذاته. لذا، إذا وجد أحدهم شفائه فى موسيقى ابني، فهو ينظر فى نفس الاتجاه الذى ينظر إليه ابني. لذلك فهو يَشفى نفسه بشكل إيجابى مع ابني، ولذا فإن ابنك "يواصل حياته" كما تقول. ويمكن أن يلهم الآخرين، ويساعدهم على مواصلة حياتهم، وشفاء أنفسهم فى هذه العملية، نعم، بالضبط. وموسيقى ابنى هى نموذج لأدبي. وأريد أن أفعل الشيء نفسه.

هل تعتقد أن الكاتب يختار مواضيعه أم أنها تصادفه؟

كتبت نادين جورديمر أننا لا نختار موضوعًا أو موقفًا أو قصة. الموضوع يختارنا، هذا هو هدف الكاتب. الزمن، الأيام، تختارنا لنصير كُتاباً. يجب أن نستجيب لزمننا. من تجربتى أستطيع تبَنى قول نادين جورديمر: لم أختر قصة ابن ذى إعاقة، أو موضوع عائلة صبى ذو إعاقة. وددتُ لو استطعتُ الهروب من ذلك كله، لكن شيئًا ما اختارنى لأكتب عنه. اختارنى ابني. هذا هو أحد الأسباب القاطعة لمواصلة الكتابة، وذكرتَ فى مقال آخر، "نهجى الأساسى أثناء الكتابة أن أبدأ من الأمور الشخصية ثم أربطها بالمجتمع والدولة والعالم."

وأعتقد أننى أقوم بعملى لربط نفسى وعائلتى والمجتمع - بالكون. لربطى مع عائلتى ثم ربطنا بالكون، هذا سهل، لأن كل الأدب لديه نزعة صوفية. فعندما نكتب عن عائلتنا، يمكننا ربط أنفسنا بالكون. لكننى أردت أن أربط نفسى وعائلتى بالمجتمع أيضًا. وحين نربط أنفسنا بالمجتمع، فإننا لا نكتب أمورًا شخصية هنا ولكننا نكتب رواية أخرى مستقلة.

وتقول فى "عائلة متعافية" أن الدروس التى تعلمتها فى جعل الطفل ذى الإعاقة فردًا فاعلًا فى أسرتك كانت مثالًا على الطريقة التى يجب على المجتمع ككل التعامل بها مع ذوى الإعاقة، وكيف يجب أن يتعلم المجتمع منهم. جوهريًا، برأيك، يمكن للمرء أن يخلق مجتمعًا شافيًا من خلال تكوين أسرة متعافية.

نعم، أتمنى ذلك، لكن لا أريد التركيز على دور أسرة الصبى ذى الإعاقة، ولا أريد التركيز على الفردية. دائمًا، عندما نربط عائلتنا الفردية بالمجتمع، يصير لها قيمة اجتماعية. إذا لم يكن الأمر كذلك، فلن نتمكن من كتابة الأمور الشخصية إلا من خلال تجربتنا فحسب.

وعندما سميت روايتى الأولى عن ابنى "هموم شخصية"، أعتقد أننى كنت أعرف الشيء الأكثر أهمية: ليس هناك أى مسألة شخصية. يجب أن نجد الصلة بين أنفسنا، و"همَّنا الشخصي" والمجتمع.

ما الدور الذى يجب أن يلعبه الكاتب فى سياسة عصره؟

السياسة هى تضافر خدماتنا لنَفع المجتمع. لستُ بحاجة إلى أى دور كصانع سياسات. بعض أصدقائى أصبحوا صناع السياسة،ولا تريد أن تكون هنرى كيسنجر،وكنت فى ندوة مع السيد كيسنجر. قال السيد كيسنجر فى حفل الوداع بابتسامة خبيثة: "الأرنب الشرير يرسم ابتسامة فى الرسوم المتحركة، ابتسامة السيد أوى الشريرة".

ولستُ شريرًا. قد أبتسم ابتسامة شريرة فى وجه صانع السياسة، أحيانًا. أنا لست رجلاً لديه سياسة، ولا أمارس السياسة. لكن من خلال حياة البشر فى كتاباتي، أريد أن أقدم شيئًا من أجل السياسة. لذلك يجب أن أقدم شيئًا من خلال أدبى أو مقالاتي.

ما الذى يحتاجه الكاتب اليابانى إلى إضافته للخطاب فى اليابان، والذى يبدو أنه مادى للغاية ويفتقر على ما يبدو إلى القيم الإنسانية؟

ولقد انتقدت المواقف اليابانية تجاه آسيا، وتجاه العالم، من قبل الأزمة الاقتصادية فى اليابان. حتى عندما كنا دولة فقيرة بدأت فى انتقاد موقفنا تجاه آسيا. وواصلتُ خلال فترة الازدهار.

