يوميات الاخبار

أيام... قلبى فيها عاش

أمانى ضرغام
أمانى ضرغام

حتى جاء يوم الأربعاء 26 يناير 2022 ، وشعرت وقت أن وضع ياسر رأسه على كتف عمر وهو يردد الشهادة، أن الدنيا لا تساوى جناح بعوضة

الذكريات جزء مهم فى حياتنا... بها نعيش ونستمد طاقة إيجابية لأيام قد تأتى قاسية، لذلك يبقى جمال الذكريات حتى وإن كانت مصحوبة بقليل من الألم أو كثير من التوتر والقلق، ومخزون كل واحد منا من الذكريات ما هو إلا تشكيل لوعى خاص مطبع بطبع صاحبه وظروفه التى مر بها، لكنها فى النهاية تظل النقطة التى كلما تذكرتها ضحكت من قلبك على ما كان وما لم يكن.


السبت:
 أفتح الباب لعامل الدليفرى وأقول فى نفسى يا خبر أبيض الحساب يقترب من الـ200 جنيه وأنا لا طلبت لحمة ولا فراخ، فينظر إلىّ الشاب نظرة استغراب وكأننى جاية من عالم بعيد.. فأعتذر له ..
ومن الباب إلى المطبخ أتذكر واقعة حدثت عام 1995 وكنت وقتها متزوجة منذ شهور وسافر ياسر رزق زوجى (الله يرحمه) لتغطية فعاليات مؤتمر مهم لرئيس الجمهورية، ووجدت ياسر يحدثنى على التليفون الأرضى قائلا: أنا رايح أتغدى مع الرئيس مبارك، وكان بالفعل الرئيس مبارك رحمه الله قبل بداية المؤتمر دعا بعض الصحفيين للغداء ومنهم ياسر وبعض الزملاء ربنا يديهم طولة العمر...


 وكانت الأسعار فى ذلك الوقت «نار» وكل حاجة غالية وكيلو اللحمة قفز من 16 جنيها إلى 32 جنيها واختفت اللحمة البتلو من الأسواق وفق قرار من الدولة للحد من ذبح صغار الأبقار... وبعد الغداء راح الرئيس مبارك يسأل الصحفيين ويرد على تساؤلاتهم فى أمور عامة، فتحدث ياسر عن الغلاء وارتفاع الأسعار، ومعاناة الناس.. فسأله الرئيس مبارك أنت صحفى ومعين فى مؤسسة كبيرة مرتبك كام؟ فرد عليه ياسر بالأقساط ولا من غير الأقساط وضحك الجميع، ولكن الرئيس مبارك أخذ الموضوع موضع الجد وقال له عاوز أعرف بتمسك فى إيدك مرتب كل شهر قد إيه، فقال له ياسر 450 جنيها بعد الأقساط، فرد الرئيس مبارك: أنا وأنا قدك فى السن مكنش مرتبى كده خالص والأسعار كانت بترتفع برضه.
ارتفاع الأسعار فى مصر والعالم وموجات الغلاء تهدد الجميع لكن الحمد لله الدنيا بتمشى، والشعب المصرى قادر على التحايل على الظروف مهما كانت صعبة، لكن ينقصنا الإنتاج.
عندما يتحول كل منزل إلى وحدة منتجة بالتأكيد ستتغير الظروف والأحداث كثيرا.


