يوميات الأخبار

سُلطان الغرام

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

الذاكرة تبدو كثلّاجة تقوم بتجميد التفاصيل، بينما الواقع يرصد تآكلها، وهكذا تكون المفارقة صادمة إذا جمعت الأقدار بعضنا بعدما عز اللقاء.

«رضينا بجرحنا وفاتونا»

الأحد:

فى زحام الشوارع، تستعيد الإذاعة بعض تألّقها، خاصة فى الساعات الطويلة التى تلتهمها الطرق من موازنة الزّمن. تنبعث الموسيقى مُحمّلة بشجن لا يتناسب مع كلماتها المتفائلة نسبيا. بصمة المُلحن أصبحت تفرض نفسها على ذائقتى بدون تفكير. بعد المقدمة الموسيقية يتدفق صوت فايزة أحمد بعذوبة: «وما دام معاي.. اللى بحبه وبريده ما دام معاي.. وبنقْسم اللُقمة ونضْحك وبنشرب شاي». إنه الموسيقار محمد سلطان الذى تنقلنى ألحانه عبر الزمان والمكان تلقائيا. قد يسهُل تفسير الرحلة الزمنية اعتمادا على تاريخ ميلاد الأغنيات. بعضها يكبرنى فى السن، لهذا ترسّخت نغماتها فى وجدانى منذ الطفولة، وشكّلت ذائقتى التى لا تستجيب إلا للطرب الأصيل، لكن الغريب أن المكان حاضر بدوره. 

على طريقة السينما، يتراجع صخب السيارات تدريجيا، وتغيب معالم الشوارع الحديثة. تتشكّل صورة بيت ريفى قديم، مُشيّد بالطين اللّبن رمادى اللون، يُطل على مجرى تُرعة تحتضنها أشجار التوت والجميز. الكهرباء غائبة والبطولة للمْبة جاز بدائية، تضىء الحياة لحبيبين أمام «كانون» يستضيف براد شاى أصبح طرفا فى أغنية عاطفية. مُضطّر أن أقطع سياق الخيال مؤقتا لتوضيح معانى المُفردات، فالكانون اختراع مصرى قديم، سبق ظهور البوتاجاز بمئات السنين، وكان عبارة عن قطع من الطوب تتراص بشكل مُربّع، تتوسّطه قطع خشب أو «قوالح» ذُرة تأكلها النيران وتُستخدم فى طهى الأكلات السريعة، أو إعداد المشروبات الساخنة. إنه نموذج مُصغّر للفُرن البلدي، المخصص لخبيز «العيش» والأكلات الدسمة!

«مايهمنيش مهما قالوا .. ماهو دول عوازلى وعزّاله.. بيقولوا داير على حاله.. مع انه كان فى الساعة دى قاعد معاي». تتآلف الكلمات والنغمات، ويأسرنى تصاعد «الكمنجات» التى تزرع فى نفسى طاقة هائلة من الحنين، اعتاد الموسيقار الكبير الذى رحل اليوم أن يستخدمها ببراعة، ليُحفّز المشاعر على الانسياب، ويُفجّر طاقات الحبّ والحنين وحتى العتاب. 

ذات عُمْر بعيد، سمعتُ صوت فايزة فى جملة: «صوتك قمر ونّاس دايب فى ليل الناس.. لكن يضوى لناس يا ساكن العالي». غابت بقيّة الأغنية ولا أذكر السبب، ربما سمعتُها تنساب من سيارة عابرة، لكنى أتذكر أننى قضيت بعدها فترة طويلة أبحث عنها دون أن أعرف اسمها، حتى اكتشفتُها وأصبح حضورها مُزمنا على قائمة الأغنيات المفضّلة، التى أحرص على الاستماع إليها كلما اختلستُ وقتا للمشاعر من عالم مادى لا يرحم. 

بدورها تعيدنى لزمن آخر، وسطوة مكان يُكرس لمقاييس جمالية تراجعتْ، عندما كان اللون الأسمر مقياسا للحُسْن، روّج له شعراء كبار معظمهم نازحون من الصعيد إلى المدينة القاهرة: «بالى معاك بالى.. يا ابو الهوا العالى يا الاسمر.. طول مانت فى العالى يا الاسمر مش راح تشوف حالى يا الاسمر.. يا معدّى عالسكة.. لا نوم ولا ضحكة.. من يوم ما على بيتنا.. عدّيت وورّيتنا.. كيف النجوم فى الليل تسهر». 

