عادة بدأت مع احتفالات عيد الميلاد.. الأقباط سبقوا المسلمين فى استخدام «الفانوس»

فانوس رمضان
فانوس رمضان

حسن حافظ

عندما تأخذ جولة فى المنطقة المجاورة لجامع السيدة زينب، أو منطقة تحت الربع بجوار باب زويلة بالدرب الأحمر، ستجد شوادر منصوبة بأشكال وأحجام مختلفة من الفوانيس النحاسية المرصعة بالزجاج الملون، علامة على قرب ليالى شهر رمضان، تنصب الشوادر عادة منذ النصف الثانى من شهر رجب، لتبث هذه الشوادر بشكلها المبهج روح الفرحة باستقبال شهر الخير، وترى مثل هذه الشوادر فى معظم شوارع القاهرة والمحافظات. فالفوانيس واحدة من أهم معالم الاحتفال برمضان فى مصر، لكن متى ارتبط الفانوس بالاحتفال بشهر رمضان فى مصر؟ المفاجأة أن هذه العادة التى تبدو بسيطة تعكس نوعا من أنواع التواصل الحضارى فى مصر، وتكشف أن الفانوس تجربة احتفالية توحد المصريين فى حبها.

أصبح الفانوس علامة على شهر رمضان، نعلم أن الشهر قد اقتربت لياليه المباركة عندما نرى نصبة الفوانيس تنتشر في شوارع المحروسة. تراه في زينة الشوارع وشرفات المنازل ومداخل المحلات والمقاهي، وهو ختم مصري ما إن تراه في أي مكان حتى تسمع بلا كلمات أغاني رمضان الشهيرة، وتتذوق بلا طعام حلاوة الحارة المصرية، فالفانوس صار علامة على احتفالات المصريين بالشهر الكريم، والجميع لهم مقلد وعنهم يأخذ عادة الاحتفاء بالفوانيس، إذ صار الأخير من أهم مصادر القوى الناعمة لمصر في العالم العربي والإسلامي، وعنوانا على البهجة المصرية في العالم الإسلامي، والذي يحافظ عليه مجموعة من الصنيعية المهرة الذين يحتفظون بأسرار الصنعة المتوارثة منذ أجيال وأجيال تتكشف بعض فصولها في صفحات كتب التاريخ التي تكشف لنا قصة الفانوس المثيرة والعجيبة.

الرواية الشائعة
أصل عادة استخدام الفانوس تعود بها الرواية الشائعة إلى حادث عرضي يتعلق بخروج أهالي القاهرة في أول العصر الفاطمي وتحديدا رمضان سنة 362هـ/ 973م، لاستقبال الخليفة الفاطمي المعز لدين الله القادم من تونس بعدما قرر نقل مقر حكمه من تونس إلى مصر، وعندما دخل الخليفة بموكبه مدينة القاهرة من باب زويلة، استقبله أهالي القاهرة ليلا بحمل الفوانيس، ومن هنا جاء ارتباط الفانوس بشهر رمضان في مصر. هذه الرواية رغم انتشارها في العديد من التقارير الصحفية والمواقع الإلكترونية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، فإنه لا يوجد أي دليل تاريخي على صحتها، بل إن من وضع هذه القصة المتخيلة كان يحاول على الأرجح سدة فجوة تاريخية في ظهور وارتباط الفانوس باحتفالات شهر رمضان، خصوصا أن هذه الظاهرة تكونت وظهرت في العاصمة المصرية في العصور الوسطى ومنها انتشرت في مختلف البقاع المصرية، فالتعسف في الربط واضح في تلك القصة المؤلفة، ومحاولة الاختلاق واضحة، فلا علاقة بين الخروج لاستقبال الحاكم الجديد والاحتفال برمضان عبر استخدام الفوانيس، فالطبيعي عندما يخرج مجموعة من البشر ليلا في عصر ما قبل الكهرباء أن يستخدموا الفوانيس أو أي أدوات إضاءة متوفرة، لذا فهذه الواقعة ليست السبب الحقيقي لاستخدام المصريين للفوانيس في الاحتفالات بل إن الأمر غير ذلك كما تثبت الوقائع التاريخية.

الدليل التاريخى
نجد إشارة عند المقريزي في كتابه (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار)، هي بداية الخيط لمعرفة كيف دخل الفانوس في احتفالات المسلمين بشهر بالصيام، والنص يثبت أن استخدام الفوانيس في الاحتفالات الدينية كان مختصا بالمسيحيين في المقام الأول واحتفالاتهم بعيد الميلاد المجيد، يقول تقي الدين المقريزي: «وأدركنا الميلاد بالقاهرة ومصر وسائر إقليم مصر موسما جليلا، يباع فيه من الشموع المزهرة بالأصباغ المليحة والتماثيل البديعة بأموال لا تنحصر، فلا يبقى أحد من الناس أعلاهم وأدناهم حتى يشتري من ذلك لأولاده وأهله. وكانوا يسمونها الفوانيس، واحدها فانوس. ويعلقون منها في الأسواق بالحوانيت شيئا يخرج عن الحد في الكثرة والملاحة».

هذا النص الواضح في أن استخدام الفوانيس في الاحتفالات كان في البداية يتم في الأعياد المسيحية حصرا، وأنه دخل كعادة احتفالية ليرتبط بشهر رمضان في فترة متأخرة ولا علاقة للأمر بالمعز الفاطمي ولا الفاطميين، بل إن المقريزي الذي عاش في القرن التاسع الهجري بعد نحو ثلاثة قرون من سقوط الفاطميين يتحدث صراحة عن استخدام الفانوس بشكل حصري في أعياد الميلاد، ولا نعرف حقيقة متى انتقل استخدام الفانوس من عيد الميلاد إلى شهر رمضان، لكن من الواضح أن هذا متأخر جدا ربما في نهاية العصر المملوكي أو العثماني، لأن المقريزي لم يذكره مرتبطا بشهر رمضان، كما أن العصر المملوكي شهد تحول مصر إلى الإسلام بشكل نهائي وتحول المسيحية إلى أقلية، فعلى ما يبدو أن المصريين المسيحيين الذين انتقلوا إلى الإسلام حملوا معهم واحدة من أجمل عادات شهر رمضان في مصر.

من أيام المماليك
يعزز هذا الأمر أن العديد من الاحتفالات بشهر رمضان الكريم، بدأت وظهرت في عصر سلاطين المماليك، نذكر منها أن عادة الصلاة خلف إمام لجمال صوته في صلوات التراويح، إذ يذكر المقريزي في كتابه (السلوك لمعرفة دول الملوك)، أن الفقيه شهاب الدين أحمد بن لؤلؤ المعروف بأن النقيب «كان جيد القراءة، حسن الصوت، يقصد لسماع قراءته في المحراب، ليالي شهر رمضان»، وقد مات الفقيه ابن النقيب في سنة 769هـ/ 1368م، كما تذكر المصادر التاريخية المملوكية أن عادة الصلاة على النبي قبل أذان الفجر بدأت في العصر المملوكي تنفيذا لرؤيا لأحد الصالحين، والتي أصبحت عادة مستحبة قبل الأذان منذ ذلك الوقت.

كما يذكر المقريزي واقعة أخرى مهمة تعود إلى سنة 775هـ/ 1374م، ففي شهر رمضان هذه السنة استجد السلطان «الأشرف شعبان» عنده بالقصر من قلعة الجبل قراءة كتاب صحيح البخاري في كل يوم من أيام شهر رمضان، بحضرة جماعة القضاة ومشايخ العلم، تبركا بقراءته، لما نزل بالناس من الغلاء، فاستمر ذلك»، أي أن عادة قراءة كتاب صحيح البخاري استمرت في ليالي رمضان على مر السنوات التالية، كما كانت عادة توزيع الطعام في ما يشبه موائد الرحمن عادة من السلطان وكبار رجال الدولة، فإحياء ليالي رمضان كان واضحا في العصر المملوكي، ما يعني أن أهالي القاهرة كانوا يخرجون في الليل للاستمتاع بالاحتفالات الليلية فكان طبيعيا أن يتم استخدام الفوانيس في هذه الاحتفالات، وتعليقها على الحوانيت كما كان يحدث في احتفال عيد الميلاد من قبل، ومع استمرار إحياء ليالي رمضان ثبت استخدام الفوانيس في ليالي رمضان بشكل أصبح متلازما مع شهر الصيام، ولما كان الصبية يلعبون في حواري القاهرة ليلا في شهر رمضان، كانوا في حاجة إلى الفوانيس لكي تنير لهم الطريق في عصر لم يعرف الكهرباء، فثبت الفانوس في يد الصبية في رمضان كما الكبار، فكان الجميع يستخدمه بكثافة وأصحاب الحوانيت يعلقونه على مداخل حوانيتهم من أجل إنارة الطريق أمام من يصلي التراويح والتهجد في قلب الليل.

فرحة الأطفال
أمام استمرار استخدام الفانوس في ليالي رمضان أصبح جزءا من تراث الشهر وميراثه الاحتفالي في ليالي القاهرة، حتى وصلنا إلى العصر الحديث، عندما دخلت الكهرباء لإنارة الشوارع فاقتصر استخدام الفوانيس على الصغار من الفتيان والفتيات، فأصبح للفانوس استخدامه الاحتفالي، وهو ما دخل في الفلكلور المصري من بابه الواسع، إذ تم استخدام الفانوس ورمزيته وعلاقته المتينة بشهر رمضان، في العديد من الأعمال الدرامية في السينما والمسلسلات التلفزيونية، وخلدت عدة أغاني رمضانية الفانوس، منها أغنية (وحوي يا وحوي) الشهيرة، إذ يقول المطرب أحمد عبد القادر من كلمات الأغنية: «هاتي فانوسك يا ختي يا إحسان»، كما لدينا أغنية (هاتوا الفوانيس يا ولاد) لمحمد فوزي وعبد العزيز سلام، كما ذكر الفانوس في أغاني (وحوي يا وحوي) و(افرحوا يا بنات) و(أهو جه يا ولاد) للثلاثي المرح، وفي أغنية (مرحب شهر الصوم يا رمضان)، يشدو المطرب عبد العزيز محمود:
«محلاهم فيك بعد ما نفطر.. شمع منور
ماسكين فوانيس.. دا فانوس أحمر وفانوس أخضر
يرقصوا ويغنوا يا رمضان..  فرحوا واتهنوا يا رمضان».

 

 

 

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 29/3/2023

أقرأ أيضأ : الإمساكية الصحية| حتى تتجنب العطش.. اشرب 10 أكواب مياه بين الإفطار والسحور