اعترافات اليتيمة التي عشقت «جاهين»: أبهرتني إنسانيته وليست شهرته

اعترافات اليتيمة التى عشقت «جاهين»: بهرتنى إنسانيته وليست شهرته
اعترافات اليتيمة التى عشقت «جاهين»: بهرتنى إنسانيته وليست شهرته

كتبت : فادية البمبى

«صورة شخصية لزوجة شاعر» سيرة كاشفة لأرملة شاعر العامية الفذ، والمبدع الشامل الراحل صلاح جاهين الفنانة منى قطان، قصة «رجل وامرأة»، تعاهدا أن يعيشا معًا على الحلوة والمُرة، نرافق فيها العاشقَين على دربهما المجدول من حرير وشوك، حيث حدس شاعرها الفطري، يمنحها مرفأً أكثر أمنًا، وهى عروس شِعره الملهِمة، بينما يستمدان الراحة من وجودهما معًا، مشتبكى اليدين على قمة العالم.

إنها سيرة ممتعة نرى من خلالها زمنا ولى،تجمع بين بساطة ظاهرية وتجربة حياتية ثرية وعميقة، إذ جاء فى تصدير كتابها الصادر عن دار الكرمة، الشيء الوحيد الذى كانت «هي» متيقنة منه: أنها تحب ذلك الرجل، بعمق، رجلًا لم يكن يشبه فى شيء نجوم السينما فى «هوليوود».

وإلا أنه كان أروع إنسان عرفته، واستطاعت أن تتواصل معه، وهى الخجولة الصموت بطبعها، اختارت هي- فى الستينيات-العودة إلى مصر، ظنا منها أنها تملك بعض النفع لهذا الجزء من العالم؛ إلا أنها اكتشفت أنها لا تملك مقومات تحقيق إنجاز كهذا، كانت النجومية والنبوغ والتفوق.

ويبعث فيها الشعور بالوحدة. وعلى الرغم من أنه كان دائما محاطاً بالمحبين والمعجبين، فقد كان نجاح شاعرها يخلق فى المقابل نفوسا حاسدة تبحث دوما عن أى مبرر لمهاجمته، وكانت هى واحدة من محبى فنه الأوفياء.

وإلا أنها أحبته لصفاته الشخصية، كرجل بسيط يتعرض لعذابات وإحباطات، فلم يكن نبوغه الأدبى وحده هو ما جذبها إليه، بل تواضعه الإنساني، وقد قال الفيلسوف «كيجارد» ذات مرة جذب جمهور من الناس، ليس هو الفن.

وإلا أن شاعرها قد فعلها؛ لقد جذب حب الناس فى وقت الأزمات، وكان صوت ضميرهم، لم يمت بالمرض، بل بالشعور بالاغتراب والرحيل أحيانًا يحتاج إلى الشجاعة نفسها التى يتطلبها البقاء، وكان«هو» مليئًا بمؤهلات التميز أكثر مما يجب.

وقد احتشدت جنازته بالأدباء والفنانين والصحفيين والأصدقاء؛ لكن أحدا لم يحزن عليه بنفس العمق الذى اخترق قلب رجل الشارع البسيط، ربما كثيرون من تلك النخبة كانوا يحسدون ـ وما زالوا- موهبته وتذكر «هي» إن إحدى النساء العاديات صادف أنها كانت تمر بالقرب من المسجد الذى خرجت منه جنازته.

فصكت صدرها كدأب الريفيات حين عرفت بالخبر، كأنه واحد من أهلها الأقربين، ربما كانت قد عادت إلى مصر ليكون فى انتظارها ذلك الحضن النهائي؛ ذلك الرجل الذى احتضن وجعها الدفين، وداواه بقدرته على معرفة ذاتها أكثر منها بما يملكه من بصيرة.

وكان (هو) وطنها المقدور، ولحظة استضاءتها واستبصارها لمعنى كل ما مضى وما سيجيء، بحيث رممت به ما تفتت من «فسيفساء» روحها، واستطاعت أخيرًا حل لغز كلمات حياتها المتقاطعة.


ومعه كان إحساسها بالعزلة-بطريقة ما-يختفي، كما لو كانت تلك النار لم تشتعل أصلا، بل هى أمر من نسج خيالها، لقد علمها كيف تستمتع بالحياة، التى كانت قبله محنة موحشة، كان الأمر كما لو أن جنية طيبة لمست بعصاها السحرية دنياها، فاعتدلت بعد أن كانت مقلوبة، لقد رآها جميلة، وهى التى كانت ترى نفسها فأرة بائسة تلقى بها بعيدا أيدى كل من تولوا أمره.

وحتى إن زوج جدتها كان يدللها، بهذا النداء غير المحبب: «يا فأرة، قبل أن تخرج هى من مصيدتهم إلى العالم الواسع بعد أن التقت والدها. أما «هو» فقد فتح شهيتها لتناول أطعمة كانت تغص بها حين تأكلها بالأمر على مائدة جدتها غير الراضية عنها.

والتى دائما ما تشكو أن حفيدتها مصابة بالأنيميا. كانت حقا تبدو هزيلة، حتى إن أحد أقارب زوجها، وكانا يزوران ضيعتهم الريفية، أبدى تلك الملاحظة، ونصح زوجها لعلاج هذا الهزال، ألا تجلس (هي) إلى موائد عامرة بكل ما لذ وطاب لأن هذا يصدم شهيتها الضعيفة.

وبل أن يقدم لها الطعام الشهى بالتدريج، طبقا إثر طبق، وهى الآن تتعجب كيف استطاع ذلك القريب العجوز أن يُخمن أصل الداء؟ نعم، لقد كان على حق، فمائدة جدتها كانت حاشدة بكل أنواع اللذائذ لإبهار ضيوفها الذين كانوا يعدونها طباخة لا تبارى. وهى بالتأكيد لم ترث جدتها فى هذه الموهبة.


ولقد كانت ترى نفسها من خلال عينيه .(هو) . فقد كان ذات عقل مرهف، ولم تكن هى تعرف هذا عن نفسها. كان الوحيد الذى جرؤت أن تقرأ عاليا أمامه، ما «شخبطتها» بالفرنسية، حين كانت طفلة، ربما فى العاشرة من عمرها، مسجلة مشاعر عابرة.

بدا أنها أثارت إعجابه، كانت أول مرة تمتلك شجاعة قراءتها لمخلوق، حدث هذا على مقهى الفيشاوي الأثرى فى حى الأزهر، بجوار جامع الحسين، حيث يحتشد السائحون لشراء حلية خان الخليلى للذكرى، وكان «جرسون»، المقهى يرتدى جلبابا، وسأل شاعرها إن كانت من يجالسها من هؤلاء السياح وشعرت بالامتنان نحوه حين لم يعتبرها أجنبية.

وعلى حين فجأة، نقشت شيئاً على المنديل الورقى المجاور امتحان علامة استفهام بالعربية على اليسار، وفى مواجهتها على اليمين علامة استفهام إنجليزية، فصنعا معًا قلبًا واحدًا، حين قربتهما الواحدة من الأخرى، فى نوبة غضب بعد وفاته.

وأتلفت كل ما كتبته، بما فى ذلك خطابات مهمة تبادلتها مع أمها ومع الأستاذ الإنجليزى الذى درست الفلسفة على يديه حتى الصور العائلية دمرتها، كما لو كانت ترفض ترك أية ذكرى، لم تفهم أن القدر حين قضى باختفائه، فإنه بهذا أعاد إلى الحياة كل ماضيها الضبابى بكل عذاباته، وأعادها هي» يتيمة مرة أخرى.

وحين أفقدها إحساسها المكتسب حديثاً بالانتماء، الذى أمدها به حضوره، لتشعر من جديد بأنها تلك الطفلة السائحة الأبدية، التى تطالعها كل حين أوضاع جديدة لا تستطيع دائما فهمها، كان يصر على رغبته فى أن تنجب له طفلا. 

وهو طلب أدهشه أنها تصر على رفضه، كانت دائما تقارعه بحجة أنه بالفعل لديه أبناء رائعون وكان رده باستمرار : أريد طفلا منكِ»، وهى إرادة كانت لترحب بها لو كان العالم مكانا أفضل كانت تحب بصدق ابنيه من زواجه السابق، وأفسحت المجال لوجودهما فى حياتها معه، وهو أمر ربما ندر أن تفعله زوجة أب.
 

اقرأ ايضاً | صناعة المحتوى والأدب النسوي في ندوات معرض الكتاب