في افتتاح مهرجان القاهرة.. «آل فابيلمان» حكاية حب «سبيلبيرج» للسينما والعائلة

«آل فابيلمان»
«آل فابيلمان»

مساء الأحد الماضى انطلقت فعاليات الدورة الرابعة والأربعون لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى بافتتاح هادئ بطيء الإيقاع، وإن أضفى عليه المكرمون لبلبة وكاملة أبو ذكرى والمخرج الكبير بيلا تار كثيراً من البهجة والحب .

حب السينما كان عنوان الحفل الذى اختتمه أحدث أفلام المخرج المخضرم ستيفن سبيلبيرج «The Fabelmans» «آل فابيلمان» والذى يأخذنا فيه لعالمه الخاص منذ طفولته وبداية غرامه بالسينما الذى سيطر تماماً على حياته، ويبوح المخرج الذى سيكمل عامه السادس والثمانين الشهر القادم بأسرار عائلية أثرت عليه ورسمت شخصيته، كان قد كشفها فى برامج تليفزيونية منذ سنوات، حتى قرر توثيقها فى فيلم يحمل بصمته وروحه وذكرياته الأولى .


يأخذنا سبيلبيرج إلى خمسينيات القرن الماضى مع أول فيلم شاهده وهو طفل صغير لتنطلق شرارة سحر السينما بداخله ويسيطر عليه ولع بصناعة الأفلام ،تدعمه أمه التى تربطه بها علاقة خاصة وهو أول أبنائها والوحيد قبل ثلاث بنات ، تسعد بولعه بالفن وتحترم شططه وحتى عبثه بلعبه وبكل مافى البيت لصناعة أفلام بكاميرته الصغيرة قام بتجنيد كل من حوله من أجلها ، أخواته وفرقة الكشافة وأمه نفسها وهى الفنانة التى تنازلت عن طموحها من أجل زوجها المهندس العبقرى و أسرتها الصغيرة فسجنت موهبتها الفنية داخل الأسرة ومنزلها الذى يفيض حيوية ودفئاً عائلياً ، إلى أن تكشف كاميرا سام ( الابن ) حقيقة علاقة أمه ببينى صديق والده المقرب والضيف الدائم للعائلة ، تتوتر علاقته بأمه ويصطدمان بعنف للمرة الأولى فيكشف لها سر غضبه ، يعرض عليها ما كشفته الكاميرا فى فيلمه الذى صنعه من أجل إسعادها فكان سبباً فى تعاسته ، لتنهار الأم بين يديه وهنا يعدها بألا يكشف سرها لأحد ( لكن سبيلبيرج يفضحها هنا ويوثق خيانتها فى هذا الفيلم ) !


تغادر الأسرة بيتها الجميل بأريزونا إلى كاليفورنيا حيث موقع العمل الجديد للأب المهووس بمجاله المهنى ، وهناك يواجه الجميع مأساة مختلفة ، ويبدأ البيت الهادئ فى الشكوى ،خاصة مع تداعى حالة الأم النفسية التى لم تطق البعد عن حبيبها بينى ويزداد غضبها على زوجها الطيب بسبب الرحيل ، ويعانى الأبناء بسبب الأم التعيسة التى كانت روحها تضفى على البيت كله بهجة وسعادة ودفء،، وتزداد معاناة سام الأقرب روحاً للأم ،ويشارك والدته الغضب على الأب بسبب الرحيل لهذه الولاية خاصة عندما يتعرض لتنمر عنيف من زملائه بمدرسته الجديدة لأنه يهودى ( طالما اعترف سبيلبيرج بأنه كان يخفى ديانته خوفا من العنصرية ضد اليهود فى ذلك الوقت ،وربما ظل يشعر بالذنب لذلك ، فقام بتعويض ذلك فى أفلامه وأصبح مخلصاً ليهوديته فخوراً بها بعدما أصبح مخرجاً معروفاً ).


