دون شك، يجيء الفيلم الفرنسي “أثينا” في مقدمة الأعمال الأكثر إثارة وجمالا فنيا لهذا العام.
هكذا ترك الفيلم انطباعا بداخلي، عقب مشاهدته، واعترف أولا أنني كنت متردد قبل الجلوس أمام الشاشة لهاجس تقليدية القصة التي سمعتها “عنف الشرطة في مواجهة مجتمع غاضب”، لكن منذ افتتاحية المشهد الأول أدركت أنني أمام سينما أخرى، ملحمة فنية ستغزل أمام عيني، ومع تتابع الصورة باتت مشاعري رهينة ذلك الشريط الإبداعي بتوتره ومأساته التي تروي، وظللت اتساءل “هل أنا في حضرة فيلم يفيض إنسانية؟، أم يمرنا بمأزق اجتماعي أم سياسي؟، أم لحظة من تاريخ توحي باليوم؟”، الواقع أن تلك المعاني قد توحدت جميعها في “أثينا” على يد المخرج رومان جافراس وشخصياته التي جسدها دالي بن صالح، سامي سليماني وأنتوني باجون، وقد طافوا في خضم معركة عدالة بمعناها الأعمق، وهل تحققت أم لا على الشاشة، إلا أنه يقدم عرضًا مثيرًا وصعبًا في وقتنا الحالي.
في أحداث الفيلم يتم استدعاء الشقيق الأصغر لشاب قتل أثر مشاجرة مزعومة للشرطة، هذا الشقيق جندي يدعى عبد (دالي بن صالح) من خط المواجهة ليجد عائلته ممزقة، عالقًا بين رغبة شقيقه الثاني كريم (سامي سليمان) في الانتقام من الجناة وبين المعاملات الإجرامية لأخيه الأكبر مختار (أوسيني مبارك)، يكافح “عبد” لتهدئة التوترات المتصاعدة، لكن يتحول مجتمعهم، أثينا، إلى قلعة تحت الحصار، ليصبح مسرحًا لمأساة لكل من بالعائلة وخارجها.
الافتتاحية المتفجرة التي تتميز بلقطة متقنة مصممة لتشعر وكأنها لقطة طويلة، على طريقة “وان شوت”، بينما نشاهد ونلمس بداية ثورة في الآفق، والموقف في بقية أحداث الفيلم لا يهدأ أبدًا، في ظل دراما عصرية غاضبة مليئة بالألعاب النارية والعنف لأنها تتعامل مع الطبقات الدنيا التي تم تجاهلها منذ فترة طويلة في فرنسا.
المخرج رومان جافراس يقوم بأكثر من مجرد وضع فيلم طموح وحيوي في سيرته الذاتية، إنه يقدم شيئًا مثيرًا، غالبًا ما يكون قاتمًا للغاية، من خلال خيارات التقليب حول منظورات عدة للمواضيع التي تشمل وحشية الشرطة والعنصرية وغير ذلك، عندما تظل هذه الأنواع من المشاكل ذات صلة بعد سنوات عديدة من معركة الجزائر، وغيرها من النظرات المماثلة على الهوية والمقاومة الفرنسية.
ينتهي المطاف بثلاثة أشقاء على طرفي نقيض من النزاع بعد قتل شقيقهم الأصغر في ظروف مريبة على يد الشرطة.
أحداث مليئة بالطاقة المتفجرة منذ البداية، ومشاهد محفورة في الذاكرة بفضل إخراج رومان جافراس، وتُظهر أثينا كمجتمع تأثير إنكار العدالة.
التصوير كان بارعا مع حركة الكاميرا، وانفجارات الألوان ومشاهد الحركة في كثير من الأحيان، ولقطات طويلة ومعقدة بشكل استثنائي تخطف الأنفاس، لتبقى مشاهد في ذاكرتي كالصورة المقربة لـ”عبد” وهو يتحدث عن وفاة أخيه، وترى مشاعره المتضاربة حتى وهو يصرخ الكلمات المتنافرة لألمه وغضبه، لقطة واحدة لشقيق “عبد الكريم” وهو تتحرك عبر مركز للشرطة، تدخلك في القتال، بينما ينهب المتظاهرون الإمدادات، يذكرنا الفيلم بالمراسلين الذين يتابعون الأفراد وسط صراع مفتوح، كما إحدى اللحظات في الولايات المتحدة التي ظهرت فيها لقطات فيديو عن وحشية الشرطة وعائلات الضحايا التي تلتها تطالب بالهدوء، ووسائل الإعلام السائدة ليست أكثر من مجرد لسان حال تروج للدعاية والأكاذيب، لذلك عندما تزعم الأخبار أن الشبهات من جماعة يمينية لا أحد يصدقها، إنهم لا يعالجون السبب الجذري أبدًا.. الجماعات اليمينية - خاصة في أماكن مثل الولايات المتحدة - لا تتحرك بمباركة حكومتها وشرطتها فحسب، بل عادة ما يكون الضباط أعضاء في تلك المنظمات، ولا يمكن للكذب أن يزيد من توتر غير موجود.
