محمد درويش يكتب: مع البلكونة والشيش.. الحياة أجمل

محمد درويش
محمد درويش

بقلم: محمد درويش

لا أتصور مبنى يقام على كورنيش النيل، سواء كان فندقاً أو عقاراً سكنياً أو إدارياً ويتم تصميمه بالتكييف المركزى والنوافذ الزجاجية المصمتة وواجهاته من الألوميتال والزجاج

من منا ـ خاصة أبناء جيلى ـ لا يتذكر ساعة العصارى والجلسة فى البلكونة التى كانت وكأنها معلقة على حائط الصالة أو الغرفة، لا يحدها من جهاتها الثلاث الأخرى جدار أو حديد يخنقها، كان الجلوس فيها يعنى أنك غادرت المنزل إلى «قعدة» على المقهى، دون أن تتكبد ثمن المشاريب. بإمكانك أيضاً أن تغادر وتعود بعد قليل فتجد مائدتك كما هى وكرسيك لم يشغله أحد.
ونخرج من البلكونة لنقوم بجولة عبر أزمنة مختلفة وأماكن متعددة ومتنوعة لنتعرف من خلالها على العمارة البيئية التى كانت تتناسب مع مناخ مصر فى عصر يستحق أن نطلق عليه عصر التنوير فى كل مناحى حياتنا إلى أن وصلنا إلى عصر العمارة الأوروبية الدخيلة والواجهات الزجاجية والتكييف المركزى، حتى لو كان المبنى يُطل على نهر النيل.!

المبنى القديم
نبدأ جولتنا داخل مبنى دار أخبار اليوم القديم، المبنى الذى صممه المعمارى الكبير «سيد كريم»، وهو أشبه بشكل أسطوانى ذى فراغ بعمق دائرته، كان يكفى أن تفتح نافذة المكتب «الكريتال» حتى لو كنت فى شهر أغسطس، لتفاجأ بتيارٍ من الهواء المنعش الذى يتسبب فى طيران الورق «الدشت» الذى نستخدمه فى كتابة الأخبار والموضوعات، وفى الشتاء يكفى إغلاق النافذة ليشع الدفء فى المكاتب التى تحتل مواقعها فى دائرة ذات تصميم عبقرى لا تحتاج معه إلى مراوح، ليست تكييفات تحتل مكاتبه حالياً.

العباسية القديمة وأخواتها
جولة سريعة إلى البنايات القديمة فى القاهرة الخديوية، مروراً بجاردن سيتى وشارع قصر العينى، وتدلف بعدها إلى الزمالك ثم العباسية القديمة إلى مصر الجديدة وقبلها حدائق القبة وحى الزيتون. تأمل طول النوافذ الذى يقارب ثلاثة أمتار، تفتحها شتاء بضع ساعات، لتجدد لك الهواء وتُبعدك عن تياراته، وتفتحها صيفاً على مدار اليوم، لتنام فى جو منعش نفتقده فى هذا الزمن.
وصف «تراس» هو وصف للبلكونة التى تقترب من مساحة غرفة فى المبانى الحديثة والجلوس فيها مع الأسرة أو حتى الضيوف. لا حاجة معها للاشتراك فى نادٍ والأعباء المالية التى نتكبدها، خاصة لكبار السن الذين تقل حركتهم ويميلون إلى الاستسلام للهدوء فى «التراس الجميل» بعيداً عن صخب الأندية وضجيجها.

.. وأولادها وأحفادها
وإذا كان هذا هو حال العباسية القديمة وأخواتها، فماذا عن حال العباسية الجديدة وأحفادها؟.. والأحفاد هنا هى عمارات امتداد رمسيس، نظرة على ما حدث فى نوافذها وبلكوناتها تجعلنا نتحسر على ما وصلنا إليه من عشوائية.. هناك من رفع الشيش الذى يفتح إلى الخارج ودرفتى الزجاج اللتين تفتحان إلى الداخل، ولم يكتف بذلك، بل قام بتكسير الحوائط وضم البلكونة إلى الغرفة وإحاطتها بالألوميتال والستائر من جوانبها، دون أن يدرك أن الشيش والدرف الزجاجية هى ابتكار معمارى مصرى بعد انتهاء عصر المشربيات «وشنكلة» الشيش فى عز القيلولة، كانت تعنى جواً رطباً وحرارة معتدلة أقل بكثير من حرارة الشارع، ناهيك عن القُبح الذى تسببه للعين تلك العشوائية.

على كورنيش النيل
لا أتصور مبنى يقام على كورنيش النيل، سواء كان فندقاً أو عقاراً سكنياً أو إدارياً ويتم تصميمه بالتكييف المركزى والنوافذ الزجاجية المصمتة وواجهاته من الألوميتال والزجاج. قد يكون هذا مناسباً لدولة مثل انجلترا التى يُطلق على عاصمتها لندن «مدينة الضباب»، حيث يحتاج المرء هناك زجاجاً بعرض حائط الغرفة ليُدخل أكبر قدر من الإضاءة الطبيعية. أما فى بلدنا بلد الشمس، فما معنى وجود حائط زجاجى وخلفه الستائر والتكييف المركزى؟!.. إذا تذكرنا فندق شبرد على كورنيش النيل أو «أولد كتاركت» فى أسوان، لأدركنا معنى العمارة التى تتناسب مع البيئة، وكيف نستمتع بجمال طقس بلدنا ونيله العظيم.

فى سلطنة عُمان
فى منتصف الثمانينات من القرن الماضى، كنت أعمل ضمن كوكبة من صحفيى دار أخبار اليوم فى جريدة عُمان الحكومية، حين انقطعت الكهرباء عن العاصمة مسقط قبل منتصف الليل بقليل، الانقطاع فى حدث نادر شمل أحياء العاصمة بالكامل ولم يكن هناك مفر من نزول الناس إلى الشارع ـ مواطنين ومقيمين ـ ظللنا لأكثر من ساعتين حتى تم إصلاح العُطل وعادت الكهرباء. كان الجلوس فى منزل خرسانى ذى جدران زجاجية مستحيلاً مع تعطل أجهزة التكييف، ولأننى كنت فى قسم التحقيقات الصحفية، فقد طرأ تساؤل فى ذهنى: كيف كانت الحياة فى العاصمة قبل النهضة التى قادها السلطان الراحل قابوس فى ٢٣ يوليو ١٩٧٠ قبل أن تعرف عُمان العمارة الحديثة وأجهزة التكييف؟!. توجهت بسؤالى إلى وزير البلديات آنذاك أحمد عبد الله الغزالى، فقال إنه لم يكن ينام فى فصلى الصيف والخريف إلا على سطح منزله فى الولاية التى ينتمى إليها ـ أى المحافظة ـ وكان اسمها «صور»، وهذا هو نفس ما فعله عندما انقطعت الكهرباء فى مسقط، حيث صعد إلى سطح المنزل، وآثر هو وأفراد أسرته الجلوس فيه حتى عودة الكهرباء. وقدَّم لى الوزير صوراً للمنازل العُمانية القديمة، خاصة فى منطقة مطرح، توضح كيف كان العُمانى يبنى بيته بحيث تتخلله المساقط المختلفة التى يمر فيها الهواء والنسيم العليل، للتغلب على الطقس الحار والتعايش معه، مؤكداً أننا ومنذ تخلينا عن هذه العمارة البيئية النابعة من ذهن وفكر المواطن، وحلت محلها العمارة الحديثة، كان مشهد خروج سكان مسقط إلى الشوارع هرباً من جحيم الجدران التى انقطعت عنها الكهرباء.
حسن فتحى
المهندس العظيم حسن فتحى، أحد رواد العمارة البيئية، أثبت لنا أن كل ما هو طبيعى لا يمكن أبداً مقارنته بالصناعى، استخدم الحجارة فى بناء المنازل، وصمم فيها القباب، وترك فراغات «مساقط» لمرور الهواء المنعش. الطبيعة هى الأصل، بداية من التحذير من شرب الماء المثلج والعودة إلى استخدام الزير والقُلل القناوى، مروراً بالملابس القطنية الخالصة بدلاً من البوليستر والمعالجة كيميائياً. ولا أنسى مشهداً بمحل أزياء فى إكسفورد أشهر الشوارع التجارية فى لندن، والذى علق فى ڤاترينته بعضاً من القمصان الرجالى والبلوزات الحريمى وتحتها جوال يظهر منه القطن الأبيض الشاهق دون كلمة واحدة، وكأنها رسالة تقول إن ما هو معروض مصنوع من الكتان والقطن المعبأ فى هذا الجوال.

ويبقى الأمل
فى خضم كتابة هذه اليوميات وفى لحظات استرخاء من عناء الكتابة طالعت موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» على ناشط يدعى أحمد على وجدته يعرض تحت عنوان أجمل  جامع فى مصر وهو مسجد قرية «باصونة» مركز المراغة بسوهاج، الذى مضى على بنائه عشرون عاما من تصميم المعمارى وليد عرفة، اهتم بتصميم كل تفصيلة فى المسجد بداية من القبة المميزة التى شكلها  من الطوب وليس لها مثيل فى أى مسجد آخر، والمئذنة الملوية التى استوحى تصميمها من شكل حرف الألف فى الخط المنسوخ، وصمم المحراب من حجر الألباستر المنفذ للضوء وحفر على كل حجر اسما من الأسماء الحسنى، اعتمد أيضا على الإضاءة والتهوية الطبيعية لا يحتاج نهارا إلى إنارة صناعية أو تكييفات غير باقى التفاصيل فى الكتلة الخارجية حتى أصبح المسجد متميزا فى عمارته المستوحاة من البيئة.

هذا نموذج يثبت لنا أن كوادرنا تتواجد فى مجال العمارة البيئية كما تتواجد فى كل مجال آخر، المهم أن تتاح لها الفرصة وأن يسند إليها ما يناسبنا وكفانا عمارة وتصاميم بعيدة كل البعد عن مناخنا واحتياجاتنا البيئية التى ابتدعها الأقدمون وتمسكوا بها وتخلى عنها الأحدثون.
وربما كان سببا فى كتابة هذه اليوميات ما ذكرتنى به صفحة تحقيقات الجمعة بجريدة الأهرام فى عددها الأخير ٢٣ سبتمبر وهى الصفحة التى تشرف عليها الزميلة علا عامر التحقيق كان للزميلة سهير عبدالحميد بعنوان «البحث عن بلكونة».

تذكرت ما كتبته فى أحد مقالاتى يناير ٢٠١٥ تحت عنوان «البلكونة راحت فين»، وأيضا فى نافذتى سبتمبر عن العام الماضى عن البلكونة ودورها الفائت فى حياتنا.
تبين لى من التحقيق الصحفى الرائع أن عدم وجود البلكونة وبشكلها القديم يرجع إلى مخالفة شروط التراخيص وقيام المالك باستقطاع المساحة المخصصة فى الرسم الهندسى أو قيام صاحب الشقة بضمها إلى الغرفة، وبالطبع لا أحد يراجع مدى الالتزام بالتراخيص كما لا يرحبون بالالتزام بالردود حتى أنك تجد الفراغات بين عمارات شوارع مدينة نصر لا تتعدى بضعة مترات مما يجعل الجميع مغلقا نوافذه طوال الأربع والعشرين ساعة ولو فتحها لحظات لكشف كل جار كل خبايا الشقة المقابلة له، وعلى عكس العقارات التى تبنيها الدولة فهى تتميز عن القطاع الخاص بمراعاة الفراغات المطلوبة بين العمارات ودخول إضاءة طبيعية وتهوية مطلوبة وفرصة للشمس أن تسطع  داخل الغرف ولا أدرى لماذا لاتكرم الدولة مطورى القطاع الخاص باتباع أسلوبها فى البناء بدلا من العشوائيات  التى صارت سائدة عندما استبدلنا القبح بالجمال.