عبدالحليم قنديل يكتب: حلف الشرق الجديد

عبدالحليم قنديل
عبدالحليم قنديل

محادثة قصيرة خاطفة جرت على باب قصر "الكرملين"، اهتمت بها وسائل الإعلام الغربية ، واعتبرتها أهم من البيان الختامى لمباحثات الرئيس الصينى "شى جين بينج" مع الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين"، كان الأخير يودع ضيفه الكبير، الذى بادر "بوتين" بمصافحة دافئة، وقال له عبر المترجم "التغيير قادم"، ولم يحدث منذ 100 عام، سنفعلها سويا"، ورد عليه بوتين "أوافق"، وأردف شى" إعتن بنفسك يا صديقى العزيز"، ثم تمنى بوتين "رحلة سعيدة آمنة" لصديقه الأعز.

بدت الكلمات العفوية مصاغة بعناية، ومقصودة تماما ، كما بدا تسجيلها وإشاعتها متعمدا، وفى "فيديو" متاح للكافة، حمل معنى وغاية حلف الشرق الجديد، الراغب فى تفكيك الهيمنة الأمريكية على مصائر العالم، وبصورة أبعد من ترتيبات موقوتة، ومن عشر اتفاقات كبرى، جرى توقيعها فى زيارة اليومين، وشملت ـ كما أعلن ـ مجالات الطاقة والاقتصاد والتعاون العسكرى التقنى، وأعمق من مناقشات مفصلة حول ما تسمى "المبادرة الصينية" للسلام فى أوكرانيا ، التى قيل أنها كانت نقطة رئيسية فى مداولات اجتماع مغلق بين "شى" و"بوتين"، لعله أطول اجتماع من نوعه، فقد استمر لقرابة الأربع ساعات ونصف الساعة، لا يعقل أنها دارت كلها عن تفاصيل المبادرة الصينية، التى أعلنت بنقاطها المتعددة قبل أسابيع، وصدرت عليها تعليقات روسية مرحبة عموما، وعلق عليها "بوتين" باقتضاب ظاهر ، وقال خلال الزيارة، أنه يتعامل معها باهتمام و"احترام"، وامتدح ما قال أنه "الكثير من بنودها"، ومن دون أن يعطيها موافقته الكاملة ، ربما خشية إساءة التفسير لبند المبادرة الأول، الذى يركز على مبدأ السيادة واحترام وحدة الأراضى وميثاق الأمم المتحدة ، وهو ما قد يعنى ـ بتفسير شائع ـ دعوة الصين لروسيا إلى مغادرة الأراضى الأوكرانية ، وإن كان للروس تفسير آخر، يعلى مبدأ "حق تقرير المصير" الوارد أيضا فى ميثاق الأمم المتحدة ، وتعتبره موسكو مدخلا لتأكيد "شرعية" حقها فى ضم الأقاليم الخمسة، التى ضمتها بالقوة بعد استفتاءات شعبية لأهلها، سواء فى الأقاليم الأربعة (دونيتسك ولوجانسك وزاباروجيا وخيرسون)، التى جرت السيطرة عليها فى الحملة العسكرية الحالية، أو إقليم شبه جزيرة "القرم" ومدينة "سيفاستبول" التى جرى ضمها لروسيا قبل تسعة أعوام، وحرص "بوتين" على زيارتها ، ثم زيارة مدينة "ماريوبول" فى إقليم "دونيتسك" عشية استقباله الحافل للرئيس الصينى فى موسكو، وبرغم أن "بكين" لم توافق علنا على الضم الروسى القديم أو الجديد، إلا أنها لا تتغاضى عن أولويات الروس فى أى اتفاق سلام وارد، وتطرح فى مبادرتها مبادئ أكثر مناسبة للروس، من نوع إلغاء العقوبات الأحادية الجانب على روسيا، وضمان توريد الحبوب وسلاسل التجارة الدولية، وتعتبر أن مفتاح النقاش فى الموضوعات كلها ، هو البدء باتفاق لوقف إطلاق النار، تبدأ بعده المفاوضات دون شروط مسبقة، وهذا هو جوهر الموقف الروسى. 