الجمعة:
أسمع فى الإذاعة برنامجا عن حكاية بوليسية، برنامجا أعشقه منذ كنت فى الجامعة، وكان ياسر يعرف هذا عنى، كل يوم جمعة من الساعة الواحدة وحتى الثانية الراديو فى المطبخ لكن صوته واصل للبيت كله ولا حس ولا نفس بسمع البرنامج، ومنذ سنوات قررت الإذاعة إلغاء البرنامج واحتج المستمعون وأرسلوا رسائل وكلم ياسر رئيس الإذاعة فى هذا الوقت وقال له: البرنامج بيتصل بيه كل يوم جمعة عشرات المواطنين وبيسمعه ملايين غيرهم إزاى تلغوه...وبالفعل استمر البرنامج، ولكن استمر ياسر كل يوم جمعة يذكرنى بفضله فى استمرار البرنامج الذى أحبه وأنا أقسم بكل غالٍ أنه ليس تدخله فقط ولكن رغبة ملايين المستمعين وهو لا يقتنع، الجمعة الماضية كانت الحلقة عن سرقة تطعيمات الأطفال وتذكرت كيف كنا نحمل أطفالنا أنا وياسر إلى مكتب الصحة بمدينة نصر بعمارات عثمان حتى نعطيهم التطعيمات فى وقتها، وفى كل مرة أسمع من ياسر نفس القصة، مصر من الدول القلائل جدا التى توفر تطعيمات على أعلى مستوى للأطفال وبالمجان، بل إن التطعيم فى مراكز الصحة أفضل من التطعيمات فى العيادات الخاصة، وأرد أنا أن التطعيمات فى العيادات الخاصة جيدة أيضا.. فيقول ياسر بكل ثقة هنا فى مكتب الصحة مئات يأتون يوميا للتطعيم والتطعيمات عليها رقابة صارمة، فى العيادات قد تظل زجاجة التطعيم شهورا تنتظر طفلا...اسمعى الكلام وبطلى تردى الكلمة بكلمة مفيش تطعيم غير فى مكتب الصحة...التطعيم طازة، وطبعا كنت أسمع الكلام وقتها على مضض، فمكتب الصحة زحمة وأنا أكره الزحام جدا، لكن الآن عندما تسألنى ابنتى عن تطعيم حفيدتنا، أجدنى بتلقائية أقول أهم حاجة تطعيمات مكتب الصحة دى تطعيمات طازة ومضمونة، بعد كده التطعيمات الزيادة ماشى ناخدها عند الدكتور.


الخميس:
الخميس السابق لهذا الخميس كانت ذكرى مرور عام على ذهاب زوجى إلى الجنة بإذن الله...رغم أننا بدأنا بزيارة المقابر وكان معنا الأهل والأصدقاء طوال اليوم وختمنا اليوم بدرس دينى وخاتمة قرآن لياسر الله يرحمه.. إلا أننى مازلت أخزن الأحداث التى تحدث طوال اليوم فى ذاكرتى حتى أحكيها...أحكيها لياسر.
فقد تعودت منذ زواجنا أن أحكى له بالتفصيل الممل عن كل ما حدث طوال اليوم... وحتى الأشياء التى كان الأولاد يخشون من رفض أو زعل ياسر وكانوا يستحلفوننى بكل غال حتى لا أحكيها له كنت برضه بحكيها، لدرجة أن أولادى أطلقوا عليا ماما مفيش فايدة، مهما وعدتهم ومهما قلت السر فى بير كنت لازم أقول لياسر كل حاجة وبالتفصيل، وهو كان لا يسكت لازم يعرّفهم أنه عارف كل حاجة وأن كل التفاصيل عنده، ...مازلت أنا نفس الشخص الذى لا يكل ولا يمل من الحكى لزوجى...أحكى له كل يوم عن الأولاد والعمل والبيت والشارع وما شاهدته فى التليفزيون ماعدا المسلسلات فقد كان لا يحب المسلسلات إطلاقا.


