جسور بابل.. مؤتمر الترجمة بميلانو

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

‎‎نظّمت الجامعة الكاثوليكية بميلانو، فى الفترة من 16 إلى 18 مارس، المهرجان الدولى للغة والثقافة العربية فى دورته السادسة، تحت عنوان «جسور بابل: دور الترجمة فى بناء الحضارة»، وهو المؤتمر الدولى الذى استهدف أحد الأسئلة المهمة المطروحة ثقافيًا حول ترجمة الأدب العربى إلى اللغات الأجنبية، والترجمة إلى العربية ذاتها، واستضاف مترجمين وأكاديميين عربًا وأجانب وناشرين، وتناول كل منهم فى ورقته أطروحة حول فن الترجمة وصعوباتها الفنية، وتحديات الترجمة فى زمن التطور التكنولوجي، كما تناول مترجمون دراسة مقارنة بين عدة ترجمات لنص واحد للوقوف على مدى حرية المترجم فى النص الأصلي. ومن جانب آخر، تناول ناشرون أفكارهم وتجاربهم حول الواقع الفعلى للكتب المترجمة وسوق القراءة.

المؤتمر الذى نظّمه قسم اللغة العربية بالجامعة الكاثوليكية، برئاسة الدكتور وائل فاروق، انطلق من كلمة افتتاحية لعميد كلية العلوم اللغوية والأدب، أشار فيها إلى أهمية الترجمة كجسر بين الثقافات، وإلى اللغة العربية كلغة أساسية ذات تراث سردى كبير، كما أشار إلى الجسور الثقافية بين إيطاليا والعالم العربى وخاصة مصر.

وهى الكلمة التى عبرت عن ترحيب الجامعة الإيطالية بهذا التبادل الثقافى ومحاولات الفهم والتقارب. كما ألقى فاروق، أستاذ اللغة والأدب العربى بنفس الجامعة، كلمة حول أهمية التواصل الثقافى العربى ورحب بالمدعوين.ثم بدأ نشاط اليوم الأول بأمسية شعرية للشاعر السورى نورى الجراح الذى ألقى قصائده بالعربية بصحبة مترجمته الإيطالية فرانشيسكا كوراو.

‎وشارك فى المؤتمر ما يقرب من عشرين ضيفًا من مصر وفلسطين والعراق وسوريا ولبنان والمغرب والجزائر والسعودية، من بينهم الناقد والمترجم صبحى حديدي، والأكاديمى والمترجم كاظم جهاد، المترجم سمير جريس، الشاعر والمترجم سامر أبو هواش، الشاعر والمترجم أحمد يماني، والإعلامى عمرو خفاجي، والأكاديمية والمترجمة نجلاء والي، والناشرة فاطمة البودي. بالإضافة إلى المستعرب مارتينو دييز، والمستعربة مانويلا جولفو، ستيفانو أردويني، ألدو نيقوسيا، يولاندا جواردي، باولا فيفياني.

الترجمة كتحد

‎تناولت العديد من الأوراق البحثية مفاهيم نظرية حول الترجمة، ليس باعتبارها نقلًا من لغة إلى لغة أو من ثقافة لثقافة، وإنما كنص موازٍ، أو بعبارة أمبيرتو إيكو «أن تقول الشيء نفسه تقريبًا». فى ورقته، تناول صبحى حديدى فضائل ومخاطر ترجمة الشعر، والشعر تحديدًا لأن الناقد السورى يرى اختلاف بنيته وإيقاعه ومجازه ولغته. فيما طرحت مانويلا جولفو شهادتها عن ترجمة «مملكة آدم» للشاعر أمجد ناصر.

وقالت إنها كانت تبحث عن لغة قاسية مرة تعاكس الشعرية، ولكنها فى نفس الوقت ملحمية ورؤيوية، وتنجح فى إبداع صرخة تنطلق من أرض مملكة آدم القاحلة. الشاعر المصرى أحمد يمانى تحدث عن تجربته مع ترجمة ثيسر باييخو، منطلقًا من فرضية أن الشعر لا يترجم، وأن المتنبى لو ترجم يفقد كثيرًا من جماله. لكنها فرضية غير عمومية.

وإذ كان محمود درويش فى الإسبانية لامعًا وكانت عبارته ذات صدى. تتبع يمانى مقولة باييخو عن استحالة ترجمة الشعر، وعرض نماذج لقصائد ترجمها للشاعر نفسه، ليثبت، رغم كل شيء، أن الشعر يمكن ترجمته.

‎كاظم جهاد، المترجم والأكاديمي، طرح سؤال الإيقاع فى ترجمة الشعر الكلاسيكي، ورأى أنها تقع ما بين ترجمة عتيقة وتحديث مفرط، مشيرًا إلى أن الأمانة فى الترجمة لا تزال محصورة فى أداء المعانى والدلالات، مع أن شعرية الترجمة ركزت منذ زمن على احترام شكل العمل الشعرى وإيقاعاته.

‎وفى ورقته عن الترجمة كحقل للمعرفة أم سلعة، استعرض كاتب هذه السطور ما يفقده النص فى النقل من لغة إلى لغة، مستخدمًا تشبيه بورخس بأن اللغة مثل وعاء ممتلىء بالماء، وعلينا أن ننقل الوعاء من بيت إلى بيت.

وفى الطريق ثمة ما يسكب ويفقد فلا يمكن استعادته. وتناولت الورقة صعوبات فنية فى الترجمة، كترجمة المصطلحات الثقافية والمجازات والأمثال داخل النص الأدبي، ما يضطر المترجم للتضحية به وما يجب الحفاظ عليه. وهو ما يدفع للتعامل مع الترجمة كحقل للمعرفة وليس سلعة تباع إلى قارئ يبحث عن لغة سهلة.

‎ألدو نيقوسيا، وهو مستعرب وأكاديمى له العديد من الكتب فى السينما والأدب، تناول فكرة  الترجمة العامية، وطرح سؤالًا: هل يجب أن تتحدث الشخصيات الأجنبية بالعربية الفصحى فى النص المترجم؟ أم يفضل أن يستخدم المترجم لهجة عربية؟ قدم نيقوسيا دراسة فى ترجمة «حب قاطعى طريق» للإيطالى ماسيمو كارلوتو بترجمة بسمة عبد الرحمن، والتى اختارت أن يكون الحوار بالعامية المصرية.

من العربية للإيطالية

‎الأكاديمية نجلاء والى تناولت ترجمة توفيق الحكيم إلى الإيطالية، واتخذت يوميات نائب فى الأرياف نموذجًا. فى دراستها سلطت الضوء على الاستراتيجيات التى اعتمدتها المترجمة سامويلا باجاتى للتغلب على نص مليء بالإشارات الثقافية الريفية وتحليل منهج المترجمة مع الخصائص اللغوية، مثل اللغة الدينية والاستعارات والأمثال الشعبية.

‎وفيما تناول إسلام فوزي، أستاذ الأدب الإيطالى بكلية الألسن، ترجمة ميرامار إلى الإيطالية، محللًا الترجمة فى مقارنتها بالأصل، ومقترحًا حلولًا بديلة.

‎يولاندا جواردى طرحت سؤالًا عن الترجمة والاستعمار، ودارت ورقتها حول تقاطع الترجمة مع الخطاب الاستعمارى والامبريالي، لتؤكد أنها رفيقة الامبراطورية لأنها الأداة الأمثل للتحكم فى المعارف. فى هذا السياق أشارت للمضامين الأيديولوجية فى الترجمة من العربية للإيطالية.

‎التكنولوجيا الجديدة والصحافة

‎لم تتوقف مداخلات المتحدثين عند الترجمة الأدبية فى شكلها المعتاد، إذ سلط كل من الدكتور حسين محمود، المترجم وأستاذ الترجمة، والشاعر والمترجم سامر أبو هواش، الضوء على الجديد فى الترجمة من حيث الوسيلة، أى استخدام التكنولوجيا الجديدة. فى ورقة بعنوان «المترجم-الآلة: منظور ما بعد الإنسان» طرح محمود سؤالًا مستقبليًا عن قوة الآلة وقدرتها على الحل محل الإنسان، إذ الآلة لا تمرض ولا تشيخ، وقادرة على تلقى البرمجة والمعرفة. انطلق أستاذ الترجمة من سؤال: هل نكتب الآن نهاية الإنسان على الأرض؟ لا ينفصل السؤال عن مستقبل المترجم الإنسان وانتصار الترجمة الآلية.

‎سامر أبو هواش قدم ورقة عن ترجمة الشعر عبر الذكاء الاصطناعي، ناقش من خلالها ترجمة التشات جى بى تي، وهو برنامج لغوى جديد لديه القدرة على تخزين المعلومات.  قدم أبو هواش أمثلة عملية  للترجمة من العربية إلى الإنجليزية قارن فيها بين ترجمة جوجول والشتات جى بى تى والمترجم العادي، مثيرًا بذلك موجة من الضحك على ما توصلت إليه الترجمة الآلية، لكن مع الوضع فى الاعتبار أنه برنامج ناشىء ولعله فى المستقبل يحسن أداءه.

‎وفيما انحازت ورقة الإعلامى عمرو خفاجى للترجمة الصحفية وتأثير الأيديولوجيا وجهات التمويل على استخدام بعض المصطلحات فى مقابل مصطلحات أخرى، وهو ما يشير إلى عدم نقاء الترجمة دون ضرب فى الأمانة، إنما هو الخطاب الإعلامى الذى ينحاز لقضيته، فما بين الثورة والحرب الأهلية أو الغزو أو الحرب على الإرهاب، لا يقف المصطلح فحسب، وإنما الخطاب الأيديولوجي.

وفى سياق آخر، طرحت الدكتورة فاطمة البودي، مديرة دار العين للنشر، أسئلة تخص صعوبات نشر الترجمة، بداية من الحصول على حقوق المؤلف وعدم مرونة دار النشر الأجنبية، وليس انتهاء بقارئ يميل للأسماء المعروفة دون محاولة التعرف على أسماء جديدة، كل ذلك فى ظل واقع اقتصادى يناهض سوق الكتاب.

‎وفى النهاية، استطاع المؤتمر الدولى تغطية جوانب عديدة تخص أزمات الترجمة، واقعها ومستقبلها، وكانت أوراقًا ثرية تفاعل معها الجمهور والطلاب، تنقلت بين البحث الأكاديمى والواقع المعيشى، ولامست قضية غياب الأدب العربى من السوق الأوروبي، والصعوبات التى يواجهها كل من المترجمين العربى والإيطالى أمام نصوص غارقة فى المحلية أو الريفية أو اللغة صعبة الترجمة، وكانت ترجمة الشعر واحدة من القضايا الرئيسية.

اقرأ ايضاً | ناصر الربَّاط يكتب: القاهرة أكبر مركز للإنتاج الثقافى فى العالم العربى و يرى أنها لم تتزعزع رغم