سعيد الخولي يكتب: تغير المناخ ومعركة الإنسانية الأخيرة

سعيد الخولي
سعيد الخولي

مؤتمر المناخ فرصة ذهبية ليستشعر العالم المتقدم قدر إضراره بالعالم النامى والمتأخر ويتحمل مسئوليته التى طالما تنصل منها

مسلسل «الأصدقاء» واحد من الأعمال الدرامية المميزة فى تاريخ الإنتاج الدرامى بالتليفزيون المصرى حول ثلاثة أصدقاء بينهم عالم ذرة ومحاولته تقديم حلول للعالم من خلال أبحاثه لتخليص العالم من أخطار الذرة والأسلحة النووية وكيف يواجه خطر المطاردة وتهديد حياته ـ كما تكرر مع عدة علماء مصريين وعرب قبل ذلك انتهت معها حياتهم ـ بسبب وصوله إلى مستوى متقدم ونتائج تؤرق العالم الأول الذى يسيطر بالنووى على أقدار الدول النامية غير المسموح لها باختراق تصنيف العالم الأول أوالثانى علميا ونوويا واقتصاديا. ومن أهم المشاهد بالمسلسل مشهد وقوع العالم المصرى النووى ـ الذى جسد دوره الفنان صلاح السعدنى ـ فى حقل ألغام خلال زيارته وأصدقائه للعلمين ومقابر ضحايا الحرب العالمية الثانية والتى تضم رفات ما يقرب من 20 ألف جندى، بالإضافة إلى حوالى 50 ألف اسم جندى مفقود فى ذات المعركة، وكيف أن المتحاربين قاموا بتلغيم المنطقة منذ الحرب ولم يقوموا بتطهير إلا المنطقة التى احتوت رفات قتلاهم والنصب التذكارى هناك.

والواقع أن هذه القضية تكتسب أهمية قصوى ونحن نشهد أحداث مؤتمر المناخ الذى تحتضنه مصر بجدارة وإبهار للعالم جدير بمصر واسمها الكبير فى مدينة السلام شرم الشيخ؛ فقضية الألغام تثير دور الدول الكبرى فى تلويث المناخ العالمى بثورتها الصناعية وانبعاثاتها النووية التى تهدد كثيرا من المناطق فى العالم، وكيف أن العالم الأول الذى يقود عالمين آخرين يجنى أرباحه وتقدمه وسيطرته على حساب الكرة الأرضية ومعاناة شعوب العالمين الثانى والثالث الذين تقف إمكانيات دولهم عاجزة عن منع هذه المعاناة بل حتى تحجيمها. ولا تكتفى الدول المتقدمة بتلك الفاتورة الغالية فى المناخ وفى أرواح البشر وفى تهديد مناطق بالتصحر وأخرى بالغرق ـ لا تكتفى بأرباحها ومكاسبها وتقدمها بل تجبر المضرورين الضعفاء على سداد معظم تلك الفاتورة وحدها وتحمل أخطاء الغرب وأمريكا التاريخية.