الأربعاء:
كان يوم الأربعاء بالنسبة لى يوما عاديا لا أحبه ولا أكرهه يوما غالبا بيتنسى فلا هو فى وسط الأسبوع ولا أوله ولا آخره... يوم وخلاص ...حتى جاء يوم الأربعاء 26 يناير 2022 ، وشعرت وقت أن وضع ياسر رأسه على كتف عمر وهو يردد الشهادة... أن الدنيا لا تساوى جناح بعوضة، وأن الموت قادر على أن يخطفنا بسرعة البرق... سمعت جملة «يابخته» كتير فى ذلك اليوم، فقد سلم أمره لله بسهولة ويسر كانا عنوانا لحياته...أستغفر ربى وأتوب إليه وأنا أراجع نفسى هل فعلا ياسر كان عاوز يمشى...كثيرا ما قلت له تمسك بالحياة، ربى أولادك يا ياسر...افرح بيهم... ولكنه كان يخطو مسرعا للقاء ربه، كنت أراه بنفس الحماس ونفس المحبة والوجه الباسم الهادئ عندما كان يذهب إلى تغطية عمل ما أو مؤتمر صحفى... حتى عندما عدنا من فرنسا بعد رحلة علاجه وطلبت منه ألا يرهق نفسه بالعمل ويخاف على صحته، فتجربة الجراحة كانت صعبة بل من أصعب ما يمكن.. لكنه كان يردد سأظل أعمل حتى ألاقى وجه رب كريم... قبل الوفاة بأيام كنا عند دكتور القلب وطلب منه الدكتور الراحة حتى يوم الخميس التالى لنجرى فيه قسطرة على القلب، وسأل ياسر الدكتور أحمد الجندى طبيبه المعالج...إيه رأيك نعمل قلب مفتوح ونخلص من قصة الدعامات... ورد الدكتور بصوت منخفض...صحتك متستحملش قلب مفتوح...وتصورت أن ياسر لم يسمع ولم ينتبه لرد الدكتور فقلت معقولة يبقى قدامنا نعمل قسطرة بس ونفكر فى قلب مفتوح وكورونا لسه ماليه الدنيا...فربت ياسر على كتفى وقال متطلعا لمنظر النيل الخالد...شكلها قربت خلاص.


الثلاثاء:
رحلات كثيرة ذهبنا فيها للفسحة كأسرة سواء داخل مصر أو خارجها، لكن تبقى رحلة الأقصر وأسوان مع نقابة الصحفيين فى عام 2008 هى الرحلة التى لا يمكن أن تنسى.
أنا بالنسبة لى كانت أول مرة أزور أسوان والأقصر وياسر ذهب الى هناك عشرات المرات فى عمل والأولاد يستكشفون عظمة بلادهم... كنا نقيم فى استراحات المهندسين وهى مجموعة من الفيلات التى كان يعيش فيها مهندسو بناء السد العالى ويتوسطها مطعم كبير فى مكان ظلاله وارفة ومطل على أوسع مكان فى نهر النيل.. وأتذكر أننا فى مساء أول يوم خرج إلينا فأر صغير من جهاز التكييف وظللنا طول الليل أنا والأولاد خايفين ننام وشبه واقفين فوق كنب الأنتريه خوفا من مرور الفأر بينما دخل ياسر إحدى الغرف ونام وقال لما تلاقوا الفار صحونى... وفى الصباح نادى ياسر لأحد العمال وأغلق عليه نفس الغرفة وخرج العامل بالفأر الذى كنا مرعوبين منه وهو بعيد عننا، وفى مساء يوم تالٍ قرر ياسر أخذ عمر إلى السوق ليقص له شعره وقد كانت موضة الشعر الطويل وياسر لا يحب الرجال أصحاب الشعر الطويل.. وبالفعل ذهبنا لحلاق فى السوق وهناك سمعنا صوتا لمغنية من السودان صوتها عذب عذوبة النيل...ولأنى دائما لا أنسى طبيعتى كصحفية كثيرة السؤال سألت الرجل عن المطربة والأغنية وسبب المحبة، فحكى عن أنه ذهب لزيارة صديقه فى السودان وكان يائسا من عدم وجود عمل وبقى عنده ضيفا ثلاث سنوات، وعندما قرر العودة لمصر طلب من صديقه أن يزوجه أخته فتزوجها وعاش هناك ثلاث سنوات أخرى... ثم عاد إلى مصر وهو يعشق السودان وأهلها وتراثهم الغنائى والفنى الثرى... وكانت هذه أول مرة يتركنى ياسر أسأل وأسمع حكايات دون أن يحتج أو يبرق لى حتى أسكت فقد كان الرجل محبا صادقا طيبا يحكى عن زوجته وأهلها وكأنهم من أهل الجنة.