عاجل

إيهاب الملاح يكتب: عن اللغة العربية فى يومها العالمى

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

أدعو من يهمه الأمر، وكل من يحرص على لغته من منظور إنسانى وحضارى وثقافي، أن يتجاوز دعوات الإنشاء والخطابة، ودعوات الاتهام بالانغلاق والجمود، وطلب التغييروالتطوير بغير علم ولا دراية ولا فهم، أن يرجعوا إلى العلماء الثقات المتخصصين وأن يقرأوا ما أُنجز من أعمال علمية رائعة وجهد غير مسبوق بالعربية.

أنا مع رأى العلم الذى يرى أننا ندرس اللغة فى وجودها الاجتماعي، فاللغة ظاهرة اجتماعية، ويجب أن ننظر لها فى صيرورتها الاجتماعية، وتعدد وتنوع وتغير مستوياتها، ونعود إلى الدرس العلمى المنهجى لهذه اللغة فى كل أبعادها؛ التاريخية، والوصفية، والمقارنة .

 1 
فى يومها العالمي، بل فى كل يوم، يتجدد الحديث حول اللغة العربية، وحضورها الآن، والمشكلات التى تحيط بتعليمها وتقف عقبة فى سبيل إجادتها وإتقانها كما يجب بين أبنائها، والكثير يتحدث فى هذا الأمر بغير علم ولا إحاطة، ولا فهم ولا قراءة، فيتهم اللغة العربية فى ذاتها بالجمود والتحجر وهذا فى ظنى وهم! 

فالبحث عن موطن الداء لا يكون كما يظن البعض بالدعوة إلى هدم بنيان أصيل ومرن ومتطور بذاته، ولا تظهر تجسداته ولا تعيناته إلا فى ممارسات المتحدثين بهذه اللغة، تواصلًا وإبداعًا، وبدون هذا الالتفات إلى الفارق بين اللغة العربية فى ذاتها، كنظام ونسق، وبين من يمارسها، يصبح الأمر كله عبثًا فى عبث!

وكلما تقدم المرء فى العمر، وتراكم لديه بعض خبرةٍ ومعرفةٍ بتفاصيل وأسرار وجماليات لغتنا العربية، أدرك أنه رُزق فعلًا نعمة كبيرة جدًا بأن يكون مفتاح التواصل بينه وبين هذا العالم (فى هذا العالم).

ومن خلال هذه اللغة العظيمة (دون أن يعنى ذلك أبدًا اشتمام أى دعوات سخيفة أو جاهلة أو متطرفة بالانغلاق والانكفاء عليها، والاكتفاء بها، من دون السعى الحثيث والجدّى فى تعلم واكتساب لغة أو لغات أخرى؛ فهذا مما تأباه قوانين الحضارة والتطور الآن).

وينبغى هنا أن نفرق بين الفصحى المعاصرة التى نقصدها ونعنيها فى حديثنا عن اللغة وتعاطينا معها، والفصحى القديمة «التراثية»، الفصحى المعاصرة كما يعرفها الدكتور محمد حسن عبد العزيز هى «فصحى مكتوبة غالباً تستخدم فى التعليم، وفى العلم.

وفى الأدب، وفى الصحافة، وهى اللغة الرسمية المشتركة فى العالم العربى اليوم». وهى شكل لغوى مختار يتعلمه العربى تعلماً ويتفاوت مستعملوه فى إتقانه تفاوتاً ظاهراً، ومن ثم فلا أحد يكتسبها فى بيئته المباشرة أو يستعملها فى شئون الحياة العامة. 

أما فصحى التراث فهى «فصحى تقليدية» غير متأثرة بشيء نسبيا، وتكاد تكون الآن وقفا على رجال الدين من علماء الأزهر، والتيارات السلفية، وتكاد تكون استخداماتها المنطوقة تنحصر أيضًا فى متحدثى البرامج الدينية الإذاعية والتليفزيونية المتأثرين بقواعد القراءات القرآنية تأثرًا قويا، وما يشاكلهم.

 2 
لقد بات فى حكم المعلوم -تاريخيا وعلميا- أن لغتنا العربية تعد من أقدم لغات العالم الحية، وأقدرها كذلك على البقاء وأكثرها أهمية وقيمة، وليس هذا الحكم نابعا من عصبية قومية أو دينية إنما وكما يقول أستاذنا العلامة د.محمود على مكي- يرتكز على حقائق مرجعها إلى طبيعة هذه اللغة.

