في عيد «ست الحبايب».. أمهات على جبهة النضال في الحياة

بائعات الخضار في الأسواق
بائعات الخضار في الأسواق

علا نافع

في عيد الأم تتصدر صور أمهات مكافحات واجهات الصحف، وتحت كل صورة حكاية تحكي رحلة شقاء كُلِلت بالنجاح، لكن هناك آلاف الأمهات اللاتي يقبعن في الظل، لا ينتظرن تكريمًا أو حتى عبارات شكر، فما يسري بشرايينهن دماء أبية خالصة.. آلاف الريفيات تحملن مرارة الأيام وشقاءها حتى أوصلن ذويهن لبر الأمان، بل إنهن وقفن بجانب أزواجهن حتى استقامت حياتهن الأسرية، ولم يعبأن بتقلبات الزمن أو غدره، فوراء كل ألم أمل، ينبض بداخل قلوبهن الطيبة.

لا تعلم «أم محمود» البالغة من العمر 65 عامًا أن هناك عيدًا للأم تحتفل به مصر، ويتم فيه تكريم الأمهات المكافحات، لا تعبأ بمظاهر الاحتفال البراقة، إذ يكفيها عودتها لأسرتها الكبيرة ممتلئة اليدين برزق يسير، تشق قدماها طرقات قريتها العتيقة في الجيزة بالصباح الباكر، تحمل على رأسها الضئيل إناء واسعًا من الألومنيوم بها جبنة قريش وزبدة، وبجانبها كميات من البيض، وفى اليد الأخرى تحمل كيسًا كبيرًا به حزم من الفجل والجرجير الطازج، تهرول مسرعة لتلحق بسيارة نصف نقل تحملها مع صديقاتها إلى أحياء القاهرة لتبيع بضاعتها تلك.

 تلتقط أذنها أغنية على الحجار «مرمر زماني» خارجة من راديو قديم على طريق مركز العياط، وفيها يقول: «أبوس أيدين بياعة الفجل، بتبيع ثمار ولا تستثمرش، مرمر زماني، زمانى مرمرش»، تغمض عينيها وتسترجع ذكرياتها بعد طلاقها من زوجها منذ أكثر من أربعين عامًا، ففي تلك السنوات القاسية ذاقت الأمرّين كي تتحصل منه على نفقة أبنائها الخمسة دون جدوى، لتقرر العمل كبائعة لمنتجات الريف بأحياء القاهرة الراقية وتحديدًا منطقة الزمالك.

وعامًا تلو الآخر ورغم المشاق التي تكبدتها خاصة في نهارات الشتاء الباردة وقيظ الصيف، فإنها كانت تشعر بلذة ممتعة بينما كانت ترى أبناءها يكبرون أمام عينيها ولسان حالهم يرسل لها أسمى عبارات الشكر والامتنان. لم تتوقف «أم محمود» عن عملها بالبيع فقد اعتادت ألا ترفض رزقًا أو تترفع عنه، فعملها عبادتها، على حد قولها.

ضل راجل
لم تكن أم محمود وحدها التي تحملت مسئولية قاسية تخلى عنها الرجال، فهناك الآلاف من بائعات الريف اللاتى حرصن على صون حرمة بيوتهن وتربية الأبناء تربية صالحة، بل وفى بعض الأحيان رعاية الزوج العاجز والتكفل بكل نفقاته مهما بلغ حجمها، لا ينتظرن الثناء مقابلًا لتلك التضحيات، فأغلبهن يقبع فى الريف بعيدًا عن أضواء المدينة المبهرة ومغرياتها المتعددة، يشعر أغلبهن أن ما لم يستطعن تحقيقه من تحصيل علمى قد جناه أبناؤهم وأحفادهم.
فأم عبدالعزيز المرأة التى تجاوز عمرها السبعين عامًا لم تجد غضاضة فى أن تتحمل مرض زوجها الذى دام لأكثر من عشرين عامًا بنفس راضية، وابتسامة بشوشة، لا تتوقف عن إطلاق نكاتها الخفيفة كى تدخل على روحه البهجة.. الحب والعشرة هما محركاها الأساسيان فى تقبل تلك المسئولية، تقوم بكافة مسئولياته من رى لأرضه الزراعية وتسمين المواشي، فقد وجدت فى زوجها «ضل راجل» لا يمكنها الابتعاد عنه.
وتقول: تزوجتُ منذ أكثر من خمسين عامًا من ابن عمى الذى كنت أحبه منذ نعومة أظافري، واستمرت الحياة بحلوها ومرها حتى داهمه مرض تليف الكبد وحينها اسودت الدنيا بعيني، ونصحنى بعض الصديقات والجارات بالطلاق، لأن هذا المرض من الصعب علاجه، لكنها لم تلقِ بالًا لتلك النصائح المؤذية واستمرت فى رعايته بلا تذمر أو حزن.

وتضيف: أصبحت لديّ مسئولية كبيرة وهى رعاية ثلاثة أطفال بجانب الأرض الزراعية وتربية المواشي، وبيع الجبنة واللبن بأحياء القاهرة أيضًا، فقررتُ مواصلة الرحلة والقيام بأعمال زوجى مهما كلفنى الأمر أو إحساس الشقاء، وذلك بمساعدة أشقائى وبعض الأقارب، مشيرة إلى أن مرض زوجها كلفها أموالًا طائلة دفعها لاقتراضها من الكثيرين حتى وفاته قبل سنوات.
وترى أن المرأة المصرية هى الأكثر تحملًا ومساندة لزوجها مقارنة بكل نساء العالم، فعندما تشعر بحاجته للمساعدة فإنها تهُب لمؤازرته والوقوف بجانبه مهما كلفها الأمر، مؤكدة أن العِشرة والكلمة الطيبة هى التى تدفع الزوجة لذلك، فضلًا عن وجود الأبناء.

الخالة والدة
قد يبدو غريبًا أن تتخذ امرأة ريفية قرارًا بعدم الزواج كى تربى أبناء شقيقتها اليتامى، وتتشبث به رغم لوم الأقارب والمحيطين لها، لكن «صباح» رأت أن قرارها هذا هو الأصوب خاصة بعد زواج زوج شقيقتها من امرأة أخرى، وهجره لأبنائه، فباتت تعمل كأجيرة بالأراضى الزراعية نظير جنيهات معدودة تكفيهم بالكاد، فهداها تفكيرها لأن تصنع الفطير المشلتت والرقاق الفلاحى وتبيعه للزبائن بمدينة الزقازيق القريبة منها.
ومع اليوم الأول لبيعها تلك المنتجات لاقت رواجًا كبيرًا وحظيت بالعديد من الزبائن والمعارف الكُثُر الذين هاموا فى حب ما تصنعه يداها، ونجحت فى تربية أبناء شقيقتها الذين ينادوها «أمى صباح»، وبعد وصولها لعامها الخامس والخمسين قررت صباح الاستقرار فى قريتها واعتزال العمل بعد إلحاح من أبناء شقيقتها، ولسان حالها يتمتم بعبارات الحمد لربها.

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 22/3/2023

اقرأ أيضأ: رئيس «العربية للتصنيع» عن عيد الأم: نحتفل بقيم التضحية والإخلاص والعطاء