وإذا حاولنا ترجمة الأرقام للمضارين من المشكلة والأرقام المطلوب توفيرها للعلاج نجد أن الحقيقة المؤكدة أن قضية المناخ عاجلة وخطرها داهم ويهدد حياة ومستقبل أكثر من ثلاثة مليارات من سكان الأرض فى كل مكان، والدول الغنية لا تفى بالتزاماتها ومنذ قمة باريس ٢٠١٥ التى التزموا فى نهايتها بدفع ١٠٠ مليار دولار لمواجهة الأزمة، فالواقع على الأرض يؤكد أن تلك الدول لم تلتزم فعليا خلال سبع سنوات إلا بإنفاق ٢٢٪ فقط من المبلغ.. وعلى رأس المتسببين تأتى الصين وبعدها أمريكا فأوروبا كأهم أسباب أزمة المناخ ولايخفى مادار خلال السنوات الثلاثة الماضية مع أزمة كورونا والصراع المستمر بين تلك القوى الثلاث الذى زاد مع كورونا وسط الاتهامات المتبادلة بالسبب فى انتشار كورونا أولا ثم الصراع الدامى والسباق الحامى حول الفوز بكعكة اللقاحات واستقطاب منظمة الصحة العالمية والدول النامية لشراء عقارات كل من تلك القوى المتصارعة، وتأتى الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد الصراع اشتعالا وتزيد مجالات تغير المناخ اتساعا. والنتيجة الطبيعية لتلك الصراعات المتتالية أن يدفع العالم النامى الجزء الأكبر من الفاتورة، ومثلا فإن أفريقيا تدفع الثمن غاليا رغم أنها لا تساهم إلا بنسبة ٣٪ من الأزمة، ولهذا تقف أفريقيا مترقبة مشاركة بقوة فى المؤتمر لأنها ترى أنه قد حان الوقت لتعويضها ومساعدتها على مواجهة تأثيرات الأزمة القاتلة .ويبقى أن العالم يحتاج لإنفاق ٢ تريليون دولار فى السنوات القادمة للسيطرة على زيادة درجات الحرارة والقدرة على التكيف مع الاثار الضارة ومساعدة الدول الأكثر تضررا خصوصا فى أفريقيا.. ولا شك ـ ولكل ما مضى من أسباب ـ أن مؤتمر المناخ فرصة ذهبية ليستشعر العالم المتقدم قدر إضراره بالعالم النامى والمتأخر ويتحمل مسئوليته التى طالما تنصل منها، لكنه اليوم يدرك أنه يدفع الثمن عنده هناك وسيدفعه مضاعفا إذا لم يسهم بقوة وإيجابية وإرادة حقيقية للدفاع عن كوكب الأرض وكفاه ما تسبب فيه من أضرار وامتصاص لمقدرات العالم النامى والمتأخر خلال فترات استعماره العسكرى ثم احتلاله الاقتصادى وحصاره العلمى واجتذابه لعقول وكفاءات العالم النامى بالإغراء التقنى والمادى والمناصب العالمية، أو إفساد استغلال دولها الأصلية لها واستئثاره بكعكة السيطرة على كوكب الأرض.

السبت: 
معركة الإنسانية الأخيرة
عامان مضيا على هذه الواقعة. بينما كنت أحادث ابنى وحفيدى على برنامج الماسينجر بالفيديو، قفز الحفيد الصغير هاجما على شاشة التليفون وعليها صورتى حيث أجلس ـ ظاناً أننى داخل التليفون ليقبض على وجهى كما يفعل وهم فى زيارتنا.!

وتصادف ونحن فى المحادثة أن كنت أتابع حلقة من مسلسل «ليالى الحلمية» يصرخ فيها العمدة سليمان غانم ـ الفنان صلاح السعدنى ـ قائلا: «جاااى»، ثم يقول فى هياج: شد لى تلغراف لميت الغانم بحيرة.... وما بين حفاوة الحفيد وجملة العمدة «شد لى تلغراف»، غاصت بى الذاكرة فجأة فى قاع العمر الماضى لما يتجاوز نصف القرن وبالتحديد ليلة الاثنين الأخير من فبراير 1968 حيث وفاة شقيقتنا الوحيدة هدى وهى ابنة ثلاث سنوات، وبعد أن نفذت مشيئة الله منتصف الليل اضطر أبى رحمه الله للنزول فجرا لمكتب التلغراف القريب «ليشد» تلغرافا إلى القرية لإخبار جدى وجدتى رحمهما الله وأعمامى بالخبر المشئوم كى يحضروا ليشاركونا مصابنا الجلل، وما بين إرسال التلغراف ووصوله للقرية ثم حضورهم مساء ذلك اليوم لم يستطع الجد والجدة والأعمام اللحاق بنا قبل دفن المتوفاة.

أراجع ذلك التطور الهائل فى وسائل الاتصالات ما بين الخطابات ثم البرقيات ثم التليفون الذى لم يكن متاحا لأكثر من 90% من الناس مرورا بالاختراع الخيالى للتليفون المحمول، ثم الخيال نفسه بالتواصل عبر الفيس بوك وما يتيحه من التواصل بالفيديو صوتا وصورة من أى منطقة فى العالم إلى أى منطقة أخرى، ثم الخيال الأوسع مع فيس بوك وهو يطور برنامجا عن الذكاء الاصطناعى يقرأ ما يجول بخاطر أحدنا ليجسده له كتابة ونطقا، بل لعله يتيح لنا عرض أفكارنا ومن نفكر فيهم من أشخاص لنجده قد قام بقراءة تلك الأفكار لكل منا فى ذات الوقت... ليكون جهاز محمول كل منا جاسوسا يكشف خصوصياته وأفكاره للآخرين! .

