يوميات الأخبار

أساتذتى العظماء.. إذ تسطع الذكرى النائية

علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب

«كما تكونوا يكون تعليمكم» تقرع ذاكرتى تلك الجملة التى كان يروق للدكتور عمار أن يرددها، ثم أدخل عليها تعديلاً طفيفاً.. «معلمكم على صورتكم» سواء أولياء الأمور أو التلاميذ.

من حق هؤلاء أن أعترف بفضلهم علىّ.

كم كنت محظوظاً فى مشوارى التعليمى بحشد رائع من الأساتذة العظماء، الذين جمعوا فى تكوينهم العلم والأخلاق داخل وعاء إنسانى راقٍ، جعلهم أهلاً لتخريج أجيال من المواطنين المنتمين، أزعم أننى كنت أحدهم.

والحقيقة أنه كلما تقدم بيّ العمر ارتقى تقديرى لكل من علمنى حرفاً، وأدركت أكثر حجم الدور الذى لعبه أساتذتى فى المراحل المبكرة من العمر، تعليماً وتربية، فلم يكونوا مهمومين فقط بالتلقين أو التحفيظ، وإنما وبقدر كبير إكسابنا سلوكيات مفيدة، وتحفيزناعلى ممارسة أنشطة متنوعة، وإضافة خبرات جديدة، كلها توسع مداركنا، ومن ثم فهمنا للحياة خارج المدرسة.

كان المعلم ـ آنذاك ـ وأتحدث هنا عن النصف الثانى من ستينيات القرن الماضى، وحتى منتصف سبعينياته، يدرك تماماً خطورة مسئوليته، وأنه على نحو ما أحد صُناع المستقبل، باعتباره معنى بالعملية التربوية والتعليمية كمدخل أساسى للمستقبل، عبر مساهمته فى بناء النشء، وإطلاق ملكاته، وليس تحويله لماكينة للاستقبال، ثم ترديد ما يسمعه فى الحصة، أو يقرأه فى الكتاب المقرر، وكفى.

لا أبالغ فى شهادتى، ولا يعنى ذلك أنه لم يكن بين معلمى هذا الزمن المدرس التقليدى على المستوى التعليمى، لكنه يظل تربوياً رفيع المستوى، باستثناءات ضئيلة.

فى جيلى كانت المدرسة منذ الحضانة وحتى المرحلة الثانوية عالماً له سحر خاص، نتعلم فيه، ونمارس هواياتنا المختلفة، وثمة التزام أخلاقى يحكم العلاقة بين المعلم والمتعلم، وأيضا ثمة تواصل وتفاهم ببساطة واحترام يسودان المناخ المدرسى.

أساتذتى رحم الله أغلبهم، ومتع من ما زال حياً يرزق بالصحة والعافية، كانوا دائماً مصدر عطاء، يبرعون فى دفع تلاميذهم، أو أبنائهم نحو حب المعرفة.
شهادة تأخرت، ربما تسربت بعض معانيها فى سطور سطرتها من قبل، لكن كلمات قرأتها للدكتور رضا حجازى وزير التعليم الجديد، وهو فى الأصل مدرس أمسك بالطباشير، جعلت الذكريات تتدافع، وتفرض نفسها على قلمى.

النوايا وحدها لا تكفى

د.رضا بدأ مشواره المهنى مدرساً، وربما كان من حسن حظ المعلم والتلميذ ـ على السواء ـ أن يتولى مسئولية التعليم فى هذه اللحظة المفصلية، لأنه صاحب مشوار قطع خلاله العديد من المحطات التى لامست العملية التعليمية عن قرب، من ثم فإنه جاء «من تحت السلاح»، ومن أهل الاختصاص، ولعله فى هذا التوقيت الأنسب، والأقدر على إنهاء أو على الأقل، الحد من الفصام بين الفكر التربوى، والهيكل التعليمى الذى دفع ثمنه باهظاً المدرس والتلميذ، وخصم من رصيد المدرسة.

د.رضا قال فى تصريحات منشورة إنه لا تطوير للتعليم، دون الارتقاء بأداء المعلم، والاهتمام بكرامته وهيبته.

بالطبع، الكلام جميل وموزون.

ولأننى أشارك الوزير أحلامه، وأتمنى أن تتحقق لينعم أحفادى وجيلهم بتعليم متميز، لذا أدعو د.رضا إلى تبنى دعوة لحوار سريع وواسع، يجمع الأطراف المعنية بنجاح العملية التعليمية، هدفه بلورة رؤية قابلة للتطبيق، وامتلاك آلياتها والإمكانات التى تضمن تفعيلها ونجاحها.

المهمة ليست بالهينة ولا اليسيرة، لكن من يرنو للنجاح الحقيقى، لا يتوانى عن ركوب الصعاب.

ولا أشك فى صدق النوايا، لكنها وحدها لا تكفى.

معلمكم على صورتكم

فى وطن عظيم مثل مصر، لا يتصور قارئ جيد لتاريخه أن أى توجه لتطوير أى من مناحى الحياة يبدأ من الصغر.

ثمة تراث ثرى نمتلكه فى كافة المجالات، والتعليم فى المقدمة، فثمة تجارب ناجحة كان خطها البيانى يؤشر لصعود لا ينكره إلا جاحد أو جاهل.. أنتمى إلى جيل كان محظوظاً بمدرسته، كما أشرت فى مقدمة حديثى.

وحتى لا يكون الحديث عاماً ومرسلاً، أظن أن استدعاء تجربتى يحمل فى طياته، شهادة حية على ما ذهبت إليه.

منذ كنت فى الخامسة عند التحاقى بالحضانة، وحتى حصولى على الثانوية العامة، كانت المدرسة بيتى الثانى، وكان المعلم أو المعلمة أباً أو أماً، أخاً أو أختاً.
وبتعبير شيخ التربية الحديثة د. حامد عمار ـ رحمه الله ـ كان المدرس أو الُمدرسة، القوة المحركة الدافعة للجسم التعليمى.

أدرك الأمر على هذا النحو بأثر رجعى، وبعد تراكم سنوات العمر وخبراته، وما توالى على المرء من خلال متابعة تجربة الأبناء ثم الأحفاد، ومقارنة بقصد أحياناً، ودونه أحياناً أخرى، بين ما كان يجرى بالأمس البعيد، والحادث اليوم.

«كما تكونوا يكون تعليمكم» تقرع ذاكرتى تلك الجملة، التى كان يروق للدكتور عمار أن يرددها، ثم أدخل عليها تعديلاً طفيفاً: معلمكم على صورتكم، سواء أولياء الأمور أو التلاميذ.

وقتما اجتزت للمرة الأولى عتبة المدرسة «الحضانة»، ثم توالت خطواتى من الابتدائى مروراً بالإعدادى، وصولاً للثانوى، ظل عالقاً بالذاكرة عطر معلمين ومعلمات يأتى وصفهم بالعظمة، من قبيل تصديق الواقع لا المبالغة أو المجاملة.

الفيض ربما تحول فيضاناً

لم يدر بخلدى اجترار بعض من ذكرياتى عن المراحل المبكرة فى حياتى، لكن ما أقُدم عليه هنا قد يكون مفيداً فى سياق اللحظة، فربما يحمل دروساً يستخلصها من شاء.

كانت بداية تعرفى على المدرسة بالتحاقى بالحضانة، هناك كان اللقاء بأبلة إحسان، سيدة غاية فى الطيبة، ترتدى تايير باللون الأسود، غير أن البشاشة لا تفارقها رغم حزن تحمله قسمات وجهها! تعهدