كنوز| حوار السماء والأرض بين «العقاد» وسعد زغلول

أرشيفية
أرشيفية

اتشح الثانى عشر من مارس عام 1964 بالحزن النبيل فى كل مصر، محافظة أسوان استقبلت يومها جثمان العبقرى العملاق عباس محمود العقاد ليدفن فى ترابها بمقبرة تليق بمسقط رأس ابن مصر البار وفيلسوفها ومفكرها صاحب «العبقريات» الخالدة، الذى لم يحصل إلا على الابتدائية، ومع ذلك أتقن الإنجليزية والفرنسية والألمانية وقرأ أربعين ألف كتاب، وساهم فى الكشف عن أصالة الثقافة الإسلامية العربية بدقة التعبير وروعة البيان.


وفى الذكرى 59 لرحيله، نعيد نشر الحوار الذى تخيله «العقاد» مع الزعيم الخالد سعد زغلول بعد رحيله وخص به مجلة «الاثنين والدنيا» الذى يقول فى مقدمته إنه كان أول صحفى يتحدث إلى سعد زغلول زهاء ساعتين فى ديوان وزارة المعارف العمومية، ويستطرد واصفا الحوار الأخير الذى تخيله مع الزعيم وهو فى عالم الخلود فيقول: 
«لما لقيته المرة الأخيرة كان اللقاء فى عالم الخلود، فحيانى باللقب الذى كان يحيينى به على الدوام «أهلا بكاتبنا الجبار، خيراً يا عقاد»، قلت «كل الخير أيها الزعيم العظيم هل تذكر أننى كنت أول المتحدثين إليك باسم الصحافة المصرية فى عالم الفناء؟»، قال «نعم، نحن لا ننسى هنا شيئاً من الأشياء التى عبرت بنا فى حياتنا الأولى، وقد كان ذلك منذ..»، قلت «لا لزوم أيها الزعيم لذكر التواريخ، فنحن اليوم فى أوائل سنة 1946».

اقرأ أيضًا| الدكتور هشام عيسى.. قضى شبابه في مداواة العندليب ورحل في ذكرى وفاته


قال «أو تريد حديثا جديداً بعد تلك الفترة الطويلة؟»، قلت «وهل عليك من رقابة هنا وأنت لم تحفل فى عالم القيود والسدود برقابة المستشار ولا رقابة اللورد الكبير؟»، قال «لا رقابة والحمد لله، ولكننى حسبت أننا «خلصنا «من الأسئلة والأجوبة بعد سؤال الملكين»، قلت «ومن كان مثلك لن يهمه أن يتجدد سؤال الملكين مرة كل يوم أو كل ساعة، فلن يسفر ذلك إلا عن تشريف وتمجيد»، راقته التحية وقال مبتسما «سل ما تريد»، قلت «هل تطلعون هنا على شئون القضية المصرية؟»، قال «نحن لا ننقطع عنها ولانزال فى هذا العالم الخالد على مقربة منها»، فسألته «وما رأيك فى حركتها الأخيرة ؟»، فأجابنى سائلا « تعنى حركة الشباب؟»، قلت «نعم»، قال «إن الشباب ميزان الحرارة الذى لا يخطئ، وفى وسعنا ان نعرف منه أعلى ما وصلت إليه الحرارة الوطنية فى كل موقف من المواقف الخطيرة»، وابتسم ابتسام الخالدين الذين يعطفون على الصبا الذاهب فى أيام الحياة الأرضية، ثم عاد يقول «لقد عرفت نفسى فى سنة 1882 وعرفت الجيل الناشئ فى سنة 1919 فكأننى رجعت إلى صباى بعد زهاء أربعين سنة، لأننى رأيتهم يثورون كما ثرت، ويشعرون كما شعرت، ويصيبون كما كنت أصيب، ويخطئون كما كنت أُخطئ، ويكررون من وحى البديهة ما بدأناه قبلهم، فكان لى من حركتهم الجديدة صبا جديد»، قلت «فما هى نصيحتكم لشباب الجيل الحاضر فى نخوتهم الوطنية وقد شهدتم نهضتين من نهضات مصر وهذه هى النهضة الثالثة على فاتحة الطريق؟».


قال «أما الإخلاص فليثأروا عليه ولا نصيحة لهم منا فى بابه إلا أن يستزيدوا منه ما استطاعوا، وأن ينبذوا من بين صفوفهم كل من يقصر فى إخلاصه، وأما ما عدا ذلك فليس على الشباب فيه من حرج، ما داموا يأتون الأمور من أبوابها كما يقال فى الأمثال»، قلت «وكيف يأتون الأمور من أبوابها؟»، قال «عليهم أن يدركوا الفارق بين أمس واليوم، ولهم بعد ذلك أن يصنعوا ما يشاءون»، قلت «وما الفارق بين أمس واليوم؟».


قال «فوارق كثيرة لا فارق واحد.. فبالأمس كانت الدعوة الوطنية هى الدعوة الوحيدة التى تسمع فى الديار المصرية، أما اليوم فهناك دعوات أجنبية إلى المذاهب الهامة، تغتنم الفرصة لكى تندس بين الصفوف وتحول المطالبة بالاستقلال إلى مطالبة بالفوضى بين الطبقات، تمهيداً لهدم المجتمع المصرى كله من أساسه، وهذا وبال على مصر كوبال الاستعمار أو يزيد، وبالأمس كانت السياسة للسياسة والدين للدين، وكان لكل منهما رجال يخدمون فى ميدانه، فينبغى أن يظل الأمر كما كان عليه، وبالأمس كان تعجيز الحكومة القائمة نجاحا للقضية المصرية، لأن الحكومة القائمة كانت أجنبية، أما اليوم فتعجيز المصريين عن الحكم، هو اتهام للمصريين أنفسهم، وفشل للقضية المصرية، فإذا تذكر الشباب جميع هذه الفروق، فليسر فى نهضته على بركة الله».. سألته السؤال الأخير لأن المجال لا يحتمل الإطالة: «وبماذا توصون الأمة الآن؟»، فأجابنى إجابة العزم واليقين قائلا: «لا نزاع فى واجب الأمة المصرية بأسرها فى موقفها الحاضر، فواجبها بغير خلاف هو إعطاء الفرصة الكاملة للمفاوضين، لأنهم إذا بلغوا ما تطلبه فذلك خير للجميع، وإذا قصر بهم السعى دون ما نطلب أو دون ما يطلبون فلن يفوتنا يومئذ أن نتلقاهم بالنقد أو بالملام، اعطوهم الفرصة الكاملة، وأنتم على الأقل واثقون من شيء واحد، وهو أن يكون النفع لكم فى حالة النجاح، وأن يكون اللوم عليهم لا عليكم فى كل تقصير».. حييت الزعيم الخالد وأنا أفتح عينى على تمثاله القريب منى فى الصباح والمساء.
«الاثنين والدنيا» مارس 1946