د. محمد سيد عبد التواب يكتب: فجر الرواية العربية وسؤال الهوية

فجر الرواية العربية وسؤال الهوية
فجر الرواية العربية وسؤال الهوية

يمارس محمد عبده بوصفه ممثلاً للثقافة التقليدية الرسمية دوراً إصلاحياً، فنراه يصنف تلك الكتب طبقاً لمنظوره كمصلح ديني، يوجهه المغزى الأخلاقى والقيمى للكتب، إن فاروق خورشيد ينطلق من فكرة أساسية ترى فى المدونات والمرويات السردية القديمة الأصل والنموذج الأمثل للرواية فـ «خورشيد» يتعامل مع كتب الأخبار والحكايات الخرافية والسير الشعبية باعتبارها الأساس الذى قامت عليه الرواية العربية الحديثة. 
شهد القرن التاسع عشر تحولات ثقافية كبيرة، حيث طبعت فيه المقامات والسير الشعبية والحكايات الخرافية، وقصص الأمثال وقصص الحيوان وكتب الأخبار والرحلات.

يضعنا الخورى وجها لوجه مع إشكالية الرواية وقضيتها المحورية وربما مع إشكاليتنا نحن وهم (الغرب)، وأول رواية عربية يمكن أن نبدأ بها تاريخ الرواية العربية بلا منازع هى رواية «وى إذن لست بإفرنجى» لخليل أفندى الخورى سنة 1858.

لا تتمثل أهمية طرح سؤال بواكير الرواية العربية فى كونها مجرد موضوع لتاريخ الأدب، وإنما تمتد هذه الأهمية لتصبح دراسة ما هو حى ومعاصر سواء فى الإبداع، أو فى النقد وهى فى الوقت نفسه تبحث عن هوية روائية عربية تمثلنا، وتعيد إلى الأذهان سؤال النهضة العربية الذى حتى هذه اللحظة لم يحسم بعد رغم الجدل الذى لم يتوقف يوما وكل المحاولات الجادة التى تناولت الموضوع، فالمؤثر الغربي، دائما، يحضر بقوة كلما جرى البحث عن نشأة الثقافة العربية والأدبية منها على وجه الخصوص، إلى درجة صار معها ذلك أمرا مسلما به فى معظم الدراسات التى تناولت تلك الفترة، فهناك الرأى الشائع الذى يرى أن الرواية هى نوع أدبى وفد إلينا من الغرب بعد الاتصال المباشر به فى عصر النهضة، وأنها دخيلة على الأدب العربى من ناحية الأصل والأسلوب والبناء والنوع، وأن المعايير المشتقة من الرواية الغربية هى التى شاعت ووظفت فيها؛ وعليه فقد ذهب كثير من الباحثين إلى أن تاريخ الرواية العربية بدأ برواية زينب لمحمد حسين هيكل عام 1913، باعتبارها أول رواية عربية تحقق العناصر الفنية للرواية العربية، وهم فى ذلك يصدرون عن مرجعية فكرية خضعت منذ وقت مبكر للموجهات الغربية فكانوا يرون الرواية العربية من خلال المقاييس الغربية وحدها، ومن خلال نماذج محددة بالذات، وقد حازت هذه الرواية على أهمية خاصة فى تاريخ الرواية العربية وكأن الساحة قد خلت من غيرها من الروايات. فيعتبرها جيب أول رواية فعلية تكتب بالعربية أو أنها ذات جدارة أدبية أو بتعبير عبد المحسن طه بدر «أول رواية فنية» وهو ما أشار إليه محمود تيمور حيث يقول: «زينب هى أول ثمرة توافرت لها عناصر القصة الفنية.

وقد أخذ بهذه الفكرة أيضاً يحيى حقي، وذهب إلى أنها أول القصص فى أدبنا الحديث، ويضيف أنها ولدت على هيئة ناضجة، فأثبتت لنفسها أولا حقها فى الوجود والبقاء، واستحقت ثانياً شرف مكانة الأم فى المدد منها والانتساب إليها. 

من الواضح فى كل الآراء السابقة أنها تدور فى أفق محدد، يفترض تقسيماً تاريخياً بين مرحلتين من مراحل الرواية العربية؛ مرحلة توصف بأنها غير فنية، ومرحلة أخرى توصف بأنها «فنية» وحديثة، وهى مرحلة «زينب».

وواضح هنا أن هذا التقسيم قائم على تقسيم تاريخى ومرحلى وليس بناءً على السمات الفنية المميزة لهذه الروايات، حيث همشت دائماً الروايات التى وظفت السرد العربى القديم والأدب الشعبي، وأبعدت عن الساحة الأدبية وظلت خارج اهتمام النقد والتلقي. وأتصور أن هذه الروايات من الكثرة والتنوع الفنى لدرجة أننا لا يمكن أن نتجاهلها بأى حال من الأحوال.

من هنا يحاول هذا العرض  إعادة النظر فى تلك الآراء ووضعها موضع التساؤل، عبر رؤية خاصة تعتمد بالأساس على النصوص الروائية الأولى التى همشت وأسقطت من تاريخ دراسة الرواية العربية، ومن منظور ينبنى على مفهوم مختلف مستمد من الدراسات الحديثة التى قدمت مفاهيم جديدة حول نشأة النوع الروائي. وعلى ذلك يمكننا الإشارة إلى محاولات شديدة الأهمية من الناحيتين الفنية والتاريخية.


الرواية والقراء 
كانت الرواية العربية فى القرن التاسع عشر ظاهرة أدبية خلافية فيما تقبلها الرأى العام الذى يمثله عامة القراء؛ لأنها حلت فى ذاكرته محل المرويات السردية، وقامت بوظيفة أساسية من وظائفها، وهى تلبية حاجات التلقي، لذلك أقبل عليها القراء بشكل غير مسبوق أو متبوع لدرجة أن إحدى الروايات قد طبعت عشرة آلاف نسخة- رواية أسرار وصفية مصرية- تأليف زينب محمد.

وعندما ذهبت الكاتبة للناشر للحصول على بعض النسخ فوجئت بنفاد الطبعة كاملة، وقد أشارت إلى ذلك فى مقدمة الرواية فى طبعتها الثانية. «وكانت الطبعة الأولى عشرة آلاف نسخة. وكم كان إعجابى شديدا حينما ذهبت بعد ثلاثة أيام أطلب منه مائة نسخة، فضحك ضحكة السرور، وقال لم يكن عندى غير بضع نسخ  لا تتحمل مع طلبات السوق خمس دقائق».

 وهناك إشارات كثيرة جدا عن فكرة التلقى للرواية وكيف مثلت ظاهرة خاصة تحتاج إلى دراسات معمقة حول جمهور الرواية. وعلى الجانب الآخر تماما وقفت ضدها الأوساط المشبعة بالثقافة التقليدية الرسمية ومنها الثقافة الدينية التى عرفت بموقف واضح تجاه الآداب التخيلية – بشكل عام والقص بوجه خاص- منذ فترة طويلة وتشير ألفت الروبى فى دراستها المهمة (الموقف من القص فى تراثنا النقدي).

إلى تجذر هذا الموقف فى التراث والذى بدأ منذ فترة مبكرة إذ يروى عن على بن أبى طالب أنه طرد القصاص من الكوفة، وهناك من الروايات عنه ما يشير إلى موقفه من قصاص العامة الذين يقصون على الطريق، فهم مدانون إلى أن تثبت صلاحيتهم للقص وهذه الصلاحية يحددها بشخصه هو كإمام للمسلمين، وذلك من خلال اختبار أى من القصاص الذين عرض لهم معرفياً وتحديد مدى التزامه بالمعرفة الدينية الشرعية.


 وهذا الموقف الرسمى المتمثل فى السلطة الدينية ارتكزت عليه نظرات النقاد والفقهاء والعلماء وأصحاب السلطة والسياسة وأحيطت عملية القص الشفاهى من قصاص وقصص ومتلقين بالاستهجان، كما وسمت بالتدني، وانسحبت هذه النظرة على القصص المكتوب، حيث اتهم بالثبات والجمود كشكل، ووسم بالتدنى الأخلاقى من جهة الموضوع، كما استهجن متلقوه أيضاً وأصبحت النظرة الكلية للقص نظرة متعالية عليه. 


 وجدير بالذكر أن هذا الموقف المتأصل فى الثقافة العربية القديمة كان له تأثيره الواضح لدى المبدعين أنفسهم الذين عبروا عن هذا الانتقاص من القص، بالدفاع عن القص وتقديم الاعتذار مشفوعاً بذكر الفوائد الأخلاقية والعملية لإنتاجهم القصصي. 

 من هنا يمكننا أن نفهم الموقف الثقافى الرسمى فى القرن التاسع عشر، والذى لم يختلف عن الموقف المتأصل فى تراثنا القديم فعندما قدم محمد عبده (1849- 1905) فى جريدة الوقائع المصرية سنة 1881م صورة شاملة للكتب التى تتداول فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، «حذر بقوة من الأثر الفادح لكتب الأكاذيب الصرفة.

«وهى ما يذكر فيها تاريخ أقوام على غير الواقع وتارة تكون بعبارة سخيفة مخلة بقوانين اللغة، ومن هذا القبيل كتب أبو زيد وعنتر عبس وإبراهيم بن حسن والظاهر بيبرس، والمشتغلون بهذا القسم أكثر من الكثير، وقد طبعت كتبه عندنا مئات مرات، ونفق سوقها، ولم يكن بين الطبعة والثانية إلا زمن قليل.». 


 يمارس محمد عبده بوصفه ممثلاً للثقافة التقليدية الرسمية دوراً إصلاحياً، فنراه يصنف تلك الكتب طبقاً لمنظوره كمصلح ديني، يوجهه المغزى الأخلاقى والقيمى للكتب وعندما يطرح محمد عبده البدائل للمتلقين الذين تعلقوا بهذه الكتب يختار كتب التاريخ الصحيحة على حد قوله، يقول «فمن كانت رغبته متجهة إلى كتب أبو زيد وما معها من الكتب لعنتر عبس وغيرها أن يستبدلها بكتب التاريخ الصحيحة، كتاريخ المسعودى وتاريخ الكامل لابن الأثير. 

 وهذا الموقف يشبه إلى حد كبير موقف ابن الأثير إزاء القصص بوصفه تاريخاً، فقد أدى شيوع نوع معين من القصص وهو القصص البطولى الذى ظهر، ودون أواخر العصر العباسى الثاني، وكان يدور حول أبطال محددين من أبطال العرب أو وصف بعض أيام العرب ووقائعهم المشهور.

وقد اختلطت الحقيقة بالخيال فى هذا النوع القصصي، الأمر الذى أدى إلى القول إنه كان للتسلية فقط، (…) فاستناد هذا القصص إلى بعض الوقائع التاريخية المشهورة أو قيامه حول بطل من الأبطال المعروفين والتباس الحقيقة فيه بالخيال، كل هذا أدى إلى التحفظ الشديد من المؤرخين والحرص على التمييز بين التاريخ والقصص، حتى لا يظن أنهما شيء واحد .

وعلى ذلك فقد أثنى محمد عبده على قرار الحكومة المصرية بمنع نشر كتب الفروسية العربية وفى مقدمتها السير الشعبية التى صورت تخيلياً بطولات الفرسان كعنترة بن شداد، وأبى زيد الهلالي، وسيف بن ذى يزن، وغيرهم.

 والجدير بالذكر أن موقف محمد عبده السابق ظل يتنامى على الرغم من شيوع وانتشار هذا النمط من القصص، فقد أشار أحمد فتحى زغلول فى مقدمته لترجمة كتاب «سر تقدم الإنكليز السكسونيين» لـ «ريمون ديمولان» إلى ابتعاد القراء عن الكتب الجادة بسبب التخلف الذى أمات حب الاستطلاع وهذا هو السبب فى الإقبال على مطالعة القصص والخرافات والتهافت على اقتناء التافه من المؤلفات، والتسابق على حفظ كتب المجون والروايات. 

 ولعل قيام محمد عمر بإعداد كتاب كامل يبحث فيه «حاضر المصريين أو سرّ تأخرهم» – الذى أراد بكتابه محاكاة تحريضية لكتاب «سر تقدم الإنكليز السكسونيين، السابق – أن يكون شديد الدلالة على موقف أنصار الثقافة الرسمية. فقد رسم فى كتابه الذى صدر فى عام 1902م صورة قاتمة للكتب الشائعة فى نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين فى مصر، فقد ذهب إلى أن أصحاب المطابع قد تعلقوا بطبع «الضار والمفسد من الكتب» وعلى هذا فقد «أكثروا من طبع القصص والحكايات الغرامية والفكاهية (…) وكتب النوادر والمجون المفسدة للأخلاق والطباع والخيال» .


 ولذلك فالنتيجة التى يخلص إليها هى نفسها التى خلص إليها قبله محمد عبده، يقول: حق على العاقل المطالبة بإبادة هذه الكتب لما تحتويه من الغش والخداع خدمة للفضائل والآداب الإنسانية، وحق للحكومة أن تعاقب أصحابها وطابعيها. 

