فصاحة القرأن | الكلمة فى سياقها

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

كتب : د. محمد عاطف التراس

القرآن كلام الله مكوّن من جمل وتراكيب، والجمل والتراكيب مكوّنة من كلمات، والكلمات فى أصلها حروف وحركات، وهذه الثروة اللفظية فى غالبها هى الكلمات التى كان العرب يستعملونها فى شعرهم ونثرهم، فما سر إعجاز القرآن إذا كانت عُظم الكلمات المستعملة فى كتاب الله بين أيديهم، وقد تحدّاهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله؟!

من المسلّم به بشهادة العرب أنفسهم الذين نُزّل عليهم القرآن، أن كلمات القرآن فى أعلى درجات الفصاحة والبيان والملاءمة للمعنى المراد، بحيث لو نُزعت كلمة منه أو أُزيلت عن وجهها ثم أُدير لسان العرب كله على أحسن منها فى تأليفها وموقعها وسدادها، لم يتهيأ ذلك ولا اتسعت له اللغة بكلمة واحدة، على حد تعبير الأديب مصطفى صادق الرافعى فى كتابه إعجاز القرآن والبلاغة النبوية.

اقرأ ايضاً| مع الصحابيات | رفيدة الأسلمية.. أشهر طبيبة وصيدلانية فى الإسلام

ومن المسلّم به أيضًا أن المعنى الواحد يمكن التعبير عنه بألفاظ مختلفة، ولكن ليست العبرة بالكلمة خارج السياق، وإنما العبرة بالكلمة فى سياقها، فالسياق هو الذى يمهّد لاستعمال الكلمة ويُظهر منها محاسنها.

ولنضرب لذلك مثالًا ننقله بحروفه عن أديبنا الرافعى إذ يقول: من ذلك لفظة «النُّذُرُ» جمع نذير؛ فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معًا، فضلًا عن جُسأةِ هذا الحرف «أى: يُبسه» ونُبوّهِ فى اللسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام.

فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه؛ ولكنه جاء فى القرآن على العكس وانتفى من طبيعته فيقوله تعالى: «ولَقَدْ أنذَرَهُم بَطْشَتَنا فتَمارَوا بالنُّذُرِ».

فتأمل هذا التركيب، وأنعِم ثم أنعِم على تأمّله، وتذوَّق مواقع الحروف وأجرِ حركاتها فى حسِّ السمع وتأمّل مواضع القلقلة فى دال «لقدْ»، وفى الطاء من «بطْشتنا» وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو «تَمَارَوا»، مع الفصل بالمد، كأنها تثقيل لخفة التتابع فى الفتحات إذا هى جرت على اللسان.

ليكون ثقل الضمة عليه مستخَفًّا بعد، ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض فى الأطعمة. ثم ردِّد نظرك فى الراء من «تمارَوا» فإنها ما جاءت إلا مُساندةً لراء «النذُر» حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تجِفُّ عليه ولا تغلُظ ولا تنبُو فيه، ثم أعجَبْ لهذه الغنة التى سبقت الطاء فى نون «أنذرَهم» وفى ميمها، وللغنة الأخرى التى سبقت الذال فى «النذُر»