رحل محمد سلطان دون لقاء يجمعنا، مثلما غاب كثيرون أحببْتهم عن بُعد، لكن تأثيرهم مُتغلغل بداخلي، لأن كلا منهم عبّر بشكل ما عن بعض تفاصيل حياتى فى إحدى محطاتها، ويكفى أن سلطان الطرب أبدع أيقونة العشاق الموجوعين، وظلّت إحدى أغنياته حائط مبكى لكل من عانى من غدْر الأحباب أو هجرهم، «خليكوا شاهدين على حبايبنا خليكوا شاهدين.. بيدوّروا عاللى بيتعبنا خليكوا شاهدين.. وبقالنا سنين فى الهوى تايهين.. ما احناش عارفين نرتاح مع مين.. وهنشكى لمين غير حبايبنا؟». 

رفعت الأغنية شعار: «فداونى بالتى كانت هى الداء»، لتُصبح الشكوى للحبيب الغادر مُسكّنا مؤقتا لا يخلو من مذلّة، بعد أن رضى البعض بالجرح لكنه لم يرض بهم! «جرحونا الأحباب جرحونا.. ورضينا بجرْحنا وفاتونا.. ولا منهم عايزين يداوونا.. ولا خدنا مالحب نصيبنا»!. 

رحم الله سلطان الغرام.

إيجار قديم

الاثنين:

فى متاهة الفضائيات يُصبح الاختيار مُهمة شبه مستحيلة، يزيد من صعوبتها تلك العصا السحرية، التى نعرفها باسم «ريموت كونترول»، فالتحكّم فى الشاشة بمجرّد ضغطة يفرض إغراءاته. فجأة يجذبنى مشهد لفنانيْن أعتبر أداء كل منهما مدرسة مُستقلة: شريف منير وصلاح عبد الله. مباراة فى التمثيل ينتصر فيها المُتفرّج الذى يشعر أنه يلتهم وجبة فنية مُمتعة. ينتمى مسلسل «إيجار قديم» لاتجاه درامى يملك مُقومات جذْب المشاهدين، حيث يشعر كل منا أنه يعيش حياته الطبيعية.

حياة تقف فى مرحلة رمادية، لا يكون فيها الشر مُسيطرا ولا الخير مُطلقا. بالتأكيد هناك مشكلات، لكنها عادية مثل مُشكلاتنا، خلافات وصراعات لا تتطور مثلا إلى حادث قتل غامض، ولا إلى حالة سواد مُعتمة. تظهر «ليلى» بشخصيتها الطبيعية كأنثى حادة حينا ورقيقة أحيانا، يستوقفنى أداؤها وسط «حيتان» التمثيل وتُعجبنى تلقائيتها. أسأل عن اسم الفنانة التى تؤدى الدور.

إنه نمط من الأسئلة بدأتْ زوجتى تتمرّد عليه، بعد أن صار يتكرّر بشكل دوري، مع أبطال كل عمل فنى أو حتى ضيوف برنامج «توك شو». عادة أسأل عن أشخاص أعرفهم، لكن الذاكرة تُعاندنى وتتمنّع عن كشف هويتهم! مع الإلحاح تردّ زوجتى فى النهاية قائلة إن الممثلة هى إلهام وجدى.

هنا فقط عرفتُ سبب عدم تذكّرى لها، رغم إعجابى الشديد بأدائها فى فيلم مُتميز حمل اسم «توك توك»، ففى هذا الفيلم أدّت دور سيدة مُهمّشة تعيش فى حى عشوائي، استضاف وجهها خطوط المُعاناة، حتى غاب جمالها بفعْل عوامل تعرية الزمن. فى «إيجار قديم» استعادتْ إلهام جمالها الأنثوى الذى سلبه الفيلم منها، وعرفتْ كيف تفرض نفسها وسط أبطال العمل، غير أن ما رصدتُه من إمكانياتها التمثيلية فى «توك توك» يؤكد أنها لا تزال تنتظر مُخرجا، يستخرج طاقاتها الفنية غير المحدودة.  

