أسامة عجاج يكتب: أحوال شخصية … فقه الأولويات

أسامة عجاج
أسامة عجاج

الأرقام التي كشف عنها وزير العدل المستشار عمر مروان مؤخرا، مفزعة، حيث وصل حجم القضايا المعروضة أمام القضاء إلى ١٥ مليون قضية، فماذا عن عدد قضايا الأحوال الشخصية من هذا العدد المخيف.

جهود خيرة تبذلها جهات عديدة، لسرعة التوصل إلى قانون جديدة للأحوال الشخصية، قد يظهر إلى النور خلال هذا العام، منها اللجنة التى أمر بتشكيلها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى يونيو الماضي، حيث وجه بتشكيل لجنة من الخبرات القانونية والقضائية المختصة، فى قضايا ومحاكم الأسرة برئاسة المستشار عبدالرحمن حنفى رئيس محكمة طنطا، وعضو مجلس القضاء الأعلى السابق، وعلى نفس المستوى تعمل لجان أخرى لنفس الغرض، من الأزهر الشريف، والمجلس القومى للمرأة، ومؤسسات أخرى للمساهمة فى هذا الجهد الطيب، الذى نتمنى أن ينجح، فى إنهاء هذا الملف، الذى يتسبب فى مشاكل لا حصر لها، وأزمات تعانى منها الأسر، وينعكس بالضرورة على حاضر و مستقبل الأبناء، ولدى بعض الملاحظات فى هذا المجال، التى قد تفيد فى ذلك، يمكن رصدها فى الآتي:

حكايات مختلفة
أولا: البعد عن فكرة (مظلومية) هذا الطرف أو ذاك، فمجرد نظرة حولك فى العمل، أو فى المحيط الأسرى والعائلي، أو المجال العام، هناك اختلاف فى زوايا الرؤية، لكل أزمة أدت إلى الطلاق، وتوابعه الكارثية، خاصة إذا وصلت إلى قاعات التقاضي، فهناك زوج (ظالم) يسعى إلى التهرب من واجباته، التى فرضها عليها الشرع والأعراف، ومنها دفع النفقة، وعلى نفس المستوي، هناك زوجة (متجبرة) تتعامل بمنطق الانتقام، والرغبة فى الحصول على أكبر قدر من المكاسب، تحت شعار (أحسن من عينه)، وتحاول المماطلة فى حق الرؤية وتشويه صورة الأب أمام أبنائه.

ثانيا: الوقائع أثبتت، أن كثرة التدخل بالقانون، قد تتسبب فى تأزيم المشاكل بين الطرفين، ولنا فى قانون الخلع نموذجا حيا، والذى صدر فى يناير ٢٠٠٦، وأعطى الحق للمرأة، فى رفع دعوى ضد زوجها، حال رغبتها فى الانفصال عنه، وتفدى نفسها بإرجاع المهر، والتنازل عن حقوقها المالية الشرعية، مع احتفاظها بحقها فى المطالبة، بقائمة مفروشات بيت الزوجية، ونفقة أطفالها ومسكن للحضانة، القانون لقى ترحيبا واسعا من (الجمعيات النسوية)، لقصر مدة التقاضي، التى لا تتعدى شهورا، كما أن الحكم غير قابل للطعن، مقابل سنوات فى قضايا الطلاق العادية، التى تمر بمراحل متعددة، كل ما سبق جميل، ولكن الأرقام التى خرجت من الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فى عام ٢٠٢٠ كشفت عن قانون

أن الخلع كان سببا رئيسيا فى ارتفاع معدلات الطلاق، وأشارت إلى أن حوالى ٨٤ بالمائة من أحكام الطلاق فى عام ٢٠١٨، جرت بقانون الخلع، وقد تعالت الأصوات بضرورة تعديله، من أساتذه الطب النفسي، نظرا لسوء استخدامه من بعض السيدات، وكذلك من الأزهر ودار الإفتاء، وقد دعا شوقى علام مفتى الجمهورية صراحة إلى ذلك، وحتى لا يترك الباب مفتوحا أمام المراة، أو اللجوء إليه دون ضوابط، ووصل الأمر إلى أن أحد أعضاء مجلس النواب وهو عاطف مخاليف، تقدم باقتراح ضرورة توافر شرط من عشر شروط، للقبول بدعوى الخلع، وهى الغياب المتواصل لعامين، والضرب المبرح، والحبس فى قضايا مخلة، وعدم القدرة على الإنجاب، أو غياب دون سبب واضح لذلك، رغم عدم وجود موانع صحية، والعجز الجنسي، واستحالة العشرة بين الزوجين، بعد تعدى الأبناء الـ ١٨ عاما، والتلبس بالخيانة، والزواج من أخري، وعدم الإنفاق عليها وعلى الأسرة.

