نوال مصطفى تكتب: فى صالون «مى» كانت لهم أيام

نوال مصطفى
نوال مصطفى

حلم قديم عندى أن أقيم صالونًا أدبيًا على غرار «صالون مى» الذى أسسته الأديبة الفريدة مى زيادة، وكان بؤرة إشعاع ثقافى وأدبى وملتقى كبار الكتاب والشعراء والفنانين المصريين والعرب والأجانب.

كثيرًا مما نراه اليوم من سلوكيات رديئة، ولا أبالغ فى وصفها بالبذيئة سببها فى رأيى «الجدب الثقافى» الذى يعيشه شبابنا. المظاهر كثيرة، والمشاهد المفزعة، المقرفة بالمئات، شاب يقتل فتاة على مرأى ومسمع من البشر فى وضح النهار لأنها رفضت الزواج منه، شاب يقود سيارته فى طريق مفتوح «هاى واى» وهو يفتح باب السيارة، ويعرض السيارات المجاورة فى الطريق لخطر بالغ، ممثل شهير يرفضه مهرجان سينمائى بسبب ملابسه الغريبة، وأسلوبه الفج على المسرح، فتقوم معارك تسودها البلطجة، وقلة الذوق والأدب فى الإسكندرية، التى كانت عاصمة مصر للفن والثقافة فى العصور المضيئة بالمعرفة، والآن أصبحت مرتعًا لمجموعة من أصحاب الأفكار المتطرفة من الجانبين، المتأسلم من ناحية، والمنحرف بكل ما تعنيه الكلمة من معنى من ناحية أخرى.

الثقافة، والقراءة يبنيان شخصية الإنسان، يرتقيان بإحساسه، ويشكلان رؤيته للحياة بصورة أكثر عمقًا وفهمًا. الأفكار الملهمة، التى تؤثر فى حياة البشر لابد أن تعيش، والقدوة التى تلهب حماس الشباب للعمل والإبداع ستظل حية فى قلوبنا وذاكرة حواسنا. السبب فى ذلك أن مصر خلقت لتكون وطنًا للفن والإبداع، لا تنضب فى تربتها الموهبة، ولا يتوقف شبابها عن مفاجأتنا بما يحملون من أفكار، وما تتدفق به عقولهم من إبداع وتفرد.

لذلك كان لابد أن تفكر الدار التى خرج منها مشروع القرن الثقافى «روايات مصرية للجيب» فى خطوة جديدة تخلق من خلالها حالة ثقافية فنية إبداعية بين شباب مصر من الجنوب إلى الشمال ومن الغرب إلى الشرق. كانت فكرة «الصالون الأدبى» بما تحمل من إحساس كلاسيكى، رومانسى هى الأقرب إلى قلوبنا. الحنين إلى الجو الثقافى الذى تخلقه اللقاءات المباشرة بين الكاتب وجمهوره من القراء. التفاعل الحى الذى يعيد إلينا المشاعر الحقيقية التى تتولد عن التواصل المباشر، بعيدا عن شاشات الموبايل التى احتلتنا، وسلبتنا جزءًا أصيلًا من إنسانياتنا. من هنا ولدت فكرة إطلاق وتدشين «صالون روايات مصرية للجيب» الذى تبدأ أولى أمسياته يوم الأحد 16 أكتوبر 2022 ويقام شهريًا إن شاء الله كتقليد أدبى ثقافى مصرى أصيل.

حلم قديم عندى أن أقيم صالونًا أدبيًا على غرار «صالون مى» الذى أسسته الأديبة الفريدة مى زيادة، وكان بؤرة إشعاع ثقافى وأدبى وملتقى كبار الكتاب والشعراء والفنانين المصريين والعرب والأجانب. «مى زيادة أسطورة الحب والنبوغ» هو عنوان كتابى الذى تناولت من خلاله قصة حياتها المليئة بلحظات المجد، ولسعات الجحيم، وكان وما يزال من كتبى التى أعتز بها كثيرًا، والذى حظى باستقبال رائع من الأوساط الأدبية والثقافية. تحقق حلمى بالصالون الأدبى جزئيًا فى مكتبة «حنين» التى أسستها بجهدى ومالى الخاص، ثم جاءت أحداث 2011 لتسدل الستار على تلك التجربة التى أعتز بها كثيرًا.

والآن تبدأ دار«الشركة العربية الحديثة للطباعة والنشر» صاحبة مشروع القرن تحت رعاية الأستاذ مصطفى حمدى مصطفى هذا الصالون الوليد، الذى سوف أشرف بإدارته وتأسيسه. إنها دعوة مخلصة لكل من تربى، وتشكل فكره على روايات وسلاسل أحمد خالد توفيق، نبيل فاروق، خالد الصفتى وغيرهم أن يشاركنا هذا الحدث الثقافى المهم، وأن نستعيد معًا ذكريات خلقت أجيالًا من القراء المهتمين بهذا العالم الأثير، الساحر. عالم الكتاب والقراءة. فى انتظاركم جميعًا فى الصالون الأول لـ «روايات مصرية للجيب».

أفكار تصنع المجد
هو شخصية استثنائية بكل المقاييس. إنسان لديه حلم كبير، لم يحتفظ به فى خياله كحلم يقظة يذهب إليه بخياله كلما داعبه الحنين، لكنه خطط لمشروعه الفريد، الذى يحمل وحده براءة اختراعه. درس كل تفاصيله، نحت بنفسه أدواته بصبر وإيمان ودأب، حتى تحول المشروع من فكرة محلقة، حالمة، ومغامرة طموحة تحفها المخاطر إلى واقع مبهر من دم ولحم، وأشرقت فى حياته شمس الإنجاز والنجاح، لتغمر بخيوطها الذهبية ملايين الشباب، وترسل بشعاع معرفة ساطع، براق.

لم يكتف حمدى مصطفى بالنجاح المدوى لكتاب «سلاح التلميذ» الذى أصبح موجودًا فى كل بيت فى مصر، يرافق الأطفال خلال أهم مرحلة فى التعليم وهى المرحلة الإبتدائية. بل شغل فكره موضوع الثقافة، خاصة عند الشباب الصغير الذى انصرف عن القراءة. لفت نظره خلال زياراته إلى أوروبا أن الشباب يقرأ فى كل مكان، فى المترو، فى الأتوبيس، وهو يقف منتظرًا فى المحطة أن تصل حافلته. جذبته تلك المشاهد الملهمة، احتلت تفكيره، وجعلته يبحث عن إجابة لسؤال زرع فى رأسه، وظل يلاحقه: كيف يمكننى أن أنقل تلك الروح المحبة للقراءة الشغوفة بالكتاب والمعرفة إلى الشباب المصرى والعربى؟.

هنا ولدت فكرة «روايات مصرية للجيب» لكن الفكرة وحدها لا تكفى، كان لابد من آلية تنفيذ تمكنه من تحويل الفكرة المحلقة فى الهواء إلى واقع يتحرك على الأرض. أعلن عن مسابقة مفتوحة لجميع الشباب من الكتاب الذين لم ينشر لهم كتاب فى حياتهم ولديهم موهبة الكتابة.

كان يروى حمدى مصطفى بفخر واعتزاز، كيف كان يؤجر شقة من ماله الخاص للكتاب والرسامين ليقيموا فيها حتى يوفر عليهم مشقة وكلفة السفر كل يوم من طنطا إلى القاهرة والعكس. كانت عجلة النشر سريعة، لا تهدأ، كأنها مطبعة صحفية لا تجارية. سلاسل عديدة تحمل أسماء مختلفة، يصدر عددا من كل سلسلة مرة كل شهر وهذا يتطلب سرعة وغزارة الإنتاج، وضرورة تفرغ الكتاب والرسامين لهذا العمل. كان حلمه فى بداية إطلاق مشروعه «روايات مصرية للجيب» أن يصل رقم الأعداد التى تصدر عن المشروع بسلاسله المختلفة إلى مائة عنوان، ورحل بعد أن وصل العدد إلى ألف وخمسمائة. والآن وصل العدد إلى ألفى عنوان.  قدم مشروع القرن «روايات مصرية للجيب» لمصر نجوما رائعين فى الكتابة والرسم وصناعة الكتب منهم دكتور نبيل فاروق، الدكتور أحمد خالد توفيق رحمهما الله، وخالد الصفتى وآخرون.

بعد رحيل الناشر الفذ حمدى مصطفى عام 2011 يتولى الآن  قيادة هذا الصرح العريق مصطفى حمدى، المليء بالحماس والشغف لاستكمال مسيرة «الأستاذ» عاقدا العزم أن تستمر رسالة التنوير التى بدأها حمدى مصطفى. بالطبع هناك تحديات كبيرة، فالزمن يتغير، ولابد لأى صناعة أن تواكب التطور والحداثة، ومنها صناعة النشر والثقافة. كان عليه أن ينتقل بالكتاب إلى العصر الإلكترونى، ويدخل بدار النشر إلى العصر الرقمى حيث الكتاب التفاعلى، وكتب الأطفال الإلكترونية. لكن يظل السؤال: هل يملك أصحاب الدار من الجيل الثالث نفس شغف الأب والجد؟ هل يحلمون ويطلقون أفكارهم إلى أبعد مدى ويصلون بالدأب والعمل والإصرار إلى حلمهم؟ فلننتظر ونرى.

فى وداع الملكة
فى خطوات ثابتة، محسوبة بدقة متناهية، يتقدم جواهرجى الملكة إليزابيث الثانية صوب النعش المسجى بشموخ ووقار ملكى غير مسبوق، يمد يديه اللتين ترتجفان من جلال الموقف، وهيبته، ينتزع الصولجان أولا، يستدير بزاوية محسوبة ويتقدم خطوات محددة نحو الكاهن الذى يتسلم منه الصولجان، يتقدم الكاهن نحو رف طويل من الرخام، عليه ثلاث قطع من الشمواه الموف، ويضع الصولجان على القطعة الأولى، يستدير الجواهرجى مرة ثانية لينتزع الكرة الذهبية التى ترمز إلى الكنيسة، يتسلمها الكاهن ويضعها بدوره على قطعة الشمواه الثانية. ثم يستدير الجواهرجى أخيرًا لينتزع التاج المرصع بالماس والأحجار الكريمة، ويتقدم نفس الخطوات المحددة ليسلمها بخوف وحرص للكاهن الذى يحتويها بين يديه برهبة شديدة ويضعها على قطعة الشمواه الثالثة.

لحظات مؤثرة عاشها العالم كله وهو يتابع «جنازة القرن». تشارلز الثالث الذى أصبح ملكًا لبريطانيا خلفًا للأم «الأسطورة» لم يستطع أن يخفى دموعه فى هذا المشهد الذى تجلت فيه هيبة الموت، وحكمة الخالق. يتقدم كبير أمناء البلاط الملكى اللورد تشامبرلين - فى تقليد متوارث منذ عقود - ليكسر عصا فوق نعش الملكة اليزابيث الثانية فى إشارة إلى انتهاء فترة حكم الملكة.

التاج.. الصولجان.. الكرة الذهبية؛ سوف يرحلون، كما رحلت مليكتهم ولكن إلى «برج لندن» حيث يتم الاحتفاظ بهم فى قسم خاص للمجوهرات الملكية. هذا البرج الذى يزوره البريطانيون والأجانب لمشاهدة ما يحتويه من قطع أثرية ملكية. ويظهر فى الخلفية العازف الوحيد لتصدح ألحان حزينة، تجسد الحزن العميق على نهاية حقبة كاملة من الزمن تمثلها الملكة المحبوبة.

جنازة الملكة إليزابيث الثانية، لم تكن مجرد جنازة ملكية مهيبة، بل كانت حدثًا تاريخيًا، غير مسبوق، ولا كما أعتقد ملحوق فى زماننا القريب. إنه عرض أسطورى تم الإعداد له بكل دقة وإتقان عبر عقود مضت، والغريب أن الملكة هى التى شاركت بنفسها فى تفاصيل هذا الوداع الأسطورى، وهى التى وجهت بضرورة التدريب على كل تفصيلة من تفاصيله.

الملكية فى بريطانيا العظمى والجذور الأصيلة. أقدم وأعرق ملكية حافظت على تقاليدها بكل قوة وإصرار. حقيقى شيء يفرح، هذا الرقى، احترام التاريخ بين كل الأجيال من الشيوخ، عبورا بالشباب والأطفال الذين ظلوا يرددون النشيد الوطنى «الله يحفظ الملكة.. God save the Queen حتى بعد وفاتها.

مشهد «شارلوت» ابنة الأمير وليام الذى صار وليا للعهد الآن خلفًا لوالده تشارلز صار هو «التريند رقم 1» يوم جنازة الملكة، ابنة حفيد الملكة ذات السبع سنوات تحضر جنازة الملكة مع أخيها جورج الذى يكبرها بعامين، وتلفت الأنظار بذكائها، وحضورها القوى، ودموعها التى انسابت من عينيها تأثرا على رحيل الجدة.

رحلت الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا بعدما جلست على العرش لمدة سبعين عامَا. تمتعت خلالها بالحكمة والحنكة والمرونة، كانت رحمها الله امرأة دولة بحق، واثقة، قوية، محبوبة ليس فقط من البريطانيين، بل من الكثير من البشر فى أرجاء المعمورة. الملايين فى العالم حزنوا على رحيلها رغم إنها بمقياس الزمن عاشت طويلا (٩٦ عاما) أى ما يقرب من قرن من الزمن. عاصرت أحداثا جساما وتعاملت معها بذكاء سياسى عالى المستوى. كذلك قادت العائلة الملكية وواجهت أكثر من عاصفة عاتية بين جدران قصر العرش باكنجهام.

فى عصرها تولى ١٥ رئيسا للوزراء الحكم على التوالى بداية من ونستون تشرشل إلى أحدث رئيسة للوزراء ليز تراس التى قابلتها قبل يوم من وفاتها كتقليد ملكى عريق. أحدث خبر وفاتها هزة قوية فى العالم كله، وهذا شأن العظماء الذين يكتبون تاريخهم بحروف من عمل، أمل، عطاء، وإخلاص حقيقى. وقد كانت الملكة إليزابيث الثانية مخلصة للتاج ووطنها (بريطانيا العظمى) فاستحقت كل هذا الحب.

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي