إنها مصر

التعايش السلمى مع الحياة !

كرم جبر
كرم جبر

ذكرنى «مارك» على فيس بوك بمقال نشرته منذ أكثر من عشر سنوات، ويروى حكاية شاعر قديم قرر أن يترك مهنة الشاعر ويعمل صبى جزار، ولما سألوه عن السبب ارتجل آخر بيت شعر فى حياته قائلاً: «بالعظم صارت الكلاب تجرى خلفى وبالشعر كنت أرجو الكلابا».

وسبب إعجابى بهذا الشاعرهو شجاعته فى التعامل مع الواقع الذى يعيشه، فلم يخدع نفسه ولم يقبل أن يبيع شعره مقابل لقمة العيش، واستبدل القلم بالساطور، وهجر السجع والنسخ والتشبيه والأوزان والقوافى، من أجل الجزارة واللحمة ليوفر غذاء المعدة وينام سعيداً وشبعان وقرير العين هو وزوجته وأولاده، بدلاً من الشعر الذى لا يشبع ولا يملأ الجيوب.
وكان الشاعر المجهول سعيدا أيضا لأن الكلاب صارت تحتشد أمام بيته لتحصل على العظم مقابل الحراسة وتخويف اللصوص من الاقتراب، وارتاح من البشر الذين لا يعرفون الوفاء.

وتؤلمنى جداً المأساة التى عاشها الفنان العظيم «عبد الفتاح القصرى» فى أيامه الأخيرة، فأثناء وقوفه على المسرح مع الفنان إسماعيل ياسين صرخ فجأة «الدنيا ضلمة أنا مش شايف»، فظن الجمهور أنه جزء من الدور وزاد الضحك، إلا أن إسماعيل ياسين أدرك الحقيقة وسحبه فى الكواليس.. ثم توالت الكوارث.

طلبت زوجته التى تصغره كثيراً فى السن الطلاق بعد أن أخذت كل أمواله وممتلكاته، لتتزوج من شاب صغير كان القصرى يحتضنه ويعتبره زى ابنه، فزهد الحياة وامتنع عن الكلام وحبس نفسه فى منزله.

وأكملت «البلدية» المأساة بهدم البيت الذى كان يعيش فيه، فسكن غرفة صغيرة ورطبة ومظلمة تحت بير سلم فى الشرابية، وضعفت صحته بسبب الهم والمرض والفقر والبرد وقلة الغذاء وفقد الذاكرة تماماً وانتابته حالة هذيان، حتى لقى ربه فى 8 مارس سنة 1964، ولم يحضر جنازته سوى ثلاثة أفراد من أسرته والفنانة نجوى سالم.

فى الحكايتين عبرة وعظة، وهى ضرورة أن يسلّم الإنسان أمره إلى الله، وإذا استيقظ دون تعب أو مرض يرفع يديه إلى السماء بالشكر والدعاء على هذه النعمة، فلا ينفع مال ولا جاه ولا أصدقاء ولا أحباب، ولا يسرف فى استعراض الصحة والعافية والقوة والعضلات، فحين تدور الدوائر لا منقذ منها إلا الله سبحانه وتعالى.

وكثير من الأحداث التى تمر بنا تشبه الحبكات الدرامية التى يكتبها مؤلف متشائم، كل ما يهمه هو أن يصيب الجمهور باليأس والحزن والإحباط، والدول مثل البشر كلما ساءت حالتها النفسية، انخفضت مناعتها وضعفت قدرتها على المقاومة وتفشت فيها الأمراض.

الغنى لا يدوم وكذلك الصحة والشهرة والجاه، والحياة يوم حلو ويوم مر، ولكن قد تكون حلاوتها أكثر من مرارتها أو العكس، والعاقل هو الذى لا يغتر بحلاوتها ولا يقنط من مرارتها، وإنما يسلح نفسه بالتعايش السلمى مع الأفراح والأحزان والصحة والمرض والغنى والفقر.

كلمة السر فى التعايش السلمى مع الحياة هى «الرضا» ، فلا تجر وراء بريق زائف، ولا أن تحاول أن تأخذ منها أكثر من حقك.

رحم الله الفنان العظيم الذى تزوج فتاة صغيرة ليجمّل شيخوخته فى صباها، فتركته فى محنة المرض لإنقاذ شبابها من أنياب شيخوخته، بعد أن أخذت من الشهرة زهوها وبريقها وتركت ظلالها.