وفى اليابان، أردنا خلق موقف وطنى جديد بعد هزيمتنا فى الحرب. لسنوات، أردنا أن نخلق ديمقراطية، دولة ديمقراطية. أعتقد أننا استسلمنا. لقد مرت خمسون عاما. الآن تسيطر أجواء مناهضة للديمقراطية فى اليابان.

ويقولون إن القومية المتطرفة يجب أن تعود، لكننى أشعر بارتباك شديد. تيارات خطيرة من القومية صاعدة فى مجتمعنا. لذا الآن أريد أن أنتقد هذه التوجهات، وأريد أن أفعل كل شيء لمنع تطور الفاشية فى المجتمع الياباني.

هل تساهم رواياتك وموضوعاتك الإنسانية التى تركز عليها فى إثراء المناخ الفكرى بحيث يصبح انتشار الفاشية احتمالًا أضعف؟

عندما كنت فى هيروشيما، قال الدكتور شيجيتو، "حين تعجز عن التفكير فى أى شيء لتفعله، يجب أن تفعل شيئًا". لذا أعتقد أنه إذا كان لديَ بعض القوة للتأثير على المثقفين الشباب، فيمكننا تنظيم قوة مختلفة. لأن أزمة اليوم هى أزمة الشعور اللاواعى بالتطرف القومى فى اليابان. شعور كبير جدا، مسيطر على الأجواء. إذا كتبنا عنها بدقة، إذا هاجمناها، يمكن للمثقفين الشباب أن يدركوا هذا الشعور. إنه مهم جدًا كبداية ، قد يواجه هؤلاء المثقفون هذه القضايا ويساعدون فى تشكيل النقاش العام بالطريقة التى واجه بها الشاب بيرد، فى موضوع شخصي، حقيقة وضعه فى الرواية، نعم أريد أن أطلب من شباب اليابان المثقفين مواجهة واقعهم.

تركز العديد من أعمالك على الشباب؛ "اقتلعوا البراعم، اقتلوا الأولاد"، مثلًا، التى تتبع جماعات الشباب ممن يفتقرون للقيم وقد تم إخلاء المدينة. ما الدور الذى يجب أن يلعبه الشباب فى تشكيل أفكارنا حول العالم؟

وفى نهاية روايتى الجديدة، يقوم بطلى بإنشاء جمعية خيرية جديدة، ليست مسيحية، وليست بوذية، لكنهم فقط يفعلون شيئًا من أجل أرواحهم، من أجل الشباب المجتمعين. ذات يوم يقرأ القائد الكتاب المقدس أمام الناس، رسالة أفسس.

وفى أفسس كلمتان: "إنسان جديد". أصبح يسوع المسيح إنسانًا جديدًا على الصليب. يجب أن نخلع المعطف القديم للرجل العجوز. يجب أن نصبح الإنسان الجديد. الإنسان الجديد وحده يمكنه أن يفعل شيئًا، لذلك يجب أن تصبح إنسانًا جديدًا. بطلى ليس لديه برنامج عن المستقبل، لكنه يعتقد أنه يجب علينا خلق إنسان جديد.

ويجب أن يصبح الشباب بشرًا جُدداً. يجب أن يصير العجوز وسيطًا لخلق إنسان جديد. هذا ما أؤمن به. أفكر دائمًا فى دور الشباب فى اليابان، كيف يجب أن يستعد الطلاب للمستقبل كيف يستعد شاب ليكون كاتبًا وكيف يستعد ليكون الإنسان الجديد: 

أولا، أتمنى أن يتمتع الشباب بالاستقلال والصلابة.

ثانيا أتمنى أن يتمتعوا بالخيال. لا الخيال لقبول صورة الآخر فحسب، بل لخلق صورتنا الخاصة وبشكل أكثر دقة. لإصلاح الخيال الذى تعلمناه. أن تكون صلبًا ولديك خيال: هذا يكفى أن تكون شابًا جيدًا جدًا.

وتقول عن دكتور شيجيتو، "لقد تعامَل ببساطة مع المعاناة بأفضل ما فى وسعه، بدون أمل مُفرِط أو يأس شديد"، وتواصِل، "لقد كان رجلًا حقيقيًا"، وكان أستاذى متخصصًا فى النزعة الإنسانية الفرنسية، وكان يقول لى دائمًا "ما هى الإنسانية؟

يجب أن تتخلص من الأمل المُفرِط وأيضًا من اليأس الشديد." الأمل المُفرط غير حقيقي، وكذلك اليأس. كان هذا تعليق أستاذي، وقلت ذلك للسيد شيجيتو، فقال، "نعم، أعرف ذلك طوال حياتي."