«قوت القلوب».. اكتشفت «محفوظ» وانتهت حياتها بمأساة!

قوت القلوب هانم الدمرداشية
قوت القلوب هانم الدمرداشية

تنتصب فى 14 شارع سراى الأزبكية- تقاطع شارع عماد الدين مع شارع الألفى بوسط بالقاهرة تحفة هندسية وأيقونة تراثية لها طابع معمارى يشع بالعراقة والشياكة والجمال، وقليلون من يعرفون حكاية هذه البناية التى تحمل اسم «قوت القلوب هانم الدمرداشية»، هذه التحفة المعمارية صممها المهندس الفرنسى «جورج بارك» على الطراز «النيوباروك» الفرنسى عام 1928، وتم تشييدها على مساحة 1510 مترا مربعا، وتتكون من دور أرضى للمحلات وميزانين و6 طوابق علوية، وقد تم تسجيلها برقم «03190001000» فى قائمة التراث الخاص بالعقارات والفيلات التراثية بالجهاز القومى للتنسيق الحضارى، وخضعت البناية للترميم والدهان والتطوير ضمن المشروع القومى لإعادة إحياء القاهرة الخديوية التراثية فعاد إليها جمالها البراق، وآلت ملكيتها لشركة مصر لإدارة الأصول العقارية التابعة لشركة مصر القابضة للتأمين، عرفنا نبذة قصيرة عن عمارة «قوت القلوب» الدمرداشية، فهيا بنا نتعرف على السيدة الفاضلة التى تحمل هذه البناية اسمها، فكثير من الناس لا يعرفون الكثير عنها. 


«قوت القلوب» واحدة من سيدات مصر الفضليات، كان لها تاريخ مشهود فى عالم الكتابة والأدب ورعاية الأدباء والمبدعين، أعجب برواياتها د. طه حسين، ويقول الروائى الكبير نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل إن «قوت القلوب» اهتمت بالأدب وكانت تشجع الأدباء، ولهذا دشنت جائزة أدبية سنوية عام 1940 قيمتها 40 جنيها، ويقول إنه حصل على الجائزة عن رواية «رادوبيس» عام 1943 مناصفة مع أحمد باكثير عن رواية «سلَامة»، وكانت لجنة التحكيم مشكلة من د. طه حسين وأحمد أمين وفريد أبو حديد، ويقول الناقد رجاء النقاش فى كتابه «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» إن الجائزة كانت مفتاحاً لخروج أعماله إلى النور والجوائز أيضاً.


كان للسيدة «قوت القلوب» صالون أدبى يرتاده كبار الأدباء والشباب، تدعم هذا وتنشر لذاك بما أفاء الله عليها من ثروة ورثتها عن والدها عبد الرحيم الدمرداش باشا شيخ الطريقة الدمرداشية الصوفية المعروف بدعم الحركة الوطنية، وكان عضوا فى مجلس شورى القوانين، وتصفه المراجع بأنه كان عصاميا نجح فى تنمية ثروته فأصبح على رأس رجال الاقتصاد فى مصر، وورثت عنه ابنته «قوت القلوب» هذه الخصال وسارت على طريقه فى عمل الخير.


وافقت والدها ووالدتها فى التبرع بقطعة أرض تبلغ مساحتها 15 ألف متر مربع ليقام عليها «مستشفى الدمرداش» الخيرى لعلاج الفقراء بالمجان، وتكفلت الأسرة بكامل نفقات البناء وتزويدها المستشفى الذى افتتح عام 1931 بأحدث الأجهزة والمعدات الطبية، وتبرعت «قوت القلوب» بألف جنيه سنويا لكلية طب عين شمس من أجل بحوث الغدد الصماء التى كان يجريها د. «بول غليونجى»، وفتحت مكتبتها التى تضم 8 آلاف كتاب لطلاب الكلية، وتبرعت لإنشاء مكتبة طبية بمستشفى الدمرداش.


ولدت «قوت القلوب» بالقاهرة عام 1892 لأسرة ارستقراطية ثرية جدا تنتمى إلى الجد الأكبر محمد الدمرداش الفقيه السنى المولود فى «تبريز» بإيران عام 1454، انتقل إلى مصر وانضم لرجال السلطان الأشرف قايتباى، ولشدة تصوفه وقوته أهداه السلطان قطعة أرض سميت بقرية الدمرداش بحى العباسية، وهو مؤسس الطريقة الدمرداشية الصوفية وتناقلها أبناؤه من بعده، ولهذا تلقت «قوت القلوب» فى قصر والدها تربية دينية متوازية مع التربية الأرستقراطية، وحرص والدها على تلقيها تعليما جعلها تهتم بالفنون والأدب، فكانت من رواد الأوبرا، تسافر سنويا للنمسا وفرنسا التى تجيد لغتها وتكتب بها، وقد وافقت على الزواج من شخص أقل منها فى المكانة واشترطت لنفسها حق العصمة، ولم يستمر زواجها الذى أثمر ثلاثة أولاد وابنة واحدة تدعى زينب تزوجها الصحفى على أمين بعد أن توسطت له أم كلثوم، وقد أثرت هذه النشأة فى حياة «قوت القلوب» وكتاباتها الأدبية عندما نشرت «مصادفة الفكر» بالفرنسية عام 1934، ورواية «حريم» عن دار جاليمار الفرنسية، ونشرت «ثلاث حكايات عن الحب والموت - زنوبيا - الهندوسى - ليلة القدر - حفناوى العظيم» وقد لامها عميد الأدب العربى د. طه حسين لنشر أعمالها بالفرنسية دون ترجمة للعربية.


ويبدو أن «قوت القلوب» هانم كانت تقصد العالمية أكثر من المحلية فقد قدم كتبها للجمهور الفرنسى الأديب «فرانسوا مورياك» عضو الأكاديمية الفرنسية لاهتمامها بعالم الحرملك المجهول بالنسبة لهم، واهتمامها بالمرأة فى مصر والشرق ودفاعها عن معاناة الأنثى فى المجتمع الذى يفضل إنجاب الذكور، وتمت ترجمة مؤلفاتها إلى الألمانية والإنجليزية.. ويروى أنها كانت معجبة بالكاتب الكبير محمود أبو الفتح أول نقيب للصحفيين، ومن أجله اشترت شركة الإعلانات الشرقية بـ 300 ألف جنيه عام 1954، وكانت تشكو من صده لها لأنه لم يبادلها نفس المشاعر التى تبديها نحوه، وعندما توفى فى ألمانيا استأجرت طائرة خاصة لنقل جثمانه إلى تونس، وأبلغها الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة أنه على اتم الاستعداد لاستقبال جثمانه ودفنه فى ضريح أعده له من الرخام عندما علم برفض السلطات المصرية استقبال جثمانه لأنه كان على خلاف حاد مع الرئيس جمال عبد الناصر، وكان الحبيب بورقيبة مختلفا فى هذه الفترة مع الرئيس عبد الناصر، وظلت «قوت القلوب» هانم على وفائها للكاتب محمود أبو الفتح بعد رحيله عندما علقت صورة كبيرة له فى بيتها بالقاهرة.


قال ابنها د. أحمد الدمرداش فى حديث صحفى إن ثورة يوليو قامت بتأميم كل ممتلكاتها لأنها كانت من أغنى اثنتى عشرة شخصية فى مصر، وتم اتهامها بتهريب مائة ألف جنيه من أموالها للخارج، وقامت محافظة القاهرة بهدم قصرها بميدان التحرير الملاصق لقصر الأمير كمال الدين حسين - مبنى وزارة الخارجية القديم - الذى اشتراه والدها الشيخ عبد الرحمن الدمرداش من المليونير يوسف أصلان قطاوى باشا وأهداه لها عند زواجها، وتمت إزالة القصر لإقامة نفق كوبرى قصر النيل، لكل هذه المضايقات هاجرت والدته من مصر إلى إيطاليا!.


وفى صباح 6 ديسمبر 1968 ظهرت جريدة «الأخبار» بخبر المأساة التى تعرضت لها فى غربتها بخبر تقول سطوره القليلة: «ماتت المليونيرة «قوت القلوب» الدمرداشية فى روما على إثر مشادة بينها وبين ابنها «مصطفى» الدبلوماسى السابق اعتذرت خلالها عن منحه مبلغا من المال كان قد طلبه منها وهو لا يثق أنها لم تكن تملك هذا المبلغ فانهال عليها بكرسى حديدى وتم نقلها للمستشفى الذى أسلمت فيه الروح عن عمر يناهز 76 عاما، ونقل ابنها المتهم بقتلها إلى مستشفى الأمراض النفسية للكشف عن قواه العقلية، واتضح من الملاحظة أنه مصاب بلوثة عقلية، وانتهت حياة السيدة العظيمة بعيدا عن الوطن، احتضن جثمانها التراب الإيطالى، وبقى لها فى كتاب التاريخ أنها قدمت للمصريين مستشفى الدمرداش من حر مالها، وعشرات من الأعمال الخيرية التى لا تنسى لها.