النفوذ في جنوب شرق آسيا.. بين الولايات المتحدة والصين

بايـدن يسعـى لتقـوية العـلاقات بين الولايـات المتحــدة وآســيان خـــلال قمــــــــــة مايو الماضى
بايـدن يسعـى لتقـوية العـلاقات بين الولايـات المتحــدة وآســيان خـــلال قمــــــــــة مايو الماضى

دينا توفيق

في الأسابيع القليلة الماضية، عُقدت اجتماعات عدة ضمت الاقتصادات الكبرى فى دول آسيان العشر الواقعة في جنوب شرق آسيا ومجموعة العشرين ومنظمة التعاون الاقتصادى لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك). حضر الرئيس الصيني «شى جين بينج» كلًا من قمة مجموعة العشرين واجتماع منظمة أبيك، وعقد اجتماعات ثنائية مع العديد من قادة العالم بما في ذلك الرئيس الأمريكى «جو بايدن»، التي جذبت انتباه العالم. تتنافس الصين والولايات المتحدة على النفوذ في جنوب شرق آسيا، وتحاول بكين جاهدة أن تجعل نفسها قوة عظمى في المنطقة.

تقارب العلاقات وتقويتها بين بكين وجيرانها في جنوب شرق آسيا، بانضمام العديد منها إلى مبادرة الحزام والطريق وتوقيع اتفاقيات جديدة بينهم خلال هذه الاجتماعات، أثار عدة تساؤلات عن ماذا سيحدث بعد؟ هل آسيا تنهض وتطرد النفوذ الغربي؟ هل سيؤدى الاجتماع الثنائي بين الصين والولايات المتحدة إلى تغيير العلاقات الصينية الأمريكية الحالية؟
كان أهم تطور في السنوات الأخيرة هو الاستبدال التدريجي للنظام العالمي أحادي القطب بتعدد الأقطاب. منذ بداية التسعينيات ونهاية الحرب الباردة، تم بناء النظام العالمي حول هيكل جعل الولايات المتحدة القوة العظمى العالمية، لكن هذا بدأ يتغير، مع إعادة تنظيمه حول المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. قد تؤدى هذه القطبية إلى تعدد أقطاب أكثر تأثيرًا مع اشتعال المزيد من الصراعات الجيوسياسية، مثل الحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا، وأجزاء أخرى من العالم، ما يؤدى إلى انقسامات جيوسياسية في النظام العالمي.

ووفقًا لصحيفة «الصين اليوم» في نسختها الإنجليزية، في الوقت الذى يواجه فيه النظام العالمي مثل هذه الاضطرابات الكبيرة، أصبح من الضروري للدول والمنظمات الإقليمية العمل معًا للحفاظ على الاستقرار الإقليمي والعالمي. وتتمتع الصين وجنوب شرق آسيا بتاريخ طويل من التعاون، الذى تطور على أساس المصالح وتبادل المنفعة؛ خاصة في التجارة، لكن الصين والعديد من دول آسيان هي أيضًا جزء من سلاسل التوريد العالمية الرئيسية. إن قدرة الصين على تصنيع منتجات عالية التقنية ومنخفضة التكلفة وتوافر الأيدي العاملة، ساهمت في تمكين اقتصادات جنوب شرق آسيا من توفير كميات كبيرة من المنتجات الوسيطة ونصف المصنعة لها للإنتاج النهائي.

وينعكس هذا التكامل من خلال سلاسل التوريد في كون الصين أكبر شريك تجارى للعديد من دول آسيان. كما يظهر من خلال تدفقات رأس المال عبر الحدود والاستثمارات التي جعلت شبكات الإنتاج عبر الصين وهذه الدول أقرب إلى بعضها البعض على مر السنين.

وتثير الاضطرابات الجيوسياسية في أجزاء مختلفة من العالم تساؤلات حول ما إذا كانت الاختلافات الإقليمية البحرية بين الصين وبعض دول جنوب شرق آسيا يمكن أن تخلق ظروفًا محرجة لتعميق تعاونها، من أفضل الطرق للتغلب على هذه المخاوف العمل من خلال آليات مؤسسية راسخة ربطت بين بكين وآسيان، واحدة من هذه؛ هي الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، حيث تم إنشاء اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP التابعة لرابطة دول جنوب شرق آسيا، ودخلت حيز التنفيذ في 1 يناير 2022.

فيما أعلن الرئيس الصينى جين بينج خلال لقائه مع نظيره الأمريكي على هامش قمة مجموعة العشرين في «بالى» إندونيسيا، أن الوضع الحالي للعلاقات الأمريكية الصينية ليس في المصالح الأساسية للبلدين والشعبين، وليس ما يتوقعه المجتمع الدولي، ومن جانبه، شدد الرئيس بايدن على الحاجة إلى منع التنافس بين الولايات المتحدة والصين من «الانحراف إلى الصراع»، وأن «على الولايات المتحدة والصين إدارة المنافسة بشكل مسئول والحفاظ على خطوط اتصال مفتوحة». كما اتفق على أن كلا البلدين «يجب أن يعملا معًا لمواجهة التحديات العابرة للحدود» مثل تغير المناخ والإرهاب، «لأن هذا ما يتوقعه المجتمع الدولى»، وفقًا لأستاذ العلوم السياسية فى جامعة ديلا سال بمانيلا «ريتشارد هيدريان».

