أنشودة الصخر والرمان

«هامبيك» فى ورشته بـ«يريفان» ومن ورائه «الخاتشكار»
«هامبيك» فى ورشته بـ«يريفان» ومن ورائه «الخاتشكار»

يقال إن للسفر فوائد سبع ، من أهمها التعرف على الآخر من خلال ثقافته وفنونه ، لأن الفن يعكس هوية الشعوب ويختصرها، وفى أرمينيا، تتفاعل مكونات الهوية وتتناغم فى تآلفٍ عجيب، فاللغة والموسيقى والطبيعة من جبال وغابات وأنهار مع وجوه البشر تشترك جميعها فى سيمفونية سمعية بصرية شديدة الإحكام والجمال، فلا مجال هنا لنغمة شاذة أو لصوت نشاز، وكلما زرت أرمينيا لمست ذلك أكثر وأكثر.

كان تكرار هذا الإيقاع الثرى وتشابكه المعقد يفرض نفسه برشاقة على كل مناحى الحياة ، فأراه يتجلى فى التخطيط الهندسى للعاصمة «يريفان» بصرياً، وتكويناً فى تماثيلها وكتلها المتناثرة بدقة فى أنحائها، ولونياً فى اكتساء أبنيتها - القديم منها والحديث - بحجر ال «توف» البركانى بألوانه الوردى والرمادى والأسود، وصوتياً فى الإستماع إلى أحاديث الأرمن بلغتهم الفريدة الغنية بتعابيرها، وموسيقاهم وأغانيهم البلدية الشعبية العتيقة.

ويخلق كل ذلك تمازجاً عذباً، ووحدة ثقافية صلبة ، تعكس أصالة هذا البلد وتماسك مكونات هويته التى تعكس حضارته الممتدة لآلاف السنين والتى تروى الكثير عن أرمينيا وأهلها.

ولم تكن العوامل المذكورة - وعلى رأسها الطبيعية والجغرافية - فقط هى المحرك الرئيسى الفاعل فى تشكيل الهوية الثقافية للشعب الأرمني، بل كان للأحداث السياسية والحروب وما أفرزته من معاناة على مدى عقود طويلة دور كبير فى هذا التشكيل، وفما بين أحداث الإبادة العثمانية للأرمن والتى استمرت لأكثر من عقدين من الزمن ولكنها بلغت أوجها فى عام 1915 ، وسنوات الحكم السوفييتى السبعون، بالإضافة إلى حرب تحرير إقليم آرتساخ/ناغورنو-كاراباخ فى مطلع تسعينيات القرن الماضي.

وحرب 2020 الأخيرة التى شنتها أذربيجان على الإقليم ذاته أشد الأثر فى تكوين المشهد الثقافى الأرمنى على صعيديه فى الداخل الأرمنى وعلى شتاته فى قارات العالم الست، بل ونراها ترمى بظلالها على الشعر والنحت والموسيقى والرقص والرواية والسينما وغيرها من القوالب الفنية.

قالبان فنيان شعرت أنهما قد يقربان للقارئ العربى ويوجزا له هذا الانعكاس الفريد للثقافة الأرمينية والتى تمزج بين تاريخ عريق يمتد لآلاف السنين بأهازيجه ومنحوتاته وشعره، وحاضر ثرى بموسيقاه وأدواته الفنية المعاصرة فى محاولة لإيجاد لغة جديدة تخلق جسوراً لتعرف الآخر بهوية أرمينيا الفريدة.

وأول هذين القالبين هو «الخاتشكار» أو «الصليب الحجري»، حيث اتخذ النحاتين الأرمن من بيئتهم الجبلية المحيطة وصخورها أدوات لتدوين أشكال مزخرفة، شديدة الدقة، تعكس المعتقد الإيمانى الأرمنى المسيحى بالأساس، بالإضافة الى الرموز الأرمنية القديمة كال «أريفا خاتش» أو «الصليب الشمسي» مع موتيفات نباتية للمزروعات والفواكه المحلية الأرمنية كالعنب والرمان واللذان يرتبطان إرتباطاً لصيقاً بأدبيات الشعب الأرمني.

فثمرة الرمان بحباتها الكثيرة على سبيل المثال ترمز إلى الشتات الأرمنى بعد أحداث الإبادة، وكيف - رغم التشتت - إلا أن ثمرة الرمان (والتى تمثل أرض أرمينيا الأم) استطاعت أن تحتضن أبناءها رغم غربتهم، أما العنب فيرتبط فى الذاكرة الأرمنية بشخصية النبى «نوح» فى الكتب المقدسة، حين رسى فلكه على جبال «آرارات» الأرمنية، فوجد فى سهله شجر العنب الذى أعد منه ألذ العصير.

 

 

ويقول صانع الخاتشكار الشاب «هامبيك ف. هامباردزوميان»: «إن الخاتشكار يعكس ما هو أكثر من مجرد دقة صناعته وحرفة نحاتيه، بل هو فى الحقيقة رمز يختصر الهوية الأرمنية بكل تفاصيلها، تاريخها، أحزانها، نضالها من أجل البقاء، وأكثر.

والأهم، أنه يعكس الأمل الكامن بداخلنا فى مستقبل مشرق لنا ولكل البشرية رغم الواقع الآنى وتحدياته الصعبة». 

«هامبيك» فنان وصلت منحوتاته إلى الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، بالإضافة إلى مناطق أرمنية عديدة. يعمل «هامبيك» كصانع للخاتشكار منذ سن العاشرة مع والده «فارازدات» فى قلب العاصمة الأرمنية «يريفان» مع فريقه الصغير، والذى يجمعهم كلهم حبهم لوطنهم وإدراكهم لقدرة الخاتشكار على إيصال ما تعجز السياسة عن وصفه.

تربى «هامبيك» فى أرمينيا، الوطن الأم، حيث يشاركه اللغة والهوية «ناريج هاروتونيان» الفنان الأرمنى المولود فى بيروت، لبنان، والذى تربى فى الولايات المتحدة الأمريكية ويعيش حالياً بينها وبين أرمينيا.

وأما القالب الثانى فيتعلق بالموسيقى الأرمينية، والتى ترجع أصولها إلى عصور غابرة، فموقع أرمينيا الحالى والذى لا يتعدى نسبة العشرة بالمائة مما كانت عليه حين امتدت حدودها فى عهد الملك «تيجران الكبير» من البحر المتوسط إلى بحر قزوين (140 الى 55 قبل الميلاد).

وقد أتاح لأرمينيا أن تكون جسراً ثقافياً بين الشرق والغرب، فأضحت تصهر كبوتقة - ومن خلال تفردها الجغرافى والثقافى - تغزل وتحيك ثوبها الفنى الخاص فى الشعر والأدب والموسيقى.

وأسس «ناريج» معهد «ناريجاتسي» للفنون، والذى يعنى بتقديم وحفظ صور الفن الأرمنى التقليدى المختلفة كالشعر والموسيقى والتصوير الفوتوغرافي. فى حضورى لفعاليات «ناريجاتسي» المختلفة وجدت الفنانين الموسيقيين الأرمن الشباب يتوهجون فى حفلات أوركسترا ناريجاتسى متوحدين مع آلاتهم الشعبية الأرمنية كالدودوك والسانتور والتار وغيرها. بعزفهم، أشعرونى والحضور بقوة ودفء أعمال الملحنين الأرمن العظام آرام خاتشاتوريان، و أفيديس أفيديسيان والمولودة من أنامل أحفادهم العازفين الصغار أبناء الثامنة عشرة والعشرين عاما.

ويحمل «ناريج»رؤية كوزموبوليتانية للفن الأرمنى بوسائطه المتعددة ويراها تستطيع أن تخاطب الجمهور العالمى إذا اتيحت الوسائل الممكنة لذلك، فكونه من أرمن الشتات، فقد لامس وتعامل واحتك بثقافات عالمية مختلفة، وقد تبلور ذلك فى ذهنه منذ كان صغيرا.

ومما دفعه بعد ذلك لإنشاء معهد ناريجاتسى للفنون وقد تأسست به فرقاً فنية عديدة داخل يريفان وخارجها فى مدن أرمنية مختلفة كمدينة «شوشي» والتى احتلت من قبل أذربيجان فى حرب عام 2020.

ويكمل «هامبيك» و «ناريج» رؤية بعضهما البعض، فتواجد الأول والتصاقه بالوطن الأم وبقائه فى أرمينيا، مع انفتاح الثانى و احتكاكه بالمشهد الفنى الثقافى العالمى مع حفاظهما على خصوصية وفرادة الفن الأرمني، يتيح ذلك الفرصة لتصدير منتج فنى فى إطار عالمى مغروس فى هوية واعية فى فضاء ثقافى متعطش لهذا النوع من الإنتاج المحلى المتميز.

جديربالذكر أيضاً تجارب أرمنية موسيقية ذات طابع عالمى كفرقة مثل: Element Band بقيادة «آرا داباندجيان» و The Naghash Ensemble بقيادة «جون هوديان» واللذان يعنيان فى المقام الأول بإعادة اكتشاف التراث الموسيقى الأرمنى المغنى والمعزوف بين ما وثقه الراهب الأرمنى «كوميتاس».

وما قبله، حيث استطاعت الفرقتان خلق مساحة فريدة من التواصل بين الجماهير العالمية غير الأرمنية لتتذوق وتقدر الفن الأرمنى فى قالب فنى يجمع بين أصالة التقليدى وحداثة الآنى.

ولا يتسع هذا المقال القصير بعدد كلماته المحدود رصد المشهد الثقافى الأرمنى بأكمله، ولا يكتمل إلا بالحديث عن المسرح والسينما والأدب والشعر والفن الحديث وقضاياه التى تعكس إشكاليات المجتمع الأرمنى كنمط الحياة بعد الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي، والهوية الأرمنية بين الماضى والمستقبل وغيرها من القضايا اليومية وبالأخص بعد حرب عام 2020 الأخيرة والتحديات الجغرافية التى تواجه أرمينيا فى منطقة شديدة الحساسية كجنوب القوقاز.

اقرأ ايضاً | أرمينيا ما بعد الحرب والشتات : صراع الهوية والحداثة

نقلا عن مجلة الادب : 

2023-2-26