وقدرتها الإبداعية، وقد اعترفت المؤسسات الدولية والعالمية بهذه الحقيقة، وبأهمية العربية وقيمتها، فأصبحت إحدى اللغات الست التى يجرى بها العمل فى أروقة منظمة الأمم المتحدة والأجهزة والمؤسسات والهيئات التابعة لها.

وصحيح أن للغة -والثقافة التى تتخذها وسيلة للتعبير- حياةً مثل حياة البشر؛ طفولة وشبابا واكتهالا ثم شيخوخة، وقد استخدم فيلسوف الحضارة والتاريخ ورائد علم الاجتماع ابن خلدون هذا التشبيه فى حديثه عن تطور العمران (أى الحضارة).

وإلا أن ذلك لا يعنى صيرورةً حتمية إلى الزوال والفناء! فقد تجاوز العلم الإنسانى هذه النظرات التطورية الحتمية! فظواهر العمران والتمدن واللغات والثقافة، تختلف كثيرا عن صيرورة الكائن الحى الذى تفضى به الشيخوخة إلى الموت.

فهى (أى هذه الظواهر الإنسانية، وفى القلب منها اللغة؛ والحديث هنا عن اللغة العربية تخصيصًا) إذا أوتى لها من المرونة ما يكفل لها الاستجابة لتطور الحياة فإنها تكون قادرة على استرداد عافيتها وتجديد شبابها، وهذا هو ما حدث (ويحدث) مع العربية. 

ولعل تاريخ اللغة العربية ذاته يجسد خير مثال على هذا الأمر، فقد ظهرت منذ العصر الجاهلى فى صورة ناضجة مكتملة، تحمل كل العناصر التى تكفل لها النماء والتطور بل والانتشار أيضا، وظهر الإسلام ونزل بالعربية كتابها المقدس (القرآن الكريم) فكان ذلك اختيارا واصطفاء منحها حضورا وخلودا وانتشارا لم تحظ به لغة غيرها.

ويكاد يجمع مؤرخو علم اللغة العربية أن القرآن قد منح اللغة العربية أولى مراحل تطورها، بفضل القرآن نفسه، فهو لم ينزل إلا باللغة المعروفة لدى العرب، غير أنه توسع فى دلالات كثيرة من ألفاظها.

ومنتقلا بها إلى آفاق جديدة تلائم المجتمع الإنسانى الجديد الذى بشرت به دعوة الإسلام، وقد رصد غير باحث وأستاذ متخصص فى علوم اللغة وتاريخها وتطورها ذلك التطور البين فى الألفاظ المتعلقة بالعبادات والتشريع الذى ينظم حياة المسلمين فى مجتمعهم الناشئ.

وبعد أن انتقلت من مجموعة من القبائل المتنافرة إلى مجتمع إنسانى متجاوز للجنسيات والأعراق واللغات، وكان ذلك خطوة أولى -كما يقول أستاذنا الدكتور مكي- فى تطور العربية تبعتها خطوات أخرى فسيحة حينما تحولت هذه اللغة من وسيلة للتعبير بين سكان الجزيرة العربية إلى لغة العالم الإسلامى كله الذى امتد من أواسط آسيا وتخوم الهند إلى شطآن المحيط الأطلسى فى المغرب والأندلس، ناسخة ما كان مستخدما فى تلك الرقعة المترامية من اللغات.

 3 
إن العربية، مثلها مثل كل لغات الدنيا، لها تاريخ عريق وحضور عارم، وأنتجت نصوصًا فى ظل حضارة زاهية كانت هى لغتها الأولى باقتدار، ووصلت إلى الذروة فى فترة من الفترات، ثم نالها ما نال غيرها من الحضارات من تراجع وفتور، وفق قوانين التطور والعمران.

وهناك من يرى -بإطلاق- أن هذه اللغة جامدة ومتحجرة، وأنها فى حاجة ماسة إلى التطوير (بل إنها تتطور بالفعل على غير إرادة أصحابها، هكذا!) وفى اتجاه مغاير، هناك من يرى بأنه يجب ألا تمس اللغة على الإطلاق لا من قريب أو بعيد!

وأما أنا فمع رأى العلم الذى يرى أننا ندرس اللغة فى وجودها الاجتماعي، فاللغة ظاهرة اجتماعية، ويجب أن ننظر لها فى صيرورتها الاجتماعية، وتعدد وتنوع وتغير مستوياتها، ونعود إلى الدرس العلمى المنهجى لهذه اللغة فى كل أبعادها؛ التاريخية، والوصفية، والمقارنة.. إلخ.