ابن عبد الصبور

الثلاثاء:

بدون دعوة، تفرض منشوراته نفسها علىّ. أصبحتْ ضيفا دائما يحل علىّ كلما فتحتُ «فيس بوك». ربما لأن المدعوة بالخوارزميات رصدتْ اهتمامى بقراءة ما يكتب. إنه شاب لم يصل للعشرين من عُمْره، طلب صداقتى مثلما فعل غالبا مع أصدقاء أبيه، ثم اكتشفتُ فيه موهبة استثنائية. يكتب: «أتذكّر رسالتي: 294 يوما بقيت على عيد ميلادك»!

هكذا بدأ منشوره اليوم، عاشق شاب يعيش بمشاعر جيل يُلملم أوراق عُمره استعدادا للرحيل. يعدّ الأيام منتظرا ذكرى ميلاد حبيبة لا تشعر به، فى زمن تُقاس فيه فترة صلاحية قصص الغرام بالدقائق! بعد تعليقيْن على بعض كتاباته حرص على زيارتى مع والده، كان أكثر ما أعجبنى فيه أنه لا يشعر بموهبته، رغم أن بعض من هم أكبر منه يعتقدون أنهم مبدعون، دون أن يمتلكوا أقل القليل من مُقوّمات الموهبة.

عيناه قادرتان على اقتناص أحداث عابرة وتحويلها إلى نصوص تنتهى بمفارقات غير مُفتعلة، والطريف أنه لا يُدرك معنى كلمة مفارقة! إنه عمّار ابن الصديق عبدالصبور بدر، الذى يزعم أن قصة حبه خيالية مع أننى متأكد أنها أمر واقع، فلا يُمكن لمن لم يعش مشاعر واقعية أن يقول عن حبيبته: «بينما قلبك الأسمنتى إذا اقتربت منه الزهور تموت»!

 أتمنى فقط ألّا يعيش عمار فى جلباب أبيه، الذى أهمل القصة لأن له فى الدنيا مآرب أخرى!

ألبوم مهجور

الأربعاء:

لا أعرف كيف أطلّ فجأة من بين أكوام الكُتُب. غالبا تعرضتْ غُرفة مكتبى لعملية تفتيش زوجية، انتهتْ بتغيير ترتيبها المُعتاد، رغم الحرص الشديد على عدم ترْك أية آثار تدل على ما جرى. أتساءل عن «الغلْطة» التى وقعْتُ فيها وأثارت الشك فى سلوكي، وأطمئن نفسى بأننى لم أخبىء بين الكتب أدلة أو قرائن تُدينني. أسحب ألبوم الصور القديم وأقلّب صفحاته، معظم ما يضمه يعود إلى فترة الجامعة. 

مرّت سنوات طويلة احتفظت خلالها الصور بذاكراتها، مقارنة بأخرى غيّبها غبائى فى التعامل مع الهواتف الذكية. مع كل هاتف فقيد ترحل مقتنياته من اللقطات، بينما تظل مشاهد الجامعة حاضرة، حتى لو صارتْ باهتة كذكرياتي. 

هناك أشخاص نسيتُ أسماءهم، وآخرون مستمرون فى حياتى كأصدقاء قلائل مُزمنين. وعلى الأعراف أبطال لقصص الحبّ القديمة ذات المذاق الصبي.

أتذكّر قصة كل ثنائى ارتبط وظن طرفاه أن المستقبل وردي، ثم قال الفراق كلمته الفاصلة. أستعيد حكايات كثيرة تبدّلت أحوال أصحابها، ففقد الجذّاب وسامته، وودّعت الجميلة سحرها، وبقى الحنين بطلا يُمكن أن يلقى مصرعه عند أول لقاء مُحتمل، لأن الذاكرة تبدو كثلّاجة تقوم بتجميد التفاصيل، بينما الواقع يرصد تآكلها، وهكذا تكون المفارقة صادمة إذا جمعت الأقدار بعضنا بعدما عز اللقاء. وقتها فقط سنفاجأ بأننا نلتقى لقاء الغرباء!