لذا فإن القضية توحي بأكثر من ضحية، والعشرات منها تمتد إلى سنوات ماضية، في كل مرة تكون فيها تصرفات الضباط “مبررة”، تولد الغضب، وتتراكم مع كل حياة تذهب، إلى أن تصبح جحيمًا يكاد يكون من المستحيل احتوائه.. وتُظهر أثينا كيف تصبح الحياة المفقودة هي المباراة التي تشعل النار في عالمهم.
كان يتعين - مع الإخراج الرائع - على أبطال العمل إعادة الحياة إلى المشاهد، وهذا ما يفعله الممثلان دالي بن الله وسامي سليمان وهما يقدمان أداءً مدهشا، هما محور التركيز في معظم الفيلم الذي لا يُنسى بتصويره مأساة اجتماعية غاضبة ومذهلة من الدقيقة الأولى، وبفضل التوجيه القوي لجافراس لفريق التمثيل.
الفيلم يدين فشل الكثير: الشرطة، ووسائل الإعلام.. إنها حقيقة مأساوية أن التغيير من السلطة لا يأتي أبدًا بالراحة أو بدون ثمن. هناك أناس ينتظرون استغلال التوترات في المجتمع.
تعالوا نتذكر معا كيف بدأت لقطة التسلسل للحدث برمته، مؤتمر صحفي خارج مركز للشرطة، والجندي “عبد” ينعي وفاة شقيقه الأصغر “إدير” على يد الشرطة الوحشية، ويسأل برصانة عن أسماء المسئولين، تتحرك الكاميرا ببطء نحو مجموعة من الشباب في الحشد وتتوقف عند “كريم”، شقيق “عبد” الآخر، الذي لا يريد أن يسأل، بل يطالب بالعدالة، “كريم” يشعل زجاجة حارقة وتترتب على ذلك حالة من الفوضى، وبتنسيق هائل، استولى جيش من الرجال المقنعين على المركز، وزُرع الارتباك، واستولوا على الأسلحة، وسرقوا شاحنة، وعادوا بسرعة منتصرة إلى منطقتهم، المسماة “أثينا”، ملوحين بالأعلام الفرنسية من الدراجات النارية، كل هذا يتم تنفيذه بأسلوب مذهل، بدون اللجوء إلى قطع واحد.
يقوم جافراس بتجانس العمل والشجب الاجتماعي في حزمة متفجرة ومكثفة تلتقطك بقصتها وتهزك بأسلوبها عبر ذلك السيناريو الذي شارك في كتابته لادج لي، حيث يمكن أن يكون “أثينا” نوعًا من التكملة الرائعة لفيلم “البؤساء”، هناك جو من الظلم العميق في الفيلم والشخصيات تعكس في أعينهم ضجر نظام سحقهم منذ ولادتهم، يسمح لنا البث التليفزيوني في خلفية بعض المشاهد بالاستماع إلى السياسيين الطبقيين والمعارضين للإسلام الذين يعبرون عن أنفسهم وعن سكان “أثينا” كما لو كانوا كائنات غير بشرية.
يسعى الفيلم لمحاكاة مأساة يونانية، “أثينا” هي إلهة الحرب، والمعروفة بحكمتها وبراعتها العسكرية، والتي تتجلى في التنظيم الرائع لـ”كريم” وجيشه الصغير الشرس، بعد البداية التي لا تُنسى، يستمر الموقف في التصعيد، ومعه يتم عرض الحدة والدراما والإثارة السمعية البصرية مع وصول الشرطة إلى “أثينا” بقصد قمع الشباب الذين لا يتخلون عن دفاعهم العدواني من أجل العدالة، يحاول “عبد” أن يوقف “كريم”، لكن الأوان قد فات بالفعل، لقد تحول ألم القائد المتشدد إلى غضب، ترافق مع سنوات من الظلم لخلق الوقود اللازم للقتال.. كريم هنا يريد ثورة.
في أول ظهور له بالتمثيل، كان سامي سليمان استثنائيًا للغاية، لا تشك في أي وقت في قدرات “كريم” كقائد، لأن سليمان يقدم نفسه على هذا النحو، يقدم في عمله كائنًا عازمًا، بقلب مكسور ونار في عينيه: سليمان يلتقط الغضب والعذاب العميق الذي يغذي جافراس من خلاله روايته.
دالي بن صلاح ليس بعيدًا عن الركب، ويظهر مرة أخرى صفته الدرامية الهائلة والمتفجرة كأخ يتغلب عليه الألم تدريجياً، وعلى الرغم من أن شخصيته لم تتطور إلا قليلاً، فإن أنتوني باجون يقوم بعمل رائع كشرطي مرعوب.
من تجربته في إخراج مقاطع الفيديو الموسيقية، يستخدم جافراس جمالية التجاوزات لإلتقاط حالة اليأس الاجتماعي في فرنسا المنقسمة، التي تعاني من العنف وعدم المساواة، الفيلم يعمل من خلال العديد من اللقطات المتسلسلة الممتدة التي تسمح بالحفاظ على تدفق التوتر الخانق، تزحف كاميرا ماتياس بوكارد في جميع أنحاء “أثينا” لتشهد صراعات داخلية بين الإخوة، وفوضى الحي الذي تم إخلاءه وحرب طبقية حقيقية، موسيقى سوركن ملحمية بإمتياز.