وبعبارةٍ أخرى، فإننا يجب أن نعود إلى الدرس العلمى الذى قدِّم عن وحول تاريخ هذه اللغة، وطبيعتها وخصائصها، والبحث عن تكويناتها الظاهرة والعميقة، ومستوياتها التى آلت إليها خلال المائتى سنة الأخيرة على وجه الخصوص.

وأما عن واقع اللغة العربية، وحاضرها فى المائتى سنة الأخيرة، فيمكننا رصده ودراسته والتعرف عليه من خلال ممارسات المتحدثين بها، والذين اتخذوها وسيلة التواصل والتعبير الأولى، والذين أبدعوا بها إبداعاتهم المختلفة من شعر ونثر وفكر.. إلخ.

ويعنى ذلك ببساطة أنها لغة حية وموجودة وقائمة بالفعل، وإن شابها ضعف فى جانب من الجوانب أو تعمد إفساد الملكة اللغوية عمومًا فى جانب آخر، أو تأثرت بما تأثر به غيرها من تراجع وتحدُّر ثقافى وفكرى وعلمى عام، ويعنى أنها لغة حافظت على وجودها وحياتها حتى وقتنا هذا من خلال ممارسات أفرادها وإبداعات الصفوة الممتازة من الناطقين بها.

وبالتالى فأنا أتحفظ -قليلًا أو كثيرًا- على تلك الأوصاف التى تُطلق بلا تحديد ولا تعيين، من قبيل «الجمود»، «التحجر»، «الموات»... إلخ ما يقودنا فى التحليل الأخير إلى تعميماتٍ مخلة، وأحكام مبتسرة وغير دقيقة فى توصيف الظاهرة اللغوية فى الثقافة العربية، وبين المتحدثين بها.

وقد يكون أصابها ضعف أو عوار فى جانب من الجوانب أو مستوى من المستويات، لكن ليس بإطلاق ولا تعميم ولا تجريد ولا حكم قاطع مانع!

 4 
وثمة إجماع بين المعنيين والمهتمين باللغة العربية وهمومها وشجونها أن ثمة رغبة أكيدة ونشاطاً موازيا بدأ يظهر على استحياء فى العقود الأخيرة لإعادة إنتاج معرفتنا العلمية باللغة العربية، فى ضوء مستجدات المعرفة الإنسانية، ومكتشفات العلم وتطوره فى العقود الأخيرة.

وبدا خلال السنوات الأخيرة دعوات متكاثرة -وصادقة أيضًا- لإعادة الاعتبار إلى لغة الضاد، فى ظل ما يعتبره البعض «الحركة المحمومة لاستعادة الهوية اللغوية المفقودة»؛ بالتأكيد كان ذلك أثرًا من آثار السوشيال ميديا التى لا يمكن إنكارها بحال؛ فظهرت مبادرات فردية عدة؛ تمثلت فى صفحات خاصة بتعليم اللغة والكتابة الصحيحة، والنحو والصرف.

وتخصيص قنوات مرئية ومحاضرات مسموعة.. إلخ، حققت نجاحات مذهلة لم تحققها مؤسسات راسخة كالمجامع اللغوية مثلا، مما أجبر هذه المؤسسات على مراجعة سياساتها، وإن كان ذلك يتم ببطء شديد.

وكان من نتاج هذه الحركة أيضًا إعادة الاعتبار والنظر فى قضايا العربية وهمومها من منظور علمى معرفى حديث، وليس من منظور القداسة والتصورات الغيبية عن اللغة التى سادت لقرون طويلة.

وكان لها أثر سلبى على تطور العربية ومسايرتها للعلوم والمعارف الحديثة، ولولا جهود النخبة المتعلمة فى الجامعات المصرية والعربية، ومن قبلهم جهود رواد النهضة العربية الحديثة فى القرن التاسع عشر؛ من أول رفاعة الطهطاوى مرورًا بعلى مبارك والإمام محمد عبده (الذى كان محطة رئيسية فى التجديد اللغوي).

ومن بعدهم جيل كامل من المفكرين والمثقفين أمثال؛ طه حسين والعقاد وأحمد أمين وأحمد حسن الزيات، والرافعى وزكى مبارك، وصولًا إلى يحيى حقى ونجيب محفوظ، وجيل الخمسينيات والستينيات، لما تجددت دماء «العربية».

واستوعبت ما جرى من تطور مذهل فى العلوم والمعارف والآداب والفنون، واستطاعت بفضل التفاعل الذى جرى بين بنيتها الهندسية فائقة التماسك والمنطقية، وبين اكتشاف هذه البنية والإمكانات والطاقات على يد نخبة ممن تعلموا واكتسبوا معارف ونظرات منهجية حديثة أن تثبت حيويتها وصلاحيتها للبقاء والاستمرار والتجدد.

 5 
سنأخذ مثالًا واحدا على إحدى الطروحات الشهيرة التى كانت تشغل الأوساط الثقافية فى منتصف القرن الماضي؛ ولتكن إشكالية الفصحى والعامية، وكيف تم النظر إليها ومعالجتها؛ سأكتفى بهذا المجتزأ من مقال قديم كتبه الراحل الدكتور محمد مندور عن مشكلة جهل الكتّاب والأدباء باللغة التى يكتبون بها! ويحسم -فى رأيي- اختلاقًا مفتعلا بين استخدام الفصحى والعامية على المستوى الفني.. يقول مندور.

«والضعف فى اللُّغة ظاهرة عامَّة، لست أدرى كيف لا تتوفر كافة الجهود وتعمل المستحيل للتخلص منه، وذلك لأننا لا نعرف أدبًا ارتفع إلى مستوى عالمى أو شبه عالمى مع جهل أصحابه باللُّغة التى يكتبون بها. ولقد رأيت شُبَّان اللغات العالمية يتقنون لغتهم إلى حد الكمال بمجرَّد انتهائهم من مرحلة التعليم الثانوي.

فالشاب الفرنسى أو الإنجليزى رأيته عند الالتحاق بالجامعة يملك لغته ويجيد التصرف فيها واستخدامها للتعبير عن أدقِّ المشاعر وأرهف الخواطر التى تختلج فى نفسه، كما يملك من مفردات تلك اللُّغة ما يعينه على وصف أدقِّ المشاهد دون أن يخطئ فى نحو أو يتعثر فى إملاء، وأما شبابنا فلا يخلو ما يكتبونه أو لا يكاد يخلو من خطأ نحوى أو خطأ فى الإملاء.

وكأنهم أعاجم، حتى أصبحت أعتقد اعتقادًا جازمًا بأن المناقشات التى تدور باستمرار حول العامِّية والفُصْحَى لا تعود إلى اختلافات فى أوجه النظر الفنية أو الاجتماعية بل تعود إلى الجهل باللُّغة الفُصْحَى، والتسليم بهذا الجهل ولو بين الإنسان ونفسه.

واليأس أو شبه اليأس من تعلُّمها تعلُّمًا صحيحًا كاملاً، وفى النهاية الكسل والتكاسل عن بذل المجهود اللازم لتعلُّمها، مع توهُّم أن استخدام اللُّغة العامِّية على نحو فنى جميل أسهل من استخدام الفُصْحَى، رغم خطر هذا الرأى لأن اللُّغة العامِّية ذاتها ربما كان استخدامها استخدامًا فنِّيًّا أشقَّ من استخدام الفُصْحَى، وأكثر حاجة إلى موهبة لغوية خارقة».

(«الكتابات المجهولة لمحمد مندور» الجزء الأول؛ مقال «مناقشات العَامِّيَّة والفُصْحَي.. سَببها الجهْل باللُّغة.. وأدباء.. لا يعرفون اللُّغة التى يكتبون بها!»..).

ولعل هذا النموذج يبرز كيف ارتقى الوعى العلمى والمعرفى باللغة العربية كى ينتج هذه النظرة الممتازة لمشكلة الازدواج اللغوى والتعامل الجاد والواعى والمدرك لها.


وأخيرًا.. أدعو من يهمه الأمر، وكل من يحرص على لغته من منظور إنسانى وحضارى وثقافي، أن يتجاوز دعوات الإنشاء والخطابة، ودعوات الاتهام بالانغلاق والجمود، وطلب التغيير والتطوير بغير علم ولا دراية ولا فهم.

وأن يرجعوا إلى العلماء الثقات المتخصصين وأن يقرأوا ما أُنجز من أعمال علمية رائعة وجهد غير مسبوق بالعربية، وبغيرها من اللغات، فى دراسة العربية واستجلاء خصائصها الذاتية، ودراسة مستوياتها، فالفهم تملك للمفهوم، وأول التجديد -دائمًا- قتل القديم درسًا. 

اقرأ أيضا|  عبدالله عمار بطلا لتحدي القراءة العربي على مستوى الجمهورية