ثالثا: الالتزام بفقه الأولويات، وتحديد مجالات الجهد المبذول، فالسعى إلى خفض نسب الطلاق، التى وصلت إلى معدلاته مخيفة، أكثر أهمية من الاهتمام بتضييق الخناق على تعدد الأزواج مثلا، خاصة أننى اجتهدت فى البحث عن نسب رسمية صادرة من أى جهة معنية للتعدد، فلم أجد، والأمر هنا قد يتعلق بوجود حالات زواج سرية، كما أن السعى إلى تخفيض نسب العنوسة المرتفعة، أهم كثيرا من الاهتمام المريب، وفى تغيب متعمد لقضايا ذات أولوية، حيث نلحظ مؤخرا على وسائل التواصل الاجتماعى اهتماما غير مبرر بقضية (القايمة)، مع انتشار شائعة إلغاء قائمة المنقولات الزوجية، وهو عرف معتمد فى مصر، وليس له وجود فى العالم العربى أو الدول الأجنبية، ويعتبرها البعض خاصة الشباب أنها وسيلة ضغط من الزوجة، تستخدمه عند طلب الطلاق، خاصة وعقوبة تبديد المنقولات قد تصل إلى سجن الزوج، وبعد أن هدأت أزمة (القايمة)، فلم تتركنا وسائل التواصل الاجتماعى نتنفس ولو بعض الوقت، حيث بدأ جدل جديد، حول قضايا أخرى ومنها الحديث عن واجبات الزوجة، والتى بدأت بتصريحات لنقيب أطباء القاهرة الدكتورة شيرين غالب، فى حفل تخريج أطباء جدد من طب الأزهر، طالبتهم بتغليب الأسرة والأطفال عن العمل، وبعدها شهدنا ردودا من جهات عديدة حول الأمر، كما لو كان اختراعا جديدا، فإحدى الطبيبات المشهورة بقضية العلاقات الخاصة بين الزوج وزوجته، خرجت بفتوى – وهى غير مؤهلة لها- تقول إنه لا يوجد سند شرعى أو قانونى يجبر المرأة على الطهى لزوجها، وبدا الامر كما لو مرسوما، أو جزءا من حملة مدروسة، بعد دخول عضوة فى مجلس حقوق الإنسان، لتضيف (إن الزوجة غير ملزمة بالرضاعة، وإن فعلت فمن حقها تقاضى أجر)، وهو خلط مقصود بين الزوجة والمطلقة، وتدخل أستاذة فقه مقارن على الخط، لتقول (لا يجب على الزوجة أن تقوم بالأعمال الزوجية وليس عليها أن تتفرغ لتربية أبنائها، أو طلبات الزوج)، وقد يحسم أمر ما يلزم وما لم يلزم على المرأة فى بيتها، ما جاء فى السنة النبوية من حديث الرسول الكريم، مع ابنته فاطمة رضى الله عنها عندما طلبت خادما يعينها فى أعمال بيتها، ونصيحة الرسول الكريم لها، بالتسبيح ثلاثا وثلاثين مرة، والتحميد مثلهم والتكبير أربعا وثلاثين مرة، وقال (هو خير لكما من خادم)، مما يفيد بقيام السيدة فاطمة - وهى من هى - بكل أعمال البيت.

كما أن الآية الكريمة (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه)، هذا تأكيد على أن الرضاعة أمر فطري، جزء من مهمة سامية تؤديها المرأة، وتأجير مرضع خاصة بالمرأة المطلقة، والتى تسمح لها بالحصول على مقابل إذا أرضعت ابنائها من زوجها السابق، ويضاف الى ذلك الآية الكريمة (والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين)، والخبر هنا للأمر، ولعل فصل الخطاب كان فى بيان مركز الأزهر العالمى للفتوى الأخير، الذى تضمن الأحكام الشرعية بالتفاصيل فى كل تلك الترهلات، وقال (إن الخوض فى أحكام الأسرة بغير علم، يُشْعِل الفتن، ويُفسد الأسرة، ويعصف باستقرار المُجتمع، وشدد فى بيان له، على أن العلاقة الزّوجية علاقة سَكَن تكامُليّة، تقوم على المودة والمُسامحة، وحفظ حقوق الرّجل والمرأة والطّفل، وليست علاقة نديّة أو استثمارية نفعيّة، وتغذيةُ روح المادية والعدائيَّة فيها جريمة أخلاقيّة)، وبالتوازى مع ذلك ظهرت ازمة جديدة، مع بوست من احد الفنانين المغمورين الذى طواه النسيان فلم يجد سوى الشذوذ الفكرى للعودة من جديد للأضواء بنسف مفهوم الزواج من أساسه، يطرح (المساكنة) بديلا للزواج وهى تعنى إقامة دائمة للرجل والمرأة تحت سقف بيت واحد وإقامة علاقة كاملة، دون أى عقد أو أوراق ثبوتية تؤكد زواجهم، وحريتهم فى العيش هكذا، أو الزواج فى مرحلة لاحقة.

