إنها مصر

مرارة الهزيمة وحلاوة الانتصار

كرم جبر
كرم جبر

في ذاكرة مصر مخزون استراتيجي من التجارب والخبرات، يمنحها الوعي المتوازن، فلا تُقدم على قرارات مصيرية إلا إذا كان ذلك يخدم مصالحها العُليا وأمن وسلامة المصريين.


ولو عُدنا بالذاكرة إلى النكسة عام 1967 نجد أن الرئيس جمال عبد الناصر لم يكن مشغولاً بالحرب مع إسرائيل، بقدر تركيزه الشديد على بناء دولة قوية اقتصادياً، وأثناء الاحتفال بعيد العمال في مايو 1967 بالمحلة الكُبرى، كان الرئيس مبتهجاً وسعيداً وهو يستعرض نتائج الخطة الخمسية الأولى، والاستعداد لإنفاق 3200 مليون جنيه في الخطة الثانية، واستخدم النكات على غير عادته وهو يهاجم ما أسماه "أبو دقن" الذي "يتاجر بالدين لنسف فلوس المسلمين، ويعملوا بيها انقلابات".


كان الرئيس عبد الناصر متفائلاً جداً بالمستقبل بعد أن قطعت مصر شوطاً طويلاً في محاربة الفساد، والقضاء على الرأسمالية الفاسدة والإقطاع، وسأل ناصر عمال مصر: "أجيب لكم مصانع ولا لحمة".. وقال: "قلت مصانع أنا مجبش لحمة"، ونصح الشعب بتحديد النسل لأن عدد السكان كان ذلك الوقت 30 مليوناً، وبعد سبع سنوات يزيدون بمقدار خمسة ملايين.


ولم يتطرق حديث عبد الناصر إلى الحرب مع إسرائيل، وإنما عن البناء والتنمية ونهضة مصر وتحسين أحوال شعبها وتحقيق العدالة الاجتماعية ولكن بعد مرور قرابة شهر من خطابه التاريخي، كانت المصيدة قد نُصبت لمصر فدخلت حرباً في غير أوانها، وبدأت المأساة عندما قام فدائيو حزب البعث السوري بعمليات فدائية داخل المدن الإسرائيلية، وردت إسرائيل بهجوم كبير على دمشق، فوجدت مصر نفسها في حرب دفاعاً عن سوريا وشعبها وأراضيها، وتحرير فلسطين.. والشرح يطول والدروس المستفادة كثيرة وأهمها:
أ- جيش مصر يحمي ولا يُهدد، يصون ولا يُبدد، للدفاع عن أرض مصر وسمائها وبحارها، ولم يكن مستهدفاً لدول شقيقة أو ملوثاً يديه بدماء شعوبها، وهو دائماً يناصر أي دولة عربية تتعرض للعدوان، دون أن يكون هو المعتدى.


ب- إسرائيل التي كانت ترتعد خوفاً من مصر قبل 67 تجرأت، وتصدت لها قواتنا المسلحة الباسلة التي أُعيد بناؤها في شهور قليلة، وكبدت العدو خسائر كبيرة في حرب الاستنزاف، ومهدت الطريق إلى حرب أكتوبر المجيدة، التي محت مرارة الهزيمة والانكسار، ورفعت رءوسنا عالية في السماء.


جـ- شباب اليوم لم يعيشوا أيام الهزيمة ولم يتجرعوا مرارة الانكسار، ولم يعرفوا معنى أن ينام الوطن وقطعة غالية من أرضه لا تبيت في أحضانه، والذي يجب أن نتذكره اليوم هو حلاوة الانتصار وليس مرارة النكسة، فالمشهد كان مأساوياً ومروعاً في يونيو 1967، وآلاف الدبابات المصرية يتم تدميرها في صحراء سيناء.
وفى ست سنوات فقط استطاع الجيش الذي هُزم دون أن يحارب، أن يحارب وينتصر ويقتحم قناة السويس رافعاً علم مصر وسط صيحات مقاتليه الشجعان "الله أكبر. الله أكبر"، وشتان بين مرارة الهزيمة وحلاوة الانتصار.