أسامة فاروق يكتب: مهندس عصر عبد الناصر!

أسامة فاروق يكتب : مهندس عصر عبد الناصر!
أسامة فاروق يكتب : مهندس عصر عبد الناصر!

الفرضية التى يطرحها المؤلف فى كتابه تتلخص فى أن أفلام فؤاد المهندس، بالتحديد التى ظهر فيها كنجم أول مع شويكار فى الستينيات والسبعينيات، كانت جميعها «إفصاحا غير مقصود عما يحمله لاوعى الناصرية، أو اللاوعى الجماعى للناس فى المرحلة الناصرية وامتداداتها.

وينطلق وليد الخشاب فى كتابه الجديد «مهندس البهجة.. فؤاد المهندس ولاوعى السينما»، الصادر مؤخرًا عن دار المرايا، من تصورات وفرضيات واضحة حول دور الكوميديا فى التعبير عن المواقف السياسية والاجتماعية الضاغطة.

ولكنه لا يركز على النظريات قدر تركيزه على إدارة حوار مفتوح مع قارئ مفترض، لا يفرض عليه رؤية ولا يزعم الوصول لنتيجة نهائية خصوصا مع الإشارات المتزايدة للمصادفات ودورها على طول الكتاب.


ومن النظرة الأولى يبدو العنوان الفرعى زيادة أكاديمية لا داعى لها خصوصا مع قوة العنوان الرئيسى «مهندس البهجة»، لكن مع التعمق فى القراءة تتبين أهمية العنوان الفرعى وضرورته، فالكتاب فى المجمل يدور حول فكرة اللاوعى تلك.

وبدون إشارة واضحة لها على الغلاف وشرح مكثف داخل الكتاب لدخلت تحليلات الأفلام فى فلك التهويمات والمبالغات ولظننا أن المؤلف يحمل الأفلام ما ليس فيها أو أكثر مما تحتمل. الكتاب يقدم فى المجمل أيضا نظرة أخرى لأفلام الطفولة بعد وضعها تحت مجهر يردها لزمنها ويحللها وفق معطياته.


والفرضية التى يطرحها المؤلف فى كتابه تتلخص فى أن أفلام فؤاد المهندس، بالتحديد التى ظهر فيها كنجم أول مع شويكار فى الستينيات والسبعينيات، كانت جميعها «إفصاحا غير مقصود عما يحمله لاوعى الناصرية، أو اللاوعى الجماعى للناس فى المرحلة الناصرية وامتداداتها حتى ترسخت سياسة الانفتاح على يد السادات».

واللاوعى السينمائى كما يشرحه الكتاب أكثر قربا لزلة اللسان التى يقول فيها الإنسان ما يضمره داخل نفسه والمكبوت داخل لاوعيه، بالتالى تصل رسالة أخرى غير التى ود صناع الفيلم أن تصل، رسالة تفصح عن المضمر والمسكوت عنه «وزعمى أن أفلام فؤاد المهندس مليئة بزلات اللسان السينمائية هذه، بل تكاد تكون هى فى حد ذاتها زلة لسان كبرى».


ويظلل ذلك الطرح فرضية أكبر تلخصها مقولة المؤلف «الكوميديا مسألة جادة». إذ يرى الخشاب أننا نكسب الكثير فى فهمنا للثقافة وتفاعلها مع المجتمع والتاريخ السياسى إن أخذنا الكوميديا مأخذ الجد، لأن الإنتاج الثقافى المتعلق بالكوميديا يتمتع على الأغلب بحرية نسبية تسمح بتناول موضوعات ومقاربتها من زوايا وإنتاج خطابات لا يسمح بها عادة للإنتاج الثقافى «الجاد» غير الكوميدي.

ولا ينشغل المؤلف كثيرا بالإشارة إلى الدراسات والتنظيرات الكثيرة حول تلك النقطة ربما حتى لا ينجرف الكتاب إلى الحقل الأكاديمى الجاف. لكن ربما تجدر الإشارة فقط إلى فرويد الذى جرت العادة على أن تبدأ دراسة الصلة بين الضحك والكوميديا من عنده وتعتبر دراسته «النكات وصلتها باللاوعي» معلما فى هذا الصدد.

وكما يقول د. صالح سعد فى كتابه المهم «الأنا- الآخر ازدواجية الفن التمثيلي» وحسب شرحه فالكوميدى فى جوهره معادل فني- اجتماعى لما يسميه فرويد «الأنا الأعلى» أو الرقيب.. ومن يمثل على خشبة المسرح هو «الأنا» ولكن فى ملابس مهرج هو «الأنا الأعلى» بينما يصبح الـ «هو» الغريزى والبذيء والبدائى هو الطرف الآخر فى الصراع الدرامى الهزلي.

وبكلمات فرويد التى ينقلها د. صالح فإن «الأنا قد يتخذ فى حالات الضيق، أو الحصر النفسى وجهة نظر الأنا الأعلى، ومن ثم فإنه قد ينجح –بهذه الطريقة- فى النظر إلى همومه العادية ومشاغله الطبيعية بشيء من التحرر الرواقى الذى لا يخلو من نبل وسمو».

وذلك بحسب تحليل د. صالح ما يفسر فترات ازدهار الكوميديا ولماذا ارتبطت دائما بفترات التحول، أو لحظات الاضطراب الحرجة فى حياة المجتمعات «فما أنجز من قبل بصورة دراماتيكية مؤثرة على أيدى الأبطال القدامى يعرض الآن بصورة هزلية صاخبة».


والمسألة إذا قديمة والكتابة فيها وحولها سبق فؤاد المهندس بكثير، فلماذا هو بالتحديد؟ يسأل الخشاب نفسه أكثر من مرة ويجيب بأكثر من شكل. يقول تارة إنه كشخصية سينمائية ومسرحية تجسيد للفئات الاجتماعية التى تنامى صعودها للطبقة الوسطى، أو لشرائح أعلى وأعلى فى إطار تلك الطبقة، فهو الموظف عادة.