فقه الأولويات
والعجيب أن مثل هذه القضايا لا تمثل أى أولوية لدى المصريين، ولكن خطورتها أنها تسعى لصرف النظر عن القضايا والهموم الأهم للأسر، والتى يمكن أن تمثل وقاية وحصنا حصينا، لكل الأزمات التى كانت تعصف بعماد الأسر، وتستدعى تكاتف الجميع للسعى إلى إيجاد حلول حقيقية لها، لعل أولها قضية ارتفاع نسبة الطلاق فى مصر بصورة غير مسبوقة، حيث شهد عام ٢٠٢٠ وقوع ٢١٣ ألف حالة طلاق، بمعدل حالة كل دقيقتين، والأخطر أن أكثر من ربع هذه الحالات، وقعت فى السنوات الثلاثة الأولى للزواج، وهذا مؤشر مهم على الرعونة وعدم تحمل المسئولية، وسوء الاختيار من الطرفين، بالإضافة إلى اختلاف الدوافع التى يجب أن يقوم عليها الزواج، والتركيز على النواحى المادية، وإهمال القيم الدينية، بالإضافة، وهذا عامل آخر فى ارتفاع تلك النسب- الاستثمار السيئ لمنصات التواصل الاجتماعى وظهور جروبات لسيدات تروج لفكرة المرأة القوية، وتسعى لتشجيع السيدات على الانفصال، والدليل على ذلك يظهر من مقارنة بين أعداد الطلاق فى عام ٢٠٠٨، وكانت ٨٤ ألف حالة بينما ارتفعت إلى ٢١٣ ألفا فى العام قبل الماضي، والأمر لا يقتصر على الطلاق فقط، ولكنه يمتد إلى ارتفاع معدل العنوسة فى مصر، هو البعد الثانى للأزمة والمصطلح يطلق على الشاب والفتاة بعد ٣٥ عاما، دون زواج، وتصل النسبة إلى أكثر من خمسة بالمائة للشباب وأكثر من ثلاثة بالمائة لدى الشابات، وتتعدد الأسباب منها الخوف من الفشل بعد ارتفاع نسب الطلاق، التى تدفع الطرفان إلى ضرورة التأنى فى خوض تجربة الزواج، وكذلك المغالاة فى المهور، وارتفاع تكلفة الزواج، والخوف من تحمل المسئولية وغيرها.

الحل يا سادة فى التعامل الجدى مع هذه الأزمات دون غيرها، والواقع يقول إن هناك رغبة جدية حتى لو كانت تمثل بدايات محدودة للحل، من الدولة وجهات عديدة، ومنها ما أعلنته وزارة التضامن الاجتماعي، عن (مبادرة مودة) فى عام ٢٠١٩، ووصل عدد المتدربين إلى ٣٦٠ ألف، بينما المستهدف أكثر من أربعة ملايين، وتدرس إلزام المقبلين على الزواج بالحصول على دورة تأهيل، واستعداد للحياة الزوجية، ومنها البرنامج الذى ينظمه الأزهر تحت رعاية الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب، والذى بدأ فى مارس الماضي، فى محافظة بورسعيد تحت عنوان (تأهيل المقبلات على الزواج)، لكيفية تحقيق السعادة الزوجية، مع ضرورة تشجيع مبادرة (لتسكنوا إليها)، للحد من تكاليف الزواج الباهظة، والمساهمة فى إنهاء مشكلة العنوسة، وتنشيط وتفعيل هاشتاجات، ومنها (تزوجنى بلا مهر) للدعوة إلى الحد من الارتفاع الجنونى للمهور فى مصر.

وأخيرا، كلنا أمل فى أن يتعاطى قانون الأحوال الشخصية المنتظر، مع القضايا ذات الأولوية، مثل العمل على خفض نسب الطلاق، وتوفير أسباب تحفيز الشباب على الزواج، بعيدا عن سفاسف الأمور، والتافه من القضايا.