أوراق شخصية

أصوات من الماضى

أمال عثمان
أمال عثمان

أصوات من الماضى تسكن الجراح فى أعماق الروح، وتطاردنا أوجاعها مهما حاولت الأيام أن تداويها، وفى لحظة يطفو أنين الماضى فوق صفحات الفؤاد، يصارع من أجل البقاء حياً، ويرغب فى التحرر من سجون الطفولة والمراهقة، القابعة فى فضاءات الذاكرة البعيدة، لنجد أنفسنا مدفوعين للبحث عن الحقيقة داخل أعماقنا، نعيد تشكيل بقايا صور وذكريات مشوّشة، ورؤى ظلت متأرجحة بين الحقيقة والخيال، وشخصيات غيّبناها رغم حضورها الطاغى فينا، وتجارب ومحن شكّلت حياتنا بحلوها ومرها.

 لذا قرر المخرج الأمريكى الشهير «ستيفن سبيلبرج» أن يعيش لحظة الخلاص، وامتلك شجاعة الاعتراف، والبحث فى غياهب النفس، ليهب أصوات الماضى فرصة الظهور على مسرح الحياة من جديد، ويستوحى من طفولته وسنوات مراهقته، فيلمه الساحر «The Fabelmans» أول فيلم له يعرض فى مهرجان سينمائى، رغم شهرته الواسعة داخل وخارج أمريكا، من خلال مجموعة أفلام حققت أعلى إيرادات، وصارت علامات مهمة فى تاريخ السينما العالمية.

عقد «سبيلبرج» جلسات عديدة على مدى 5 سنوات، أقرب إلى جلسات العلاج النفسى، واجه فيها الماضى مع صديقه السيناريست المبدع تونى كوشنر، الذى نجح فى تحويل ذكريات وأحداث مبعثرة، تمتزج فيها البهجة والوهج الفنى والدهشة والشغف السينمائى، مع الحب والصداقة والخيانة والألم، وتفاصيل درامية عاشتها الأسرة بعد انهيارها، وانفصال الأم «عازفة البيانو» عن الأب العبقرى، بعد اكتشاف الابن حقيقة حبها لصديق والده، وخروج صانع أفلام عظيم من تحت أنقاض هذا الانهيار، ويتشكل هذا المخزون الدرامى فى سيناريو محكم البناء، وسردية فيلمية ملهمة شديدة السحر والجمال، تغمرها مجموعة عواطف ومشاعر إنسانية معقدة.

الفيلم عرض فى افتتاح مهرجان القاهرة السينمائى، واستعرض سنوات شكّلت موهبة «سبيلبرج»، وانتقاله فى طفولته من أوهايو مسقط رأسه إلى أريزونا، وتعرضه للسخرية من زملاء المدرسة بسبب ديانته اليهودية، وتعلقه بالفن السابع منذ اصطحبه والداه إلى السينما لأول مرة، وإتقانه صناعة الأفلام بمساعدة أصدقائه وشقيقتيه، وينتهى بانتقاله إلى لوس أنجلوس، ودخوله مدينة السينما فى «هوليوود» لأول مرة، وحين سأله الصحفيون عن سبب تقديمه للفيلم فى هذا التوقيت، ابتسم قائلاً: «هذا الفيلم لا يعنى أو يشير إلى نيتى فى الاعتزال».

 حقاً.. إن الأفلام تجعلنا ندرك حقيقة أنفسنا وحقيقة الآخر.