خابيير مارياس.. المهذب الوقح

خابيير مارياس.. المهذب الوقح
خابيير مارياس.. المهذب الوقح

ودعنا خابيير مارياس برواية «توماس نيفنسون»، وهى تأمل شجاع حول الإرهاب والحرب القذرة التى تشنها الحكومات لمحو ويلاته

«لا تصدق الأشياء التى يقولونها عني، ربما كنت مغرورًا، لكنى أؤكد لك أننى لا أحتقر قرائى إطلاقًا، بل أنا ممتن كثيرًا لهم؛ ولا أتعامل مع أصدقائى بشكل سيئ بأى حال من الأحوال، بل بأقصى درجات الود الذى أستطيعه.

لا يمكننى التفاخر بأننى كنت صديقًا لـ خابير مارياس. تحدثت معه بالتليفون فى ثلاث مناسبات، وتبادلنا أربعة خطابات فى الفترة بين أكتوبر 2021 وحتى نهاية يناير 2022. كنت أراسله من خلال البريد الإلكترونى وتقوم مرسيدس، سكرتيرته وصديقته، بطباعة الرسائل له كى يقرأها. كان مارياس، بالأناقة التى تميزه، يرد عليّ بخطابات قصيرة بخط يده. ثم تصورها مرسيدس بالإسكانر وترسلها لى بصيغة PDF.
 كان بيننا موعد معلق لنتعارف شخصيًا، لكنه كان يقول دوما «عندما أستطيع». لم أكن أعرف إلى ما يشير، لكن خمنت أن الأمر لم يكن خطيرًا. بالأمس، عندما أبلغونى بوفاته عبر الهاتف، اكتشفت خطأى وتحققت مرة أخرى أن الموت يترك فراغًا لا رجعة فيه، خاصة عندما يتعلق الأمر بكتاب وفنانين زادوا من مساحة العالم بإبداعهم وأعمالهم التى تتداخل مع الواقع، لتزيد من سُمك الحياة.

 كان مارياس قد حدثنى عن اللقاء بالقرب من منزله فى بلاثا دى لا بيا، وأطلقت العنان لخيالى بشأن هذا اللقاء، ليس دون خوف حقيقيًا؛ لأننى خجول نوعًا ما، وهو ملمح يزداد فى حضور أشخاص يثيرون إعجابي. كان عزائى أن خابيير أيضا خجول قليلًا، أو على الأقل، هذا ما تصورته من محادثاتنا. ربما كان انطباعًا زائفًا، لكنى حاولت إقناع نفسى أن الأمر ليس كذلك. عادة ما يفهم الأشخاص الخجولون بعضهم البعض، يتفهمون دون مجهود الشعور بالمخاوف الخارجية ويتأملون بتساهل هذه العثرات التى يستهجنها الآخرون بنظرة مرعبة. 


الآن أعرف أن هذا اللقاء لن يتم، ويبدو لى هذا اليقين مؤلمًا كما لو كان طعنة غائرة. دائمًا ما اختبرت شعور الوصول متأخرًا وتحقق هذا الخوف مرة أخرى. لن أتناول فنجان قهوة مع مارياس، ولن نتجول معا فى شارع جران بيا. ولن أتمتع بفرصة سماعه وهو يسهب فى الحديث عن بينت، وفوكنر أو كونراد. لن أتمكن من الاستمتاع بتلك السخرية الإنجليزية الرقيقة التى تنثرها أحاديثه، والبعيدة تمامًا عن وقار الكتاب الآخرين الذين يتسمون بجدية زائدة عن الحد.


فى تعاملى القصير مع خابيير، ثمنت عدم كونه متعاليًا ولا متكبرًا، مثل البعض، بل كريمًا وودودًا. إذا توجب عليّ إبراز شيء ما، فسأشدد على اللطف. كان أحد فرسان عصر آخر ممن يهتمون بالجميع بنفس الاحترام، غير متأثرين بالشهرة أو المال. يذكرنى كثيرا بوالده، خوليان مارياس، وهو فيلسوف عظيم أساءت إسبانيا معاملته بشكل مخز، بأن بخلت عليه بالجائزة الوطنية للمقال ومنعته من ممارسة عمله كأستاذ جامعي.


معرفة أنهما عاشا سويًا، بعد وفاة دولوريس فرانكو، الكاتبة والمعلمة، والدة خابيير، أشعلت خيالى بذكرى تلك الروايات الإنجليزية التى يتشارك فيها صديقان منزلا، دون رفع الحواجز أو مشاركة الأسرار المخجلة. مثل شارلوك هولمز وواطسون، مع الفرق بأن هذه الحالة تتعلق بعقلين لهما نفس درجة التوهج. سيعترض أحدهم بأن ذلك تشبيها قسريا. لا أعتقد. أليس خابيير مهندس «لروايات ميتافيزيقية مثيرة»، كما أشارت الناقدة الإنجليزية؟ أليس صحيحًا أن خوليان كان مستكشفا لألغاز عظيمة، مثل الموت الذى يبدو نهاية كل شيء، ولكنه فسره كعبور نحو حالة من الوفرة؟


كانت رواية « كل الأرواح» أول عمل أدخلنى لعالم خابيير مارياس. انتبهت على الفور لأثر خوان بينت، وجوزيف كونراد. كان نثره مراوغاً، وتأمليًا، وتحليليًا. لم يكن الجمال هدفه، بل اكتشاف تلك المناطق التى يعانى فيها الإنسان التأثر ويكتشف شيئًا عن نفسه لم يكن يتوقعه. كان يغوص فى مخاطر عظيمة، ناثرًا أفكاره عن الحياة، والحب، والجنس فى الرواية.


لم يكن كاتبًا غير مرئي، يهدف أن ينسى القارئ أن هناك راويًا، بل كاتب يبرز صوته فى وسط الحكاية. فى رواية «كل الأرواح»  قدر من الأوتوفيكشن، لكنه أكبر بكثير من هذا. الرواية عبارة عن فن يدعى الموضوعية، لكنها تولد فى الواقع من ذاتية ساخطة.

وفى حالة مارياس، تلك الذاتية ليست مزعجة. وهى عبارة عن ذكاء لا يتوارى، ربما لأنه حاد أكثر من اللازم كى يمر دون أن ينتبه إليه أحد. زادت روايات « قلب ناصع البياض»، التى خصصت لها مقالا فى هذه المجلة، و»غدا بالمعركة فكر في» ببدايتهما ونهايتهما شديدتا الإثارة، من تقديرى لكتاباته. ربما كانت هاتان الروايتان أفضل روايات الأدب الإسبانى طيلة الخمسين عاما الماضية.


أخبرنى خابيير مارياس بأن روايته الأكثر طموحًا ليست إحدى الروايتين، بل «وجهك غدا» المستوحاة من التجربة الأليمة لوالده، نتيجة لوشاية من صديق للسلطات الفرانكوية، والتى سجنته باتهام باطل مفاد أنه جاسوس لموسكو. ليست رواية تبحث عن إسعاد القارئ، بل نص صعب، يختلط فيه مرة أخرى الذاتى بالمتخيل، طارحا معضلة أخلاقية: هل يجب أن نعرف كل شيء عن من نحبهم؟ أحيانًا يكون من الأفضل عدم المعرفة، لكن الإنسان يرغب فى معرفة كل شيء، بما فى ذلك ما يؤذيه. لا يدرك أنه لا رجوع فى هذه الرغبة. لا يمكن أن تعود الأسرار أسرارًا بعد سبر أغوارها.


ودعنا خابيير مارياس برواية «توماس نيفنسون»، وهى تأمل شجاع حول الإرهاب والحرب القذرة التى تشنها الحكومات لمحو ويلاته. تضمنت الرواية بضع صفحات مؤثرة عن اعتداء إيبركور (قامت به منظمة إيتا).

 

وبدلًا من الحث على النسيان، حفزت الرواية على تكريم الضحايا بتخليد ذكراهم. ظهرت الرواية مصحوبة بصورة الاعتداء على مقر الحرس المدنى فى منطقة فيك، يظهر فيها أحد أفراد الحرس المدنى حاملًا بين ذراعيه طفلة جريحة. بهذا سبق مارياس الكاتب الألمانى وينفرد جورج سيبالد بفكرة تضمين صور لتوضيح النصوص، ربما لاعتقاده بأن التمييز بين الأنواع ليس سوى حيلة قليلة الاتساق.


بدأت علاقتى بخابيير مارياس بعد أن نشرت فى منصة زيندا قصة بعنوان «اليوم الذى لم أعرف فيه خابيير مارياس» بقليل. وبها، كنت أصف نفسى كمعجب شغوف بالتعرف عليه، ومن أجل هذا كنت أتجول فى شارعه، بحثًا عن فرصة الاقتراب منه أو حتى التسلل إلى بيته. كانت ملهمتى فى ذلك الروائية الأمريكية كارسون ماكولرز فى ملاحقتها الفاشلة بالكاتبة جونا بارنز. حالفنى الحظ. لم أتوقع أن يقرأ مارياس القصة، لأن زيندا منصة رقمية، وكنت أعلم أنه لا يستخدم الكمبيوتر، لكن أوصلها له شخص ما وأرسل لى خطاب شكر، موضحًا لى الكثير من الأشياء. لم يكن يستخدم آلة كاتبة من ماركة أوليفتي، كما حدست، بل أخرى من ماركة أوليمبيا كارييرا دى لوكس.


كان يرى مقارنته بـ جونا بارنز أمرًا مبالغًا، وهنأنى على ذكر رواية «صحراء التتار»، للإيطالى دينو بوتزاتي، وهى رواية تعجبه أيضًا. فى النهاية طلب منى ألا أصدق الشائعات التى تقال عنه: «لا تصدق الأشياء التى يقولونها عني، ربما كنت مغرورًا، لكنى أؤكد لك أننى لا أحتقر قرائى إطلاقًا، بل أنا ممتن كثيرًا لهم؛ ولا أتعامل مع أصدقائى بشكل سيئ بأى حال من الأحوال، بل بأقصى درجات الود الذى أستطيعه؛ وأنى لست كارها للنساء على الإطلاق، بل على العكس تمامًا». ودعنى وطلب رقم هاتفى للاتصال بى لاحقًا، حيث كان خارج إسبانيا فى ذلك الوقت.


 لم أتخيل أبدا أنه سيفى بوعده، لكن ثيسر، وهو صديق وفى يعمل محررًا وكان قد تصادف معه فى أكثر من مناسبة، أكّد لى أنه سيفعل، لأنه شخص لطيف وصادق الوعد. فى إحدى أمسيات شهر نوفمبر عندما يبدأ الشفق فى الظهور مبكرا، رن جرس الهاتف ورفعت السماعة. ميزت صوته فى التو. تحدثنا لمدة نصف ساعة. أخبرنى أنه استمتع كثيرا بقصتى وتبادلنا الانطباعات عن والده وخوان بيبت والغباء المستحكم الذى يغلف العالم.


 لم يبد كاتبًا مغرورًا، بل شخصًا قريبًا وودودًا، غير قادر على قول شيء جارح أو بغيض.  حكى لى أنه قد وجد نسخة من فيلم تان تان ولغز الصوف الذهبى واشتراها معتقدًا أنها سوف تعجبني. ليست ألبومًا آخر للمراسل ذى الشعر الأحمر، بل مجموعة لقطات مختارة من الفيلم الذى تم إنتاجه فى عام 1961، بممثلين يجسدون شخصيات هيرجيه. عبارة عن قطعة نادرة ذات قيمة عظيمة. شكرته كثيرًا، وطلبت منه أن يكتب شيئًا على الألبوم. أجابنى بأنه يجد حرجًا فى كتابة شيء على عمل لم يكتبه هو، لكنى أصررت، واستجاب. الآن، النسخة بين يدى وتصيبنى قراءة الإهداء بحزن بالغ: «إهداء من خابيير مارياس إلى رافاييل ناربونا، الذى لم يعرفنى حتى الآن».


عند إعادة قراءة هذه السطور، تحضر لذهنى أبيات ميجيل إرنانديث:  
لا أغفر الموت فى الحب/ لا أغفر الإهمال فى الحياة/ لا أغفر للأرض ولا لأى شيء.
هناك شيء مأساوى بشكل كبير فى صداقة ناشئة لم تتوثق عراها لأن الموت ضربها بجناحيه ضربة «مميتة وغير مرئية». أهدانى مارياس أيضا نسخة من مجموعته «آثار الأقدام المتناثرة». بخطه الأنيق، ولكنه غير مصقول بشكل كبير، كتب لى هذه الكلمات:»إهداء لرفاييل ناربونا، الذى سيعرف الكثير من خلال هذه القطع، لكن ربما لا يعرف بعضها الآخر. مع تحيات خابيير مارياس».


بعد فترة قصيرة اتصلت به وطلبت منه مقابلة لجريدة الكولتورال. ورغم أنه كان قد صرح من قبل أنه لن يقوم بمقابلات أخرى، إلا أنه وافق لأن «لأنه يتعلق بأمر خاص». سجلت المقابلة، رغم أنها استمرت ساعة ونصف، ثم أرسلتها للجريدة. بعد أن نُشرت، أرسل لى تعليقات طبيبه، وأحد أقاربه، وصديق فى رسالة نصية، يثنون جميعا على المقابلة.


فى اليوم التالي، اتصل بى هاتفيا، أخبرته فى التو أن ألبوم صور تان تان الذى أهدانيه: «قد أيقظ فيّ الشغف بجمع التحف وصرت لا أستطيع التوقف. أنفق أموالا طائلة فى هذا الشأن. سأخبر الجميع أن خابيير مارياس هو السبب». ضحكنا واتفقنا مجددا على اللقاء، لكن كان الجو شديد البرودة وطلب منى الانتظار قليلا. «عندما أشعر بتحسن»، كررها. أثار تعليقه دهشتى مرة أخرى، لكن ظننت أنه يشير لأمر غير ذى بال. كنت قد قرأت أنه يعانى مثلى من الأرق وخمنت أن ذلك التعب ربما يؤثر على صحته.


تبادلنا بعض الرسائل، فى الشهور التالية. أسعدنى أن يرسل لى ثلاثة خطابات بخط يده، واعترف فى إحداها بأنه قد راقته مقارنتى له بوالدو لا يدكر وماكس دى وينتر، لكنه فى الحقيقة كان يشبه البروفسير هنرى هيجينز، أكثر، شخصية برنارد شو الذى قام بأدائها ريكس هاريسون فى سيدتى الجميلة. كان يختلف معى فى تقديرى لتوماس برنارد، الذى لم يكن يراه سيئًا، بل لطيفًا وخجولًا، وهما صفتان تميزان شخصية مارياس جيدا. 


 أخبرنى أنه ابتهج بظهوره فى كتاب «درس الأناقة»، رفقة مع آخرين: كارى جرانت، بريان فيري، بلمونت، والأمير تشارلز، ومارسيل بروست. «لا يمكن أن أتمنى أكثر من هذا». كان يودعنى بتأمل لطيف حول السير الذاتية: «أتمنى ألا يكتب أحد سيرتي». فى خطاب آخر، أخبرنى أنه يراسل أرملة ريكس هاريسون، واعترف بأنه لم يرغب قط فى أن يكون له تلاميذ. 


بحلول الربيع، توقفت المراسلات. لن أستطيع إيضاح الأسباب. لم أشأ فى الإلحاح، لأننى أكره أن أكون ثقيلًا وكنت أظن أن مارياس يحارب فى أكثر من جبهة. كان وقته محدودا ولم أرغب فى استغلاله. كنت أشعر بأننى محظوظ بالتواصل الذى حصلت عليه معه، لكنى لم أفقد الأمل فى التعرف عليه شخصيًا. لم أتوقع أن يطيح الموت بشكل قاطع بهذا الأمل. 


أين خابيير مارياس الآن؟ فقط الشخص الأبله هو من يتصور أنه تحول لتراب. كتبه لا زالت هنا، حية. تجذب ملايين القراء. وستظل كذلك لمدة مائة عام، مثلما هو الحال مع روايات كونراد، وستيفنسون أو هنرى جيمس. 


كان مارياس يتصور أن النسيان سيطويه، لكنه كان مخطئا. يتضاءل حضوره، لكن لا أظن أنه اختفى. ليس صعبًا عليّ تخيله فى المملكة المستديرة، حاملًا الصولجان بتلك الوقاحة التى اعتاد تشبيه نفسه بها ويمارس دور الغول الذى لم يكنه.


أتمنى أن يغفر لى اعتباره صديقًا. فى الواقع، يقيم كل القراء علاقة صداقة مع كتابهم المفضلين. أهدانى فرناندو ساباتير كتابه «الطفولة المستعادة» منذ فترة بسيطة بكلمات هزت مشاعري: «إلى رافاييل ناربونا، من قارئه، وبالتالى صديقه». كان خابيير مارياس يتشكك فيما بعد الموت. على عكس والده، دون خوليان، الذى كان يقول «إن البعث عملية مستحيلة، ولهذا السبب تحديدا فهى ضرورية. إذن ما هى ماهية هذا البعث الإفتراضي؟ تكمن فى استمرار المسارات المتقطعة».


هذا يعنى أن خابيير مارياس لا يزال يكتب مستخدمًا ماكينة أولمبيا كارييرا دى لوكس، ممسكًا بإحدى تلك السجائر الشرقية ــــربما تركية؟ـــــ التى كانت تعجبه، متدلية من بين شفتيه ومحاطا بأكوام من الكتب، منتظرا مكانه بين الأرفف. هكذا، علينا أن ننتظر الاجتماع به مرة أخرى لقراءة رواياته القادمة. أفضل هذا الاعتقاد على قبول فداحة الموت.

 

اقرأ ايضا | ٧ أسباب وراء عدم كتابة رواية وسبب واحد لكتابتها