محمود الوردانى يكتب : عندما ماتت السيدة البيضاء

محمود الوردانى
محمود الوردانى

[email protected]

لحُسن حظى أننى قرأت عادل عصمت مبكرا، وقبل «الوصايا» كنت قد قرأت «أيام النوافذ الزرقاء» و«حكايات يوسف تادرس» وأدركت أننى أمام كاتب يمتلك أثمن ما يمكن أن يمتلكه الكاتب وهو العالم المترامى المتسع، حتى لو كانت أغلب أعماله تدور وقائعها فى طنطا ومدنها وقراها الصغيرة، وأدركت أيضا أنه أحد الامتدادات بالغة التميز والخصوصية للتقاليد الكلاسيكية فى الرواية: رواية الشخصيات الكبرى و الحكاية الإنسانية، رواية البناء المحكم الذى يتم تشييده جيدا.


سبق لى أن كتبت عن عادل عصمت أكثر من مرة، وكان آخر ما كتبته عن «الوصايا»، ليس بسبب وصولها للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، بل لأنها واحدة من الذرُى التى بلغها الكاتب، ولقد بلغها من خلال الاتجاه الذى أسسه والطريق الذى رسمه لنفسه.


الوصايا رواية أجيال شيّدها الكاتب بأناة وصبر، وعالم على وشك الانهيار، بعد أن عجزت وصايا الأسلاف عن الوقوف فى وجه تقوض دعائم العالم القديم. فى الوصايا أيضا يلعب الموت والدفن تحديدا دورا أساسيا، كما فى أغلب أعمال عادل عصمت. ففى الوصايا مثلا، نهشت النيران قلب النيران فاطمة، التى دُفن أخوها فى أرض غريبة على طريق الفيوم، ولم يهدأ الحريق المشتعل، إلا بعد أن اختلست جلباب أخيها ودفنته فى مقابر العائلة.


وفى روايته الصادرة أخيرا عن دار الكتب خان «جنازة السيدة البيضاء» تقتص نعمة من زوجها وأيامها الكئيبة وخسارتها على مدى سنوات بزواجها من ضابط تقاعد وازداد طغيانا، وفى آخر أيامها على الأرض، وبعد أن تقابل الموت وجها لوجه، تُسرّ لابنتها بوصيتها الأخيرة: أن تُدفن فى مقبرة عائلتها وليس فى مقبرة زوجها الذى عاشت معه ثلاثة عقود من الكراهية والخوف والانفصال شبه الدائم.


لا أريد أن أحكى الرواية، فالأعمال الكبرى تُقرأ فقط ولا تُحكى، لكننى أريد أن أركّز على المقبرة التى يمكن اعتبارها الجسم الأساسى الذى تدور حوله «جنازة السيدة البيضاء». فموت عبد الله راضى ودفنه مثلا جرى فى المقبرة التى بناها بنفسه، قبل وصول جيش الفرنسوية شواطئ الإسكندرية. وعامر الأبيض أيضا، شيخ المنسر دُفن فيها، وكذلك عبد الظاهر الأبيض جاء جثمانه من وراء البحار ليُدفن فيها.


المعركة الكبرى التى سقط بسببها جرحى وشُجّت رؤوس، والتى انتهت بها الرواية، دارت أيضا فى الطريق إلى المقبرة نفسها، وأثناء دفن نعمة الأبيض التى استراحت أخيرا وأفلتت من المصير المظلم الذى كان ينتظرها لو كانت دُفنت فى مقبرة زوجها العقيد المتقاعد.


الموت إذن- عند عادل عصمت- فى أكثر من رواية، حياة أخرى بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لا استهانة بمآل الإنسان، لا اعتراف بالموت، أو بالأحرى لا اعتراف بنهاية كل شئ بالموت. وعندما احتدم الموقف بين عائلتين تنازعتا حول دفن أحد أبنائها، تُرك الاختيار للميت نفسه، وبالفعل قادهم الميت وهو فى خشبته نحو المقبرة التى اختارها.


لا تعنى السطور السابقة أن الرواية تقتصر على حكايات الموت، بل هناك بالطبع عمل كلاسيكى شيّده الكاتب باقتدار. هناك بالطبع شخصيات كبرى ووقائع وأحداث تكمن قيمتها فى أنها عادية جدا ومنذ الأزل، لكنها هنا تكتسب ملامح وتفاصيل تخص عادل عصمت، وتخص العالم الذى اختاره فى قرى صغيرة منسية فى أحراش الدلتا، أو فى مدينة طنطا تحديدا.. أى أنه عالم يخص عادل عصمت، كما سبقت الإشارة.


وأخيرا كتّر خيرك يا أستاذ عادل على المتعة الصافية.

اقرأ ايضا | محمود الوردانى يكتب : فى رفقة خيرى شلبى ( 2- 2 )