والكاتب فى مسرحية «حواء الساعة 12»، ومؤلف الأغانى فى فيلم «اعترافات زوج»، والمحامى فى مسرحية «أنا وهو وهي»، والفنان التشكيلى فى فيلم «نحن الرجال طيبون»، وكلها فئات ومهن صعدت بقوة فى إطار عمليات التوسع التى جرت فى المجتمع بالتزامن مع التغييرات الاجتماعية الشاملة فى دول التحرر الوطنى فى الخمسينيات والستينيات.

وتارة أخرى يقول إنه علامة فارقة بسبب استمرار نجوميته حية بعد أفول نجمه كبطل أول فى المسرح والسينما والإذاعة وحتى بعد توقفه عن العمل، وهو دليل ليس فقط على حضوره وموهبته الفريدة بل على صحة اعتباره «تعبير عن عصر بأكمله» ليس من حيث الشخصيات التى جسدها والموضوعات التى تناولها بل حتى من حيث حياته الشخصية نفسها! أخيرا يجمل المؤلف عناصر إجابته على سؤاله فيقول: «تميز فؤاد المهندس، وعمره المديد كنجم أول فى زمنه وكعلم على الكوميديا فى الذاكرة السمعية والبصرية العربية، وتفوقه فى كافة وسائط الإنتاج الثقافى المتاحة فى عصره، كلها عوامل تحث الباحث فى التاريخ الثقافى على التوقف عنده طويلا».


ولكن الإجابة الفعلية على السؤال هى محور الكتاب كله فى واقع الأمر وهى باختصار: الدور المميز الذى لعبه فؤاد المهندس ككوميديان عبر موجات الإذاعة، وعلى خشبة المسرح، وعلى شاشة السينما «ليمحو آثار الهزيمة» منذ يونيو 1967.


والبداية كانت مع برنامجه الأشهر «كلمتين وبس» الذى استمر فى تقديمه لما يقرب من خمسين عاما، حيث بدأ بث البرنامج بعد شهور من الهزيمة بالتحديد فى عام 1968، تعاون خلاله مع مجموعة من الكتاب لتحليل «نقيصة اجتماعية» ما عبر مونولوج حكائى يستغرق 5 دقائق من الثامنة إلا خمسه حتى الثامنة صباحا وينهيه المهندس بلازمته الشهيرة: «مش كده ولا إيه؟».

ومن خلال تحليل عميق للبرنامج وأبرز حلقاته يتوصل المؤلف إلى أن المهندس كان حرفيا «صوت خطاب الدولة الموجه لنقد المجتمع» عبر منطلق أساسى هو أن مشاكل المجتمع ليست فقط بسبب أداء الدولة أو الحكومة.

ولكن بسبب ضعف نفوس بعض المواطنين، صحيح أن فؤاد المهندس لم يكن يقوم بدعاية مباشرة لسياسة معينة أو توجهات خاصة «لكنه كان عصبا هاما فى الجهاز الخطابى الناصري» ومن هنا يعتبر المؤلف أنه صار من المنطقى تحميل أفلام المهندس حتى أكثرها خفة تفسيرات سياسية واجتماعية جادة، فهى وإن لم تكن دعاية مباشرة يمكن اعتبارها «تعبيرا قويا بصيغة الفكاهة عن الأفكار الناصرية والرؤية الناصرية للعالم». 


ويتابع المؤلف كيف عبرت أفلام فؤاد المهندس وحتى شخصيته الحقيقية عن تحولات المجتمع والدولة نفسها خلال تلك الفترة، يتابع النمو العمرانى والتحولات الاجتماعية التى ترسخت فيها عوامل جديدة كالمظهر والمصيف ورحلات الطيران الداخلى مثلا، تمجيد العمل وصعود الطبقة الوسطى.

وحتى التعامل مع النساء من خلال شويكار شريكته فى الحياة والأفلام، لكن الأهم هو تحليل لاوعى تلك الأفلام التى تظهر الوجه الأخر الخفى والمسكوت عنه وتقدم فى الوقت نفسه نقدا ساخرا وغير مقصود لتصورات المجتمع عن نفسه.


وفق هذا التصور يقدم الكتاب تحليلا دقيقا لمجموعة من أعمال المهندس، تكون فيها الأفلام التى تتناول تيمة الجنون مثلا تعبيرا لاواعيا عن حالة غياب العقل الموجودة فى المجتمع، وأفلام الأكشن الكوميدية تعبير عن انتشار الجريمة وغياب الأمن، وأفلام موت الأب أو قتله تعبير رمزى عن ناصر نفسه.

والأفلام التى يقدم فيها تيمة القرين التى يجسد فيها المهندس شخصيتين مثل «أخطر رجل فى العالم» و»عودة أخطر رجل فى العالم» وغيرها تعبير عن فكرة الانفصام أو الازدواجية مواكبة لازدواجية الحقبة نفسها وهكذا. ليخلص إلى أن أفلام فؤاد المهندس وشويكار المنتجة فى الفترة من 1967 وحتى منتصف السبعينيات كـ»أخطر رجل فى العالم.

و «شنبو فى المصيدة»، و«العتبة جزاز» و«سفاح النساء»، و«أنت اللى قتلت بابايا» كل هذه الأعمال رغم خفتها الظاهرة «وربما يقول البعض: على سخافتها» عبرت بشكل لاواعى عن ملامح النظام السياسى والاجتماعى فى فترة عبد الناصر.


اقرأ ايضاً | موسى حوامدة يكتب: تلهو القصيدةُ