انزعج الكثيرون فى الآسيان من تحول المواجهة فى سياسة إدارة بايدن تجاه الصين؛ خاصة فى استراتيجية الأمن القومى واستراتيجية الدفاع التى أصدرتها مؤخرًا، أشارت واشنطن إلى التزامها بالمنافسة الاستراتيجية طويلة الأمد مع الصين. فى حين أن الاستراتيجية الأمنية تتهم الصين بالسعى إلى الهيمنة فى المحيطين الهندى والهادئ، فإن استراتيجية الدفاع الوطنى تصف الصين بأنها «المنافس الاستراتيجى الأكثر أهمية لأمريكا فى العقود القادمة».
وتوضـــــح صـحيـفــــة «جـــــــنـوب الصـــــين الصباحية»، أن التوترات المتصاعدة بين القوى العظمى، والمواجهة العسكرية المحتملة على تايوان، لم تؤدِ إلا إلى تعزيز مخاوف الآسيان من نشوب صراع مسلح فى ساحتها الخلفية. وعلاوة على ذلك، كانت الولايات المتحدة تواجه التوسع البحرى للصين، خاصة فى بحر الصين الجنوبى، من خلال تبنى «الردع المتكامل»، الذى يهدف إلى حشد الحلفاء الدفاعيين الإقليميين ضد بكين.
وتتشكك كلٌ من بكين وواشنطن في نوايا بعضهما البعض، وبالتالي تقومان بفحص إجراءات الجانب الآخر. وفقًا للمحلل السياسى «مارك فالنسيا» المتخصص في الشئون الآسيوية، فإن الصين سترى زيارة نائبة الرئيس الأمريكى «كامالا هاريس» إلى الفلبين ما هي إلا خطوة لتعزيز التحالف ضدها. ففي أعقاب القمة الشخصية بين الرئيسين جين بينج وبايدن، اللذين حاولا طمأنة بعضهما البعض بنواياهما الحميدة عندما التقيا قبل قمة العشرين في بالى. لم تسر الأمور على ما يرام، بناءً على أدلة القراءات الرسمية للاجتماع. حيث شدد الرئيس الصينى على أن مسألة تايوان تقع في صميم المصالح الجوهرية لبلاده، وهى حجر الأساس والخط الأحمر الأول الذى يجب ألا يتم تجاوزه في العلاقات الصينية الأمريكية.

ووفقًا للقراءات الأمريكية، أوضح بايدن ما هو واضح، قائلًا إن الولايات المتحدة ستواصل التنافس بقوة مع الصين، بما في ذلك من خلال «مواءمة الجهود مع الحلفاء والشركاء». لكنه حاول تخفيف نبرته بالقول إن مثل هذه المنافسة لا ينبغي أن تنحرف إلى صراع وأن على الولايات المتحدة والصين إدارة المنافسة بمسئولية والحفاظ على خطوط اتصال مفتوحة. ووفقًا لفالنسيا، ستستمر الولايات المتحدة في بيع الأسلحة إلى تايوان، واستعراض قوتها في المنطقة، وتعامل الصين كعدو محتمل من خلال تحدى «ادعاءاتها البحرية المفرطة» بالسفن الحربية. فيما ستستمر بكين في العسكرة في بحر الصين الجنوبي. ويرى فالنسيا أن رحلة هاريس إلى جزيرة بالاوان الفلبينية، ما هي إلا خط هجوم مفتعل تضعه الولايات المتحدة على الصين وفرض سيطرتها على المنطقة. وربما يكون أكثر ما يثير قلق الصين هو التقدم الذى أحرزته هاريس مع الرئيس الفلبيني «فرديناند ماركوس جونيور» في مانيلا، فيما يتعلق بتنفيذ اتفاقية التعاون الدفاعي المعزز التي تسمح للولايات المتحدة بنشر قوات في الفلبين على أساس التناوب.

ويرى فالنسيا عدم إحراز تقدم فى قضايا بحر الصين الجنوبى، ليس فقط بين الولايات المتحدة والصين، ولكن أيضًا بين الأخيرة ورابطة دول جنوب شرق آسيا. في الواقع، هناك جمود أساسي في المفاوضات بشأن منطقة بحر الصين الجنوبي. ومع ذلك، أعلن بايدن عن رفع العلاقات بين الولايات المتحدة وآسيان إلى «شراكة استراتيجية شاملة»، التي قال إنها ستساعد في الدفاع عن المنطقة ضد «التهديدات لسيادة القانون»، وهو انتقاد آخر للصين. ليس من الواضح ما إذا كان هذا سيساعد أو يعرقل السلام والاستقرار في المنطقة، بالنظر إلى أن الصين هي أيضًا شريك استراتيجى لآسيان.

وتتصارع دول جنوب شرق آسيا أيضًا مع التداعيات الاقتصادية للحرب التكنولوجية المتصاعدة بين القوتين العظميين. في الشهر الماضي، فرضت إدارة بايدن عقوبات شاملة تستهدف صناعة أشباه الموصلات في الصين، وهو أمر بالغ الأهمية للقطاعات المتطورة في البلاد والتنمية الاقتصادية على المدى الطويل. وتفضل دول جنوب شرق آسيا تعاون القوتين العظميين، بدلاً من الانخراط في منافسة صفرية، على مبادرات التنمية الاقتصادية، لا سيما بالنظر إلى عمق فجوة الإنفاق على البنية التحتية في المنطقة. فمصير أعضاء الآسيان مرتبط إلى حد كبير بمسار العلاقات الأمريكية الصينية في القرن الحادي والعشرين.

أقرأ أيضا : وزير الدفاع الصيني منفتح على لقاء نظيره الأمريكي في كمبوديا