محمود الوردانى يكتب : ضحى يوسف أبو رية العالى «2-2»

محمود الوردانى
محمود الوردانى

 أواصل هنا ماسبق أن بدأته قبل أسبوعين عن صديقى الراحل يوسف أبو رية فى ذكراه. أبادر أولا بالاعتذار عن خطأ سببه ثقب الذاكرة الذى يزداد اتساعا بسبب السن، فقد ذكرت من قبل أننى أمضيت نحو عشر سنوات نلتقى خلالها – يوسف وأنا فى سهرة منفردة تقتصر علينا فقط، وتمتد من الثانية أو الثالثة صباحا حتى الفجر. والصحيح أننا تجاورنا فى الوراق لعشر سنوات ومن الطبيعى أن نلتقى كثيرا، أما سهرة الثلاثاء المنفردة فقد استمرت ثلاث سنوات فقط منذ عام 1987 وحتى 1990 على الأرجح.


على أى حال اعتاد كثير من أصدقائنا على زيارتنا، مثل ابراهيم منصور وعبد الفتاح الجمل  ومحمد المخزنجى والكفراوى وشاكر عبد الحميد وخالد جويلى وعبد العزيز جمال الدين.. وغيرهم..
 كان يوسف على نحو خاص مهموما بشدة ومستغرقا فى القراءة والكلام حول دقائق الكتابة.

وتشير قصصه الأولى التى كتبها بعين الطفل والصبى والمراهق إلى هذا الاهتمام..كان يجمع بين المكر الفنى والرصانة التى تكاد تطغى على الجزالة التقليدية، وأظن أن أحد نجاحاته يكمن فى تلك النبرة المحايدة وحرصه على عدم التورط العاطفى.


والواقع أن صديقى يوسف كان كثير الكلام، ولأننى أحبه فكثيرا ماتركتُ له الحبل على الغارب، كما أن كلامه فى الحقيقة كان مثيرا للاهتمام. حكى لى مثلا عن صديقيه الأقربين يحيى الطاهر عبد الله وعبد الرحمن الأبنودى، وكثيرا ما استضافهما فى بيت أسرته فى ههيا بالشرقية.


وكذلك لا أتذكر أن يوسف كان يجعجع كثيرا ولم يكن عالى الصوت، لكنه كان حاسما، ولم « يمسك» عليه أحد شيئا فى الظاهر والباطن، وأنا موقن من هذه المسألة بالتحديد: أى موقفه من الاستبداد والفساد. كان ظاهره مثل باطنه، على الرغم من أن هناك فرصا «صغيرة» يمكن الحصول عليها لو كان صوتك أقل ضجيجا.


أخلص يوسف للكتابة بشدة، وكان لديه يقين لايتزعزع أن الكتابة مهمة جليلة تعانق الكون ذاته وتشتبك معه، لذلك فهى تحتج للإصرار والدأب، كما تحتاج فى الوقت نفسه أن تراقب نفسك وتمنعها  من الولوغ فى المصالح الصغيرة، دون أن تجأر بالصراخ معلنا عن تمسكك بمكارم الأخلاق.


ولقد سافرتُ معه إلى ههيا مرتين. الأولى قبل زواجه حيث تعرّفت بأخيه ابراهيم الذى كان من أكثر الناس محبة وعشقا ليوسف وإيمانا به ككاتب، كما تعرّفت بأخواته، وقضيتُ معه يومين فى البيت القديم وشاهدت أطلال الطاحونة القديمة التى كتب عنها.

وأدركت طموحه فى الإمساك بتلك اللحظات الأخيرة لعالم يذوى ويموت، والصراعات العنيفة المكتومة حول الميراث، والنفوس التى يتوالى انهيارها، والتحولات وهى تعصف بالجميع.


والمرة الثانية كانت بعد زواجه من الدكتورة فريدة بعد قصة حب جميلة، وقضيت معهما يومين فى الشقة الجديدة، التى كانت مستقرهما عندما يذهبان إلى ههيا. وفى تلك المرة لاحظت كم تغيرت ههيا بعنف لايمكن وقفه أو مواجهته، وأدركتُ أن يوسف أمامه عمل كثير، وكان قد بدأ بالفعل فى كتابة رواياته الباكرة- دون تفصيل لايتسع له المقام هنا – حول تلك التحولات منطلقا من تجربته الخاصة.


 كنتُ أنا شخصيا أنتظر منه الكثير، وكنت موقنا أن لديه الكثير..  وأخيرا .. ضحى يوسف أبو رية العالى بدأ عاليا عفيا وانتهى عاليا عفيا .. كنت نسمة وشهابا وصديقا وكاتبا لايُنسى.

اقرأ ايضاً |  محمود الوردانى يكتب : ضحى يوسف أبو رية العالى «1 -2 »