بيرم «موليير الشرق» الفصيح الذي أبكى أم كلثوم

بيرم التونسى يصنع القهوة لنفسه ويبدع بسخرية أزجاله الموجعة
بيرم التونسى يصنع القهوة لنفسه ويبدع بسخرية أزجاله الموجعة

 فى الخامس من يناير1961 كانت أم كلثوم تشدو على مسرح الأزبكية، مال عليها الموسيقار محمد القصبجى فى الفاصل هامسا «بيرم تعيشى انتى يا ست»، ألغت أم كلثوم غناء «يا ظالمنى» فى وصلتها الثانية وقررت أن تغنى لبيرم «الحب كده»، أحس جمهورها أنها تغنى بشجن فى المقطع الذى يقول: «تشوفه يضحك وفى قلبه الأنين والنوح، عايش بلا روح، وحيد والحب هو الروح»، كأن صوتها مبللا بالدموع على بيرم «شاعر الشعب» الفصيح الذى نحيى ذكراه الـ 62.


فى ثلاثة أبيات يختزل بيرم مشواره بقوله «الأولة مصر.. قالوا تونسى ونفونى.. والثانية تونس وفيها الأهل جحدونى.. والثالثة باريس.. وفى باريس جهلونى»، فمصر التى وُلد على أرضها وشرب من نيلها لم يتحمل حكامها صراحته وسخرياته، تم نفيه إلى تونس التى ينتمى إليها باللقب، عاد لمصر متخفيا فقُبض عليه وحملته سفينة الغربة إلى باريس التى جهلت مقامه وعمل بها شيالا، تنقل من بلد إلى بلد وهو ينتظر العفو، امتدت الغربة لتأكل من عمره 20 عاما، فصرخ يعبر عن وجعه: «غلبت أقطع تذاكر.. وشبعت يا رب غربة !».

لو كان بيرم يريد أن يكون من حاشية السلطان لكان له ما أراد بالنفاق، لكنه اختارأن يكون لسان الغلابة، لو كان يريد أن يسكن القصور لكان له ما أراد، لكنه اختار أن يكون صوت الحق من أجل العدل، لم يكن يريد أن يكون من شعراء القصور، فالقصر يكفيه أمير الشعراء أحمد شوقى، اختار أن يكون شاعر الشارع الذى بلا إمارة، فهو ابن الشارع الذى وُلد فى حى السيالة بالأنفوشى فى 4 مارس 1893، سكنت الحارة داخله وأصبح ناس الشارع أهله، يأكل أكلهم، ويركب «السوارس» والكارو معهم، يلتقط ما يجرى على ألسنتهم فى المقاهى، تطربه نداءات الباعة، يتعطر برائحة التوابل فى دكاكين العطارة، يصادق العربجية والنحاسين والفحامين، يرصد الدراويش والمجاذيب فى الموالد، ويكتب عن زفة المطاهر وحلقات الذكر وحفلات الزار، يعرف «الكودية والماشطة والبلانة»، يحفظ لهجة الفرارجية والجزارين والدباغين، يجيد لهجة الريفى والصعيدى والبدوى ولهجات أبناء الشام، سخر من نشاز المطربين فقال «يا أهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله»، لعن الفقر والجهل والمرض، وسخر من الحشاشين ورواد الحانات، وعرى العاطلين بالوراثة، وتجار الحروب والسماسرة، وتعارك مع الذين يفتون بلا رخصة، وهاجم العشوائية والسلوك المتخلف عندما قال:

«ها أتجن يا ريت يا أخونا ما روحتش لندن ولا باريز.. دى بلاد تمدين ونظافة وذوق ولطافة وحاجة تغيظ.. ملقتش جدع متعافى وحافى وماشى يقشر خس، ولا شحط مشمرخ أفندى معاه عود خلفه ونازل مص»، سطوره التهكمية تكشف سلوكيات التحضر فى مقابل التخلف، كان فيلسوفا شعبيا يغرز الدبابيس التى تؤلم لكى تفيق الأمة، ابتدع فنيا شخصية «المسحراتى» لتحمل أفكاره، و«فوازير رمضان»، وكتب الكثير من أغانى الشهر الكريم والحج، أدمعت أم كلثوم عيون مستمعيها وهى تشدو بكلماته «برضاك يا خالقى لا رغبتى ورضاى.. خلقت صوتى ويدك صورت أعضاى.. ابلغ بصوتى يا ربى مقصدى ومناى.. لما أناجيك ولما تستمع شكواى»، وحلقت بنا عندما غنت له «القلب يعشق كل جميل».


بيرم المصرى المولد، كان معجونا بكبرياء ولاد البلد، المرة الوحيدة التى تنازل فيها عندما أقنعه كامل الشناوى بنظم قصيدة يعيد فيه الاعتبار للملك فاروق وأسرته التى لطخ سمعتها لينال عفوه، وبعد 20 عاما فى المنفى عاد بيرم لمصرعام 1938، لكنه ظل محروما من الجنسية التى منحها له جمال عبد الناصرعام 1960 وكرمه بجائزة الدولة التقديرية.


بفلسفته البليغة قال لنا: «قال: إيه مراد ابن آدم؟.. قلت له : طقة، قال: إيه يكفى منامه ؟ قلت له: شقّة، قال: إيه يعجّل بموته ؟ قلت له: زقة، قال: حـد فيها مخلّد ؟ قلت له: لأه، قال لى: ما دام ابن آدم بالصفات دى، نويت أحفظ صفات ابن آدم كل ما اترقى»، رحم الله شاعر الشعب الذى قال عنه د.طه حسين «أخشى على الفصحى من عامية بيرم».
عاطف النمر