الأحد: 
قارئة فنجان تكنولوجية
ويتساءل البعض كيف يعرف الفيس بوك مانفكر فيه أو نتحدث فيه أحيانا فيما بيننا لنجده بعد دقائق وقد عرض على صفحتنا الشخصية مايتوافق مع مافكرنا أو تحدثنا فيه؟.. لعلنا لا نتنبه إلى أن معظم أجهزة المحمول يتم اختراقها أولا من خلال برامج تجسس وتنصت مثبتة على كثير من تلك الأجهزة فضلا عما يتسلل إلى تلك الأجهزة من خلال برامج يتم تثبيتها برغبة صاحب الجهاز بعد موافقته على وصول هذا البرنامج أو ذاك إلى جهات الاتصال والصور الخاصة بصاحب الجهاز، وبالتالى يعطى الإذن برغبته ورضاه التامين ليكون مكشوف المعلومات والصور الخاصة، وليس له أن يستغرب بعدها مثلا إذا تحدث تليفونيا مع صاحب إحدى جهات اتصاله فى موضوع ما ليجد كل منهما بعدها مجال حديثهما مادة لإعلان عن شيىء يخص تلك المحادثة، ونظن بعدها أن الفيس بوك يقرأ أفكارنا.

أما على مستوى الدراسات التى ساعدت على كشف بعض غموض هذا الأمر فقد أجرت إحدى الجامعات الأمريكية دراسة على عدد من أصحاب صفحات وحسابات بالفيس بوك من خلال بياناتهم وصورهم واهتماماتهم ومشاركاتهم وتعليقاتهم على منشورات الغير وردودهم على تعليقات الغير لهم، ومن خلال كل ذلك تم تكوين تصورات عن صاحب كل صفحة وحساب. وبعد ذلك قام فريق الباحثين بمقابلة أصحاب هذه الصفحات والحسابات وجها لوجه لمقارنة نتائج الدراسة بالواقع الحقيقى وكانت المفاجأة أن نسبة الموافقة بين نتائج الدراسة النظرية وبين الأشخاص الحقيقيين بلغت ٧٤٪.. من هنا مثلا يمكننا تفسير كيف يتمكن الفيس بوك من التعامل مع أصحاب الصفحات والحسابات كأنه يتغلغل فى تفكيرهم بل يمكنه تقديم تحليلات لكل شخصية بدرجة توافق عالية ، ويمكننا أن نلاحظ هذا الأمر من خلال برامج المسابقات الخفيفة التى تحاول تقديم قراءة لصاحب الصفحة بموافقته وتجربته وإغراء أصدقائه بنفس التجربة وهم يرون صاحبهم بين يدى قارئة فنجان عصرية تكنولوجية.

الاثنين: 
وما بعد الخيال
ثم يأتى ما بعد الخيال فيما سمى بـ»الميتافيرس» الذى يخلق عالما افتراضيا أشد شراسة من الفيسبوك الحالى، وتنبع شراسته الكبرى والأخطر فيما سيخلقه من توحد يضرب الجميع يعيش فيه كل من سيستخدمه فى عالم يحدد معالمه ويحدد مندوبه المتجول نيابة عنه؛ يسافر به وقت يشاء إلى حيث يشاء فيما يطلق عليه «آفاتار». يعايشه الميتافيرسى بمشاعره وأحاسيسه فيراه بالكاميرا المصنوعة خصيصا له، ويلمس أشخاصه فى أى منطقة بالعالم من خلال القفاز الذى يطورونه حاليا لينقل الأحاسيس بين المتصافحين والمتقابلين بالأحضان عبر ذلك العالم الساحر الذى يبشر به عالم الميتافيرس ويقطع به خيوطا أخرى من خيوط الإنسانية المنتهكة بالفيس بوك الذى نشكو منه، فإذا بنا نواجه ماهو أخطر على بشريتنا وأحاسيس الأجيال القريبة ـ الموجودة حاليا ـ التى ستتمكن به من العمل دون الذهاب إليه وحضور حفلات دون الذهاب إليها، بل دون وجود حفلة حقيقية من الأساس. إنه عصر انفصام الفرد عن المجموع ، بل انفصامه عن نفسه وهو يوكّل بدلا منه «آفاتار» يختاره ويشتريه من عالم الميتافيرس ليتحرك بديلا عنه فى ذلك العالم فوق الخيالى. عالم كهوف الوحدة وبرارى الأفكار وتوحش الأنا المتوحدة فى غرف الدردشة والتزاور الآفاتارى، هو فى رأيى معركة الإنسان الأخيرة ما بين إنسانية تتحمل مسئوليتها لصالح إعمار الكون والحياة بمعايير ومقاييس مبدئية دينية أخلاقية، أو تفقد كل هذا ليعيش البشر بلا ضمير ولا مبادئ؟