فى المدرسة يواجه سام تنمر زملائه وعنفهم معه،ويواجه أيضا شرارة الحب الأول مع زميلته المسيحية ويجد سبيلبيرج هذا الخط سبيلاً لكوميديا لطيفة تأخذنا من الملل الذى يتسرب مع إيقاع الفيلم البطيء فى نصفه الثانى ، يبدل الحب حياة سام ويعيده متعاطفا مع أمه التى أصبحت تعانى غياب الحب من حياتها.. تنهار الأم فتبوح بسرها للأب الذى لا يجد حلا سوى الطلاق ،لتدفع الأسرة كلها الثمن ( وهو ما أدان سبيلبيرج والده بسببه ، فالأب أعلن أنه صاحب قرار الطلاق وكان سبيلبيرج يرى أن انشغال الأب عن الأسرة واهتمامه وولعه بعمله أثر كثيرا عليهم وعلى والدتهم التى كبتت طموحها ومشاعرها من أجلهم إلى أن انجذبت لحب رجل آخر وكأنه تعويض لما تعانيه هى أيضا ، ولذلك أنكر عليه حقه فى طلب الطلاق ، وهو سبب ابتعاده عن أبيه سنوات طويلة ، وكان الفيلم فرصة لتصحيح صورة الأب ليس أمام الناس فقط ولكن بداخله أيضا، وقد ظهر الأب طيبا عطوفا متسامحا مخلصا لأسرته باعتراف الأم نفسها ).


تنقذه موهبته والكاميرا رفيقته الدائمة من كراهية وعنصرية زملائه ،بفيلم صور رحلة للمدرسة أذهل زملاءه وغير نظرتهم إليه .. لكن تهجره حبيبته الأولى بسبب طلاق والديه (الطلاق هو عقدة حياة سبيلبيرج، والغريب أنه كان صاحب قرار الطلاق من زوجته الأولى النجمة اليهودية إيمى إيرفنج وظل يشعر بالذنب تجاه ابنه منها، لأنه أعاد ما فعله أبوه معه وأثر عليه فى طفولته).


«The Fabelmans» ذكريات سبيلبيرج طفلاً ومراهقاً التى أثرت فيه وصنعت منه الإنسان الغامض فى كثير من الأحيان ،والمخرج الموهوب بشدة ،المخلص لفنه وحبه الأبدى للسينما .. رغم حكايات سبيلبيرج عن حياته والتى جعلت أحداث الفيلم معروفة قبل مشاهدتها ، إلا أنه نجح كما كان فى كل أفلامه فى الاحتفاظ بشغفك حتى كلمة النهاية ، بفضل سيناريو مدروس ، مكتوب بعمق مذهل وحوار رشيق يمنحك الفرصة لتأمل صورة ثرية.. شارك تونى كوشنر فى كتابة السيناريو والحوار وهو أحد الأصدقاء المخلصين لسبيلبيرج والذى شاركه رحلة طويلة من الإبداع والأفلام العظيمة مثل «ميونخ» و «لينكولن» وهما من أهم أفلامهما، وكان شريكا أيضا فى تأليف «قصة الحى الغربى» الذى عرض العام الماضي.

الفيلم أيضا يضم المخضرم يانوش كامينسكى والفائز بالأوسكار مرتين عن اثنين من أفضل أفلامه مع سبيلبيرج، «إنقاذ الجندى ريان» و «قائمة شندلر» ، وإن لم تتح له طبيعة الفيلم هنا فرصة لاستعراض عبقريته ، لكنه منح الفيلم حيوية غير عادية خاصة فى مشاهد الأم والتى جسدتها ميشيل ويليامز ببراعة ،ومشاهد فيلم الرحلة المدرسية ، وأضافت موسيقى چون ويليامز لدفء وحيوية المشاعر فى الفيلم ، وهو أحد أصدقاء العمر لسبيلبيرج والمتوج بخمس جوائز أوسكار لكنه لن يضيف السادسة هذا العام بالتأكيد فلم تكن موسيقاه رغم جمالها هى الأفضل ، أما جابريل لابيل أو ستيفن سبيلبيرج شابا فهو أحد مفاجآت الفيلم وأتوقع له انطلاقاً مثيراً.