والصين تعرف طبعا حقيقة الأولويات الروسية ، وإن كانت تمنح نفسها، وباتفاق مع موسكو غالبا ، قدرا من حرية الحركة، يمكنها من المناورة، ومد جسور تواصل مع أوكرانيا، التى قد يجرى رئيسها "فلوديمير زيلينسكى" لقاء عبر "الفيديو" مع الرئيس الصينى ، طالب به علنا الرئيس الأمريكى "جو بايدن"، الذى يستعد هو الآخر للقاء مماثل مع الرئيس "شى"، الذى تبدو صورته كصانع سلام دولى ، أكثر مصداقية بكثير من الأطراف الغربية الغارقة حتى آذانها فى حرب أوكرانيا ، والمنهمكة فى مطاردة وهم إمكانية هزيمة روسيا فى الحرب ، ودونما أمل أكيد فى تحقيق هدف استنزاف موسكو ، أو شل الآلة العسكرية الروسية، التى لم تدخل الحرب بعد بأسلحتها الأكثر تطورا، وإن كانت حققت بالأسلحة السوفيتية المتقادمة تقدما عسكريا ظاهرا، تسعى موسكو لتحويله إلى حسم عسكرى باتر فى الشهور المقبلة، يصل بقواتها إلى إكمال الطوق فى الحد الأدنى عند نهر "دنيبرو" كمانع مائى طبيعى وكحدود دائمة، مع ترك الباب مواربا لإكمال الحملة العسكرية إلى "أوديسا"، أو حتى إلى حدود بولندا، وهو ما يعنى أن موسكو تواصل حربها بنفس مستريح، وقد لا تتأثر حملتها بوقف إطلاق نار موقوت أو مستديم مما تسعى إليه "بكين"، ويعين موسكو على فرض الأمر الواقع بالتدريج أو بالجملة، مع إنهاء وهم عزل موسكو، الذى سعت إليه واشنطن، وتتهم الصين بنية دعم موسكو عسكريا، وهو ما لم يقم عليه دليل ظاهر إلى اليوم، وإن كان التعاون العسكرى التقنى بين العسكريتين الروسية والصينية واسع الآفاق متسع المجالات وتاريخى الطابع، والمعروف أن الجيش الروسى فى المكانة الثانية عالميا بعد الجيش الأمريكى ، وأن الصين نظريا فى المرتبة الثالثة، وإن كانت أمريكا الأكثر إنفاقا بما لا يقاس، ولها مئات القواعد العسكرية حول الدنيا ، بينما الأسطول العسكرى البحرى الصينى فى الصدارة عالميا، يليه الأسطول الروسى ، فيما تتمتع القوة النووية والصاروخية الروسية بالغلبة على كل ما عداها ، وكما تحارب أمريكا روسيا فى أوكرانيا، فإنها تخطط لمحاربة الصين فى "تايوان" وفى بحر الصين، وللطرفين الصينى والروسى مصلحة مباشرة فى ردع أمريكا، وفى تحديها مع أتباعها فى أوروبا والمحيط الهادى، وهو ما يجعل شراكة الصين مع روسيا ترتقى عمليا إلى مقام الحلف العسكرى غير المعلن.

والمعنى الأخير فيما نظن ، كان المجرى الرئيسى لاتفاق "شى" و"بوتين"، فى اللقاء المغلق الذى جمعهما على مدى الأربع ساعات ونصف الساعة بقصر "الكرملين"، وعبرت عنه رمزيا محادثة الثوانى الأخيرة على باب الوداع، فنحن بصدد تغيير العالم حقا، وليس مجرد البحث عن مخرج لإنهاء حرب أوكرانيا ، والأخيرة ليست نزاعا إقليميا محصورا بين موسكو وكييف، بل تطورت إلى حرب عالمية الطابع، ربما تكون مقيدة جزئيا إلى اليوم، بحدود الجغرافيا الأوكرانية ، وباستخدام أسلحة دون المستوى النووى، وهذه الحرب لا تغير العالم بذاتها ولا بمصائرها ، هى فقط تكشف بوهج نيرانها ما جرى ويجرى ، فعبر عقود أخيرة خلت، كان العالم يتغير بضراوة وبإطراد ، وكان يعاد توزيع مراكز قوة الاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح فيه، وكان الشرق يستيقظ بعد قرون من الغياب ، وكانت الظاهرة الصينية بالذات ، هى واسطة العقد فى صحوة الشرق الجديد ، وعبر الأربعين سنة الأخيرة.

كانت الصين تصعد بقفزات كبرى، من بلد يصدر للعالم ما قيمته فى السنة 10 مليارات دولار لا غير، إلى بلد يحوز وحده 35% من التجارة العالمية، ويصدر سنويا ما قيمته تريليونين ونصف التريليون دولار، ويمد شرايين حضوره إلى أربع جهات العالم عبر خطط "الحزام والطريق"، ويحول طاقته البشرية الضخمة المجاوزة لعدد سكان الغرب الأمريكى والأوروبى جميعه ، إلى مدد لا ينضب لقوة انتاج خلاقه، جعلت الصين مصنع العالم الأكبر، وبفوائض إنتاج صناعى تتجاوز ما تنتجه أمريكا وألمانيا واليابان مجتمعة، وكانت التكنولوجيا الصينية توالى طفراتها بطرق متعددة، وتقفز فوق أعناق التكنولوجيا الأمريكية، وتهدد بإطاحة عرشها، وهو ما دفع واشنطن إلى محاولة مذعورة لحصار شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة، وعلى نحو ما فعلته مع شركة "هواوى"، التى نجحت أخيرا فى استبدال الآلاف من المكونات الأمريكية فى منتجاتها ، فكل ضربة توجه إلى الصعود الصينى ، تعود على أصحابها بخيبات مضافة، ولم تعد توجد إمكانية لمنافسة الصين، إلا بتبار حر معها، تعجز عنه آلة الاقتصاد الأمريكى، الذى يفقد طابعه الإنتاجى بإطراد، وتتعملق ديونه ، ويضعف تحكم دولاره، ويتواضع ناتجه القومى الإجمالى وينزل عن عرش العالم، بل نزل فعلا من سنوات، فالناتج القومى الصينى صار الأول عالميا بمعيار تقابل القوى الشرائية الحقيقية، وسيصبح الأول عالميا حتى بالقيمة الإسمية فى مدى خمس سنوات مقبلة، وهو ما يدفع واشنطن لاستفزاز عسكرى محموم، تحاول به لجم حركة الصين، لكن التحرك الأمريكى فات عليه الأوان كما يبدو ، بسبب حكمة السلوك الصينى، وتمدد قوة الصين من الاقتصاد إلى السياسة والسلاح، وتقدمها إلى فراغ تتركه أمريكا من ورائها، مع تركة مظالم تجعل أمريكا مكروهة عند شعوب الجنوب العالمى بالذات، فى مقابل صورة الصين الخالية من أى أرث استعمارى عدوانى، والمتحالفة مع الشرق الأوراسى، ومع روسيا نصف الأوروبية نصف الآسيوية، وعبر تكتلات "بريكس" و"البنك الآسيوى" وسلة العملات الجديدة وغيرها، وتحاصر سلطان أمريكا الذى يشيخ، وتبنى عالما جديدا متخففا من تحكم القطب الواحد الأمريكى الغربى عموما، وهو ذات العالم الذى تطمح روسيا اليوم لصناعته .
[email protected]