٧ أسباب وراء عدم كتابة رواية وسبب واحد لكتابتها

٧ أسباب لعدم كتابة رواية وسبب واحد لكتابتها
٧ أسباب لعدم كتابة رواية وسبب واحد لكتابتها

عن عمر يناهز الـ 71 عامًا، رحل الروائى الإسبانى الشهير خابيير مارياس يوم 11 سبتمبر الجاري. يعتبر مارياس أحد أهم الروائيين الإسبان فى الخمسين سنة الأخيرة، والمرشح لعدة سنوات لجائزة نوبل. من أهم أعماله "قلب ناصع البياض" "غرامياته" "غدًا فى المعركة فكّر  فى".


الرواية لا تؤدى إلى الشهرة، ولو منحتها فهى شهرة صغيرة ويمكن الحصول عليها بطرق أسرع وأقل جهدًا

يخطر ببالى سبعة أسباب لعدم كتابة رواية وسبب واحد لكتابتها اليوم:
1-  ثمة روايات كثيرة وأناس كثيرون جدًا يكتبونها. روايات لا تزال موجودة ومطلوب أن تظل مقروءة، ليس هذا فحسب، وإنما يضاف إليها كل عام آلاف أخرى، جديدة كليةً، تظهر فى كتالوجات دور النشر وفى كل مكتبات العالم. ليس ذلك فحسب، وإنما آلاف أخرى أكثر منها ترفضها دور النشر ولا تصل إلى المكتبات، لكنها مع ذلك موجودة أيضًا. إنها بالتالى نشاط سوقي، فى متناول يد أى شخص تعلّم الكتابة فى المدرسة، ولا يُطلب منه أى نوع من الدراسات العليا ولا أى تكوين خاص.


 2- لا تتمتع كتابة الروايات بأى استحقاق. دليل ذلك أنها عبارة عن نوع أدبى يمارسه أى فرد، بالصدفة وغيرها، أيًا كانت مهنته، وبالتالى لابد أنها سهلة وبلا أسرار. بهذه الطريقة فحسب يمكن تفسير لماذا يكتبها الشعراء والفلاسفة وكتاب المسرح؛ علماء الاجتماع واللغويون وموظفو البنوك، الناشرون والصحفيون؛ الساسة والمطربون ومذيعات التلفزيون ومدربو كرة القدم؛ المهندسون ومدرسو المدارس، الدبلوماسيون (بالمئات).

والموظفون الحكوميون وممثلو السينما؛ النقاد والأرستقراطيون والقساوسة وربات المنازل؛ الأطباء النفسيون وأساتذة الجامعة والمعاهد، العسكريون والإرهابيون ورعاة الغنم. ذلك يجعلنا نفكر، لو تركنا سهولتها جانبًا وغياب استحقاقها، فالرواية لابد أنها تعطى شيئًا، أو تشيد ديكورًا، لكن: أى نوع من الديكور هذا الذى فى متناول كل الوظائف، بغض النظر عن التكوين السابق: المكانة الاجتماعية والسلطة المكتسبة؟ ما الذى تعطيه؟


 3- الرواية لا تكافئ ماليًا، أو بمعنى أصح فرواية واحدة من بين كل مئة رواية منشورة –وهو إحصاء عشوائى متفائل- يربح منها مؤلفها. وفى أفضل الأحوال هى مبالغ لا تغير حياة أحد، بمعنى أنها لا تنفع للتفرغ. بالإضافة، فرواية بحجم متوسط وفى الحد الأدنى للمقروئية تستغرق شهورًا وأحيانًا سنوات من العمل.

واستثمار هذا الوقت فى عمل احتماليات أن يكون مربحًا لا تتجاوز الـ 1% محض حماقة، خاصة لو وضعنا فى الاعتبار أن لا أحد –ولا حتى الأرستقراطيون أو ربات المنزل- يتمتعون اليوم بهذا الوقت. (الماركيز دو ساد وجان أوستن لهم اليوم أنداد لا يتمتعون بالوقت، والأسوأ من ذلك أن لا الأرستقراطيون ولا ربات المنزل الذين لا يكتبون، لكنهم يقرأون، لديهم الوقت لقراءة ما يكتبه رفاقهم من الكتاب).


 4- الرواية لا تؤدى إلى الشهرة، ولو منحتها فهى شهرة صغيرة ويمكن الحصول عليها بطرق أسرع وأقل جهدًا. الشهرة الحقيقية، كما يعرف الجميع، تأتى اليوم من التلفزيون، ومع الوقت تقل فرص ظهور الروائيين فيه، إلا إذا ظهر لا لأنه أثار الاهتمام برواياته، وإنما على أرضية أنه أراجوز أو مهرج، بجانب مهرجين آخرين من مجالات أخرى، سواء فنية أو لا.

وهو لا يبالى بذلك. روايات هذا الروائى المشهور بالفعل –وهى حدث تلفزيوني- ستكون ذريعة مبدئية ثقيلة وسريعًا ما تُنسى شعبيته، ولن يحفظها إلا الاعتماد على قدرته على الإمساك بالعكاز ولف الإسكرف على الرقبة وضبط الباروكة، والقمصان الهاواوية اللامعة أو الصديرى الضيق، ثم الحكى عن كيف يتواصل مع ربه الخاص وعذرائه الأرثوذكسية أو كيف يعيش فى سعادة حقيقية بين المسلمين (على الأقل فى إسبانيا) وعن جودة أعماله المستقبلية التى لم يعد أحد يهتم بها.

ومن جانب آخر، من السخافة الاجتهاد فى كتابة روايات للفوز بالشهرة (حتى لو كانت الكتابة على الماشي، فلابد تستغرق وقتًا) عندما لا تكون ثمة حاجة ضرورية وملموسة لتحقيقها: فالزواج والارتباط بالشخص المناسب ومسارات الحياة الزوجية وخارج إطار الزواج أكثر فعالية. من السهل أيضًا ارتكاب حماقات أخرى أو همجيات ما لم يؤد ذلك إلى السجن لوقت طويل.


 5- الرواية لا تمنح الأبدية، من بين أسباب أخرى لأن الأبدية نادرًا ما توجد. ولأنها لا توجد، ولا حتى فى الأجيال الأولى التالية، والمقصود أبدية الفرد: فكل شخص يطويه النسيان بعد شهرين من موته.

والروائى الذى يظن عكس ذلك إما أنه مغرور على الطريقة القديمة أو ساذج على الطريقة القديمة. وإذا كان مصير أى عمل مجرد موسم، ليس لأن القراء والنقاد ينسونه فحسب، وإنما لأنه لا يظهر فى المكتبات بعد أشهر قليلة من ميلاده (وربما لن توجد مكتبات أصلًا) فمن الوهم أن نفكر أن واحدة من رواياتنا ستكون خالدة. كيف ستكون خالدة إذا كانت أغلب الأعمال تولد فانية أو بأمل أن تحيا حياة حشرة؟ أما بقاؤها فلا يمكن أن نحكى عنه.


 6- كتابة الروايات لا تشبع الغرور، ولا حتى بشكل وقتي. وعلى عكس مخرج السينما أو الرسام أو الموسيقي، فالروائى لا يمكنه حصاد ردود أفعال المشاهدين أمام أعماله ولا حتى سماع تصفيقات، إنه لا يرى قراءه وهم يقرأون كتابه ولا يشاهد قبولهم ولا انفعالهم ولا رضاهم. ولو كان محظوظًا وباعت أعماله نسخًا كثيرة، ربما سيشعر بالسلوى بعدد مجرد وغير معروف مثل كل الأعداد مهما كانت.

وعليه أن يعرف أنه يقاسم هذا العدد والسلوى مع المؤلفين التاليين: الشيفات الذين ينشرون وصفاتهم، كُتّاب السيرة الذين يفضحون شخصيات ملكية برؤوس عصافير، عرّافو المستقبل بسلاسلهم وعقودهم وجلبابهم، وبنات ممثلات ملعونات.

وكُتّاب أعمدة فاشيون يرون الفاشية فى كل شيء إلا فى أنفسهم، وجهلة جلفاء يعطون دروسًا فى الإتيكيت، وأقلام أخرى هكذا بارزة. أما المديح المحتمل من النقد، فمن الصعب جدًا أن يتلقاه الروائي: وإن تلقاه، فمن الممكن جدًا أن يعطوه له وهم يغفرون أخطاءه ويهددونه للمرة المقبلة.

وإن لم يكن هكذا، فمن المحتمل أن يحكم هو أن كتبه أعجبتهم للأسباب الخاطئة؛ وإن لم يحدث شيء من ذلك وكان المدح مفتوحًا على الكرم والذكاء، فأغلب الظن أن أربعة أفراد فحسب من يعرفون عنه. هكذا حين تتاح كل الظروف الملائمة، سيكون نقدًا بائسًا ومحبطًا.


7- أجمع هنا كل الأسباب الراسخة والمملة، مثل العزلة التى يعمل فيها الروائي، ومعاناته الكثيرة وهو يصارع الكلمات وخاصة تراكيب الجمل، والضيق أمام الصفحة البيضاء، واستهلاك روحه التى يركلها الأطفال والمناظر والجغرافيات وأصوات البكاء، وعلاقته الهزيلة مع حقائق مثل القبضات التى تختاره وتختاره هو فقط ليظهرها، ونبضه العالى للسيطرة، وعلاقته الغامضة مع الواقع والتى قد تصل للخلط بين الحقيقة والكذب.

وصراعه الأسطورى مع شخصياته ذاتها وقد اكتسبت حياتها الخاصة بل وهربت منه (ضرورى أن يكون ثابط الهمة)، والشرب الكثير، وحياته الغريبة التى يعيشها كفنان، وتفاهات أخرى أغرت الأرواح الطيبة أو قليلة الذكاء لزمن طويل، وجعلتهم يعتقدون أن ثمة عاطفة كثيرة وعذاب كبير ورومانسية فائضة فى فن متواضع وممتع هو فن اختراع الحكايات وحكيها.


كل ذلك يفضى بى إلى سبب وحيد أراه لكتابة الروايات، سبب ضئيل جدًا مقارنة بالأسباب السبعة التى ذكرتها، ولابد أنه يتعارض مع أحدها:
السبب الأول والأخير: كتابة الروايات تسمح للروائى بأن يسكن لوقت كبير فى الخيال، وهو المكان الوحيد المحتمل، أو أكثرها احتمالًا. هذا يعنى أنه يسكن فى مملكة ما يمكن أن يكون ولم يكن قط، فى أرض لا تزال ممكنة، ومكان لم يكتمل بعد، وفى أفق لم يُلغَ لأنه وقع بالفعل ولا أحد يعرف أنه لن يقع فى المستقبل. الروائى الواقعى أو من يسمونه هكذا.

وهذا الذى حين يكتب يقيم فى أرض ما هو كائن ويحدث، يلتبس عليه عمله كروائى مع نشاط المؤرخ أو الصحفى أو كاتب الوثائقيات. الروائى الحقيقى لا يعكس الواقع، وإنما اللاواقع، ولا أعنى باللاواقع الشيء المستحيل أو الفانتازي.

وإنما ببساطة ما يمكن أن يحدث لكنه لم يحدث، المناقض للأحداث والوقائع والتواريخ والأفعال، المناقض لـ «ما يحدث». ما هو ممكن يبقى ممكنًا، فى أى زمن وأى مكان، لذلك يمكن قراءة دون كيخوتيه اليوم، وكذلك مدام بوفاري، يمكن أن يعيش معها المرء لفترة وهو يصدق أحداثها، هذا ما أقصده، ألا نجد استحالة فى وقوع الحدث ولا نعتبرها أحداثًا وقعت بالفعل.

وألا نكون على دراية مسبقة بالأحداث. إسبانيا عام 1600، هكذا يسمونها، لم توجد، رغم أننا صدقنا وجودها؛ كما لم توجد فرنسا 1900 التى قرر بروست أن يضمّنها فى أعماله الخيالية، فصارت هى فرنسا التى نعرفها. قلت من قبل إن الخيال هو الأرض الأكثر احتمالًا.

وهو كذلك لأنه يمنح المتعة والسلوى لمن اعتادوه، لكن لسبب آخر كذلك: لأن خيال الحاضر هو المستقبل الممكن للواقع. ورغم أنه لا علاقة له بالخلود الشخصي، إلا أن لدى كل روائى احتمالية قليلة جدًا لكنها احتمالية- بأن ما يكتبه تجليًا وأنه مستقبل لن يراه أبدًا.
 

اقرأ ايضا | «الرواية التاريخية».. لقاءات أدبية في «أبوتيج وأبنوب» بأسيوط