 إن وجهة النظر هذه، تكاد تكون رأى الأكثرية من المثقفين طوال تلك الفترة، على أن الأمر يزداد التباساً إذ تعلق بالروائيين أنفسهم الذين يمارسون كتابة الرواية، ويحذرون فى الوقت نفسه من أضرارها، وهو ما نستطيع أن نجد مثالاً عليه عند يعقوب صروف الذى حذر من ضرر الروايات فى مقالة نشرها فى عام 1882 بعنوان «ضرر الروايات والأشعار الحبية»، يقول:
 لو استقرينا قلق الشبان والشابات لوجدنا أكثره مسبباً عن الحب الباكر الناتج من قراءة الروايات والأشعار الحبية. فإن الشاب إذا قرأ رواية حبية جعل يستغنم كل فرصة لقراءة ما شاكلها من الروايات، فيضيع وقته سدى ويفسد ذوقه، (…) وما قيل فى الشبان يقال فى الشابات. ولذلك يجب على كل الذين يعتنون بتربية الأولاد أن لا يسلموهم إلا الكتب التى تربى عقولهم وآدابهم خير تربية» . ولكن رأيه هذا ظل – كما يقول على شلش- رأى الأكثرية من المثقفين، لا فرق فى ذلك بين مسلم ومسيحي، علمانى وغير علماني. 
 من هنا فقد نشأت الرواية فى تضاعيف هذا النسق المنقسم بين نسقين ثقافيين، لكل منها تصوراته ووسائله ووظائفه ومتلقوه. 

ميلاد الرواية العربية فى النقد الأدبى 


أثارت أصول الرواية العربية وريادتها، آراء كثيرة، فى نقدنا الحديث حيث تداخلت فى بعضها وتعارضت فى بعضها الآخر وبخاصة فى موضوع المؤثرات، وفى الأصول، وفى الرواد الأوائل، وفى النصوص الروائية الأولى بالإضافة إلى الخصائص التى اتسمت بها النصوص المنظور إليها كممثل لهذه البداية، من هنا كانت الحاجة إلى مناقشة هذه القضية فى ضوء المعطيات المتوافرة عن الرواية العربية فى القرن التاسع عشر.

هناك فكرة قديمة تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، ترى أن الرواية العربية اقتبست عن الغربية، وأن الروائيين العرب كتبوا رواياتهم تقليدًا للإفرنج، وتحولت هذه الفكرة إلى شبه مسلمة جرى الأخذ بها منذ تلك الفترة، وظلت توجه الفكر النقدى كلما أثيرت هذه القضية، بل يمكننا الزعم بأن النقد العربى المعاصر قد قام على أساس هذه الفكرة  يقول: «محمد حسين هيكل»:

«القصة فى الأدب العربى الحديث ما تزال أغلب أمرها تستلهم القصة الغربية مقلدة إياها فى صورتها، غير صادرة فى الوقت نفسه عن فكرة ومثل أعلى يحركان نفس صاحبها»  وينطلق يحيى حقى من المسلمة نفسها، يقول:  «القصة جاءتنا من الغرب … وأول من أقام قواعدها عندنا أفراد تأثروا بالأدب الأوربى والأدب الفرنسى بصفة خاصة».


وواضح أن يحيى حقى، وغيره ممن أشاعوا لهذه الفكرة استندوا فى تفسيرهم لنشأة الرواية العربية إلى ما أشاعه الخطاب الاستعمارى فى حياتنا الثقافية مما أدى إلى تعاظم أثر فرضية المؤثر الغربى والتى بدأت بالرواد الأوائل من الروائيين.

ونظرة سريعة إلى مقدمات روايات تلك الفترة تكشف تلك الحقيقة بالإضافة إلى آراء النقاد (زيدان، وهيكل، ويحيى حقى، …) والجدير بالذكر أنه طوال القرن العشرين تقريبًا سيطرت هذه الفكرة على معظم مؤرخى الأدب العربى ونقاده، يقول سيد البحراوى: إن أغلب الدراسات التى تناولت هذه القضية، قد اتفقت على أن الرواية هى نوع أدبى وفد إلينا من الغرب بعد الاتصال الحديث به. وهذا الرأى هو الرأى الأصوب والأدق علميًا.

وأتصور أن الأخذ بالرأى القائل: بأن الرواية العربية هى محاكاة للرواية الغربية، سوف يصطدم بحقائق كثيرة، أهمها الدور الذى لعبه القراء فى تكييف نصوص الروايات الغربية المعربة لذوقه ولشروطه والتى تتصل بالأساس بالموروث السردى الشعبى بوجه خاص، فلم يعرف طوال القرن التاسع عشر أن تمت ترجمة عمل أدبى روائى أوروبى معاصر ترجمة دقيقة تحافظ على الطابع الأصلى للأحداث وميول الشخصيات والأبعاد الثقافية والنفسية والأخلاقية لها.

فالتسليم بفاعلية المؤثر الغربى إلى هذه الدرجة أمر مبالغ فيه إلى حد بعيد، والجدير بالذكر أن هذا لم يكن التفسير الوحيد حيث بدأ منذ خمسينيات القرن العشرين تبلور تفسير آخر يذهب إلى عكس التفسير السابق، يؤكد على الأصول العربية للرواية وأنها تحدرت عن أصول عربية خالصة وكان فاروق خورشيد قد شكك فى القول الشائع بأن الرواية العربية هى من نتاج التأثر بالآداب الغربية، ودعا إلى البحث عن أصول لها غير النقل والترجمة، وذلك يعود إلى استحالة أن يقوم أدب أصيل على التقليد المحض؛ وعليه ينبغى البحث عن سبب آخر لظهور الرواية غير السبب القائل بأنها تقليد للرواية الغربية. 

وفى بحث خورشيد عن أصول الرواية وجدها متمثلة فى المدونات والمرويات السردية القديمة، وقسمها مراحل تبدأ «بمرحلة كتب الأخبار التى ظهرت فى العصر الأموى واستمرت إلى العصر العباسى، كما فى كتب وهب بن قتبة وعبيد بن شرية فى أواخر العصر الأموى وأوائل العصر العباسى مثل كليلة ودمنة وسيرة ابن إسحاق (…) والقصص الشعبى المجمَّع فى أمثال كتب ألف ليلة وليلة (…) ثم آخر الأمر صورة من الرواية العربية فى سيرة عنترة، وذات الهمة، والظاهر بيبرس، وسيف بن ذى يزن، وحمزة البهلوان.

وكما يبدو فإن فاروق خورشيد ينطلق من فكرة أساسية ترى فى المدونات والمرويات السردية القديمة الأصل والنموذج الأمثل للرواية فـ «خورشيد» يتعامل مع كتب الأخبار والحكايات الخرافية والسير الشعبية باعتبارها الأساس الذى قامت عليه الرواية العربية الحديثة. 

يكشف تفسير خورشيد تغييبًا واضحًا لمعطيات نظرية الأدب حيث لا يفهم الفارق الواضح بين فنية تلك الأنواع القديمة وبين الخصائص الفنية المميزة للرواية كنوع أدبى محدد وفى إشارة مهمة لسيد البحراوى عن إشكالية الأخذ والتسليم بهذا الرأى يقول «الذى يرى أن الرواية هى امتداد لأنواع قصصية عربية قديمة، لا يفهم الفارق الواضح بين فنية تلك الأنواع القديمة وتنوعها.

وبين الخصائص الفنية للرواية الأدبية كنوع أدبى محدد، هذا بالإضافة إلى أنه يتصور أن الأنواع الأدبية تسير سيرتها الحياتية المستقلة، وتنتقل من زمن إلى آخر بحرية مطلقة لا تقيدها حدود الزمن وتطور البشر منتجى هذه الأنواع الأدبية، أى أنهم يعزلون هذه الأنواع فى ذاتها، ويفصلونها عن تاريخها الذى هو المكون الأصلى لها.

وفى رد محمد مندور، على خورشيد حول كون المرويات السردية هى الرواية العربية يقول «أما أن يحاول خورشيد إقناعنا بأن هذا التراث القديم يكون فجر القصة العربية المعاصرة، فهذا ما لم يقم عليه دليل، فأغلب التراث الذى تحدث عنه قد أصبح من وثائق التاريخ، أى من الماضى المنقطع الذى لا نحس اليوم بأنه مستمر التأثير فى إنتاجنا القصصى المعاصر، وكل ما هناك هو أنَّ تراثنا الشعبى اتخذه ولا يزال يتخذه عدد من أدبائنا مادة أولية لبعض قصصهم أو مسرحياتهم، وبخاصة قصص ألف ليلة وليلة، التى لا تعتبر من التراث العربى الخالص، وقصصها أبعد ما تكون عن المفهوم الحديث لفن القصة».

ولعل أهم ما افتقر إليه تحليل خورشيد السابق هو الحس الزمنى بقضية الرواية كنوع أدبى جديد.من هنا نستطيع أن نصف دارسى نشأة الرواية المعاصرين فى إطار أحد همين رئيسيين: 
إما البحث عن النص الذى تحققت فيه ملامح النوع الروائى الأوربى مستوعبة قضايا المجتمع العربي، ومن هنا كان اهتمامهم الأكبر بزينب كأول رواية عربية تحقق العناصر الفنية للرواية الغربية، أو البحث عن قضايا المجتمع العربى ماثلة فى شكل قصصى قريب من التراث العربي. لذا كان اهتمامهم بنصوص مثل «حديث عيسى بن هشام» التى تتميز رغم افتقارها إلى كثير من الأساليب الفنية بإدراك صاحبها للعلاقات الاجتماعية. 

وفى إشارة مهمة لسيد البحراوى عن هذا الصراع، يقول: إن هذا الصراع يردنا – فى النهاية – إلى الموقف التقليدى الذى وقفه الرواد – فى رحلتهم الأولى – وبعض النقاد المعاصرين، الذين رأوا أنه لا ضرر من نقل الشكل الأوربى ما دام يتضمن المحتوى المحلى.

وهكذا نجد أنفسنا نعود مرة أخرى إلى الوحدة ذاتها التى بدأها جيل الرواد لتكريس وجهات نظرهم نفسها على نحو أو آخر، ولنقع فى الخطأ الأساسى نفسه؛ ألا وهو إمكانية نقل الشكل من زمان أو من مكان، إلى مكان وزمان آخرين، وملئه بمضمون هذا الزمان أو المكان الآخر وهذا التسليم بهذه المقولة الأساسية – نابع فيما أعتقد من تبعية البنية الذهنية لنقادنا، مثلما لروادنا الأدباء معًا وهما معًا أبناء طبقة واحدة هى التى قادت بفئاتها المختلفة (تطورنا) الاجتماعى والثقافى فى العصر الحديث بصفة عامة. 

إن معظم روادنا ونقادنا كما يشير سيد البحراوى قد وقعوا فى أحبولة الموازاة بين التطور الأوربى الحديث والتطور العربى، وانطلاقًا من مقولة، لا شك أنها صحيحة، ترى أن الرواية هى نتاج المجتمع الرأسمالى، كما حدث بوضوح فى أوربا، تصور أبناء طبقتنا البرجوازية أننا ما دمنا نمتلك هذه الطبقة والمجتمع، فمن الطبيعى أن تنشأ لدينا رواية وتتطور.

ورغم أن هذا الإطار النظرى صحيح، فإن جزئية محددة قد غابت عن نقادنا، (…) هى أن تطورنا الحديث ليس رأسماليًا بالضبط، كما أن برجوازيتنا ليست برجوازية بالضبط  فالمعروف أن تطورنا الحديث قد تم منذ البداية تحت هيمنة المستعمر الغازى مما جعل هذا التطور مفروضًا من الخارج مما أعاق التطور الطبيعى الذى كنا نحتاج إليه. 

ويذهب إبراهيم السعافين إلى أن الرواية العربية فى نشأتها قد تأثرت بالذوق الشعبى تأثرًا بينا يقطع بأن الظروف الاجتماعية المختلفة ومنها طبيعة العصر، ونوعية القارىء ومكوناته الثقافية، وموروثاته الاجتماعية أملت على الروائيين استلهام الأعمال الروائية  الشعبية فى نتاجهم كما أوحت إلى المترجمين أن يراعوا ذلك فى مستوى الأعمال المترجمة، وفى التصرف بها لتوائم الذوق الشعبى السائد.

يضعنا هذا النص إزاء نتيجة مهمة، وهى: ما يصطلح عليه السعافين بـ «استلهام الأعمال الروائية الشعبية» ورغم تحفظنا على وصفه تلك المرويات السردية بـ «الأعمال الروائية» على غرار ما قال به فاروق خورشيد من قبل فكأنه بذلك يدرجها فى النوع الروائى إلا أنه كان مصيبًا فى موضوع الاستلهام، وبالتحديد الأدب الشعبى.

وفى حقيقة الأمر، شهد القرن التاسع عشر تحولات ثقافية كبيرة، حيث طبعت فيه المقامات والسير الشعبية والحكايات الخرافية، وقصص الأمثال وقصص الحيوان وكتب الأخبار والرحلات وبخاصة فى مجال المرويات السردية ودورها فى النصوص الروائية والمسرحية المؤلفة والمعربة حيث استعارت كثيرًا من أساليبها وموضوعاتها من ذلك الموروث الذى لم يكن التخلص منه سهلاً. وعودة إلى روايات تلك الفترة تكشف لنا الدرجة التى تتصل بها تلك الروايات بالملامح العامة للمرويات السردية، سواء فى الأساليب، أو بناء الأحداث، وبناء الشخصيات، أو فى الأهداف العامة – على هذا النحو أتصور – مع كثير من المقولات التى قدمها نقادنا حول موضوع النشأة والمؤثرات. 

علينا ابتداءً أن نرفض الادعاء بإمكانية وجود شكل عربى «أصيل» ثابت يمكن أن نحيل إليه بإعتباره إطارًا مرجعيًا للرواية العربية، إذ إن الرواية العربية الحديثة لا يمكن أن تكون قبل العصر الحديث وفى الوقت نفسه لا يمكننا التسليم بأنها صورة من الرواية الغربية. 

فالرواية العربية الحديثة قد تأثرت فى نشأتها بعوامل مركبة مما أكسبها تلك الخصوصية التى تنوعت بين التراث الرسمى والتراث الشعبى بكل أشكاله وبين أشكال الرواية الغربية المترجمة بالإضافة إلى الحراك الثقافى الذى شهده القرن التاسع عشر والذى شهد ميلاد الرواية. 

هؤلاء بدأوا الطريق  

خليل أفندى الخوري، فارس الشدياق، فرنسيس المراش، زينب فواز، لبيبة هاشم، عائشة التيمورية، بديعة كرم، محمود خيرت، سليم سركيس، فرح أنطون، المويلحي، محمود طاهر حقي، سليم البستاني، محمد التميمي، أليس بطرس البستاني، عفيفة أظن الدمشقية، محمد حسين هيكل، وكثيرون.. 

الرواية العربية الأولى 

ثمة خلافات كثيرة بين النقاد حول تحديد أول رواية عربية، ففى الوقت الذى ذهب فيه محمد يوسف نجم إلى أن أول محاولة كبيرة فى القصة الاجتماعية كانت على يد سليم البستانى «الهيام فى جنان الشام» سنة 1870، يؤكد منصور قيسومة إلى أن المرحلة الأولى من تاريخ الرواية العربية تبدأ مع ظهور علم الدين سنة 1882 لعلى مبارك.

وفى الوقت الذى ذهب فيه جابر عصفور إلى أن أول رواية عربية هى «غابة الحق» سنة 1865 لفرنسيس المراش، فيما ذهب حلمى النمنم إلى أن أول رواية كانت «غادة الزهراء» لزينب فواز سنة 1899، والحقيقة أن أول رواية عربية يمكن أن نبدأ بها تاريخ الرواية العربية بلا منازع هى رواية «وى إذن لست بإفرنجى» لخليل أفندى الخورى سنة 1858.

وتأتى أهمية هذه الرواية ليس فقط لأنها الرواية العربية الأولى تاريخيا وإنما تأتى الأهمية من الناحية الفنية ولأنها طرحت سؤال الهوية فى فترة مهمة من تاريخ النهضة العربية وهذا ما سنقف عنده بالتفصيل فى قراءتنا لهذه الرواية. 

من هو خليل الخورى؟ 
‎وُلِدَ «خليل الخورى فى بلدة الشُّويفات فى جبل لبنان سنة 1836؛ ودرس العربيَّة على يد ابن بلدته، الشَّيخ ناصيف اليازجي»؛ ثمَّ مارس التَّدريس، مرحلة قصيرة، وانصرف، من ثَمَّ، إلى الكتابة كانت الكلمة على موعد مع الخورى لتكون أسباب سعده وشهرته فى عصر النهضة.

‎فقد وضع خليل عددا من الدواوين الشعرية، وكتب الرواية والمسرحية، وألف فى التاريخ، ومن جهة أخرى، أسس صحيفة «حديقة الأخبار» التى تعتبر من أولى الصحف العربية. 
أصدر خليل الخورى صحيفة «حديقة الأخبار» سنة 1858، وظلَّ يصدرها حتَّى وفاته سنة 1907. كانت هذه هى الصَّحيفة الدَّوريَّة الأولى فى العالم العربي.

فقد أطلق الخورى على «حديقة الأخبار»  اسم  «الجورنال»، معتمداً فى هذا نقلاً حرفيَّاً من الاسم الفرنسى Journal. والمُلاحظ، ههنا، أنَّ «الخوري» لم يعتمد التَّرجمة العربيَّة للَّفظ «جورنال» الفرنسي، وهو اليوميَّة، بل أدخل اللَّفظ الفرنسى إلى التَّداول العربي. وقد أشار إلى ذلك فى روايته الرائدة «وى إذن لست بإفرنجى» . 

وعى مبكر بالهوية العربية 

منذ الوهلة الأولى يضعنا الخورى وجها لوجه مع إشكالية الرواية وقضيتها المحورية وربما مع إشكاليتنا نحن وهم (الغرب) فعلى الرغم من مرور أكثر من قرن ونصف من الزمن على كتابة هذه الرواية إلا أننا نشعر وكأنها تصور أزمتنا المعاصرة فى سؤال الغرب، فعنوان الرواية  «وى إذن لست بإفرنجي» يعكس تصورا لمن يكون هو الإفرنجى ومن لا يكون.

وهذه هى قضية الرواية المحورية التى تخللت كل عناصر الرواية، ابتداء من مقدمتها وحتى صفحتها الأخيرة، وعندما نتأمل كيف رصد الخورى تلك القضية داخل النسيج الروائى وكيف قارن بين الشرق والغرب، والعلاقة بينهما، تطالعنا الرواية بمقدمة شديدة الأهمية وتطرح لأول وهلة قضية الشرق والغرب يقول الخوري: «إننا لا ننكر تفوق العالم الأوروبى على بلادنا من جهة التمدن كما إننا لا نعزى أنفسنا أو نخدع كبرياءنا.

بتلك التعازى الفارغة التى طالما يترنم بها الشرقيون بأن آبائنا رحمهم الله كانوا من ذوى العلوم والمعارف وأن بعض المبادئ العلمية أخذت عنهم إلى أوروبا إلى غير ذلك من المفاخر الميتة التى لا ترفع قامتنا ذراعا ولا يمكن أن تحط بشأن الأوربيين ذرة فى عصرنا، نعم أن لنا اعتذارات كثيرة يمكن أن تعلل إلى حد ما الهيئة الاجتماعية الموجودة الآن فى الشرق غير أن ليس كلما يعلم يقال، فإن للشرقيين أسبابا طبيعية وأدبية أدتهم إلى الحالة المشكى منها الآن فقد تكون عذرا لهم كما يكون الخمر عذرا لمن غاب رشده فلنضرب إذن صفحا عن هذه الأعذار ولنضع مكانها قاعدة لاشك بصحتها وبقبولها من الجميع سواء من أبناء الشرق العظيم الحسب أو من الغربيين المحدثين النعمة، وهو إن لكل قوم قابلية خاصة إلى نوع من التمدن مناسب إلى أخلاقهم وآدابهم على أنه لا يمكنهم استبداله بآخر إلا على خطر من فقد أحسن الصفات البشرية أعنى بها الوجود الأهلى».

تمثل المقدمة السابقة أهم المقدمات الروائية فى تلك الفترة فعلى الرغم من أنها باكورة المقدمات الروائية فى مرحلة النشأة إلا أن أهميتها لا تنبع من كونها أول مقدمة روائية وإنما من أفكارها الواعية إذا صح التعبير فواضح من تلك المقدمة وعى الخورى بهويته العربية بدا ذلك فى موقفه من النموذج الغربى، ورغبته فى أن يحافظ كل على هويته لأن لكل قوم قابلية خاصة إلى نوع من التمدن مناسب إلى أخلاقهم وآدابهم كما أشار سابقا. 

وتبدو هذه الأفكار شديدة الأهمية فى تلك الفترة المبكرة فالخورى يبدو شديد الوعى بخصوصية كل أمة وبوجودها الأهلى على حد تعبيره فالبحث عن الهوية العربية لا يمكن أن يتم إلا عبر فهم ذواتنا أولاً، وعبر فهم الغرب ثانيا.

وأقول فهم الغرب وليس الانبهار به لأن من شأن هذا الانبهار تعطيل عملية الفهم  الذى كان له أكبر الأثر فى تعطيل مشروع إنتاج رواية عربية حقيقية، فليس غريبًا إذن أن تكون هذه الرواية هى أول رواية عربية وهنا تكمن أهميتها فى هذا الوعى بالهوية العربية وليس فقط لأنها الأولى من الناحية التاريخية.

والجدير بالذكر أن الخورى إذا كان مهمومًا بالبحث عن هويتنا العربية عبر علاقاتنا مع الغرب فلأنه يؤمن بأننا لا نستطيع عند الحديث عن الذات العربية أن نتجاهل الغرب سواء بوجهه الإيجابى أو السلبى من هنا كان إلحاحه الدائم على قيمة المراجعة أو النقد الذاتى لفهم أنفسنا أولاً والآخرين ثانيًا.

هل يمكننا القول بأن رواية الخورى «ذو ملامح خاصة تتمثل أهمها فى وضوح طريق جديد للكتابة على مستوى الكتابة الروائية بحيث يمثل مرحلة مهمة جدًا فى تاريخ الرواية وكان يمكن أن يكون من أهم المراحل الانتقالية لولا تهميشه وعدم إدراك النقاد لهذا الكاتب الفذ أو لهذا الرائد المجهول المجدد.

أقول: كان يمكن لهذا النص أن يؤثر فى تاريخ الرواية العربية لو اهتم بها الكتاب فقد تميز هذا النص بالعمق فى تجسيد الأحداث والشخصيات تجسيدًا واقعيا مترابطا فى لغة عصرية بسيطة وغير معقدة على مستواه الفنى أما من ناحية المضمون فقد نجح الخورى فيما فشل فيه كثيرون بعده فى الوعى بالهوية العربية وذلك من خلال معرفة الذات العربية وفهم احتياجاتها وبذلك استطاعت هذه الذات أن تتخلص من التبعية للغرب وهى بذلك تبدأ خطواتها الحقيقية فى طريق الهوية العربية وهذا ما رصده لنا الخورى من خلال أحداث الرواية.

اقرأ أيضاً | باحث يكشف تفاصيل جديدة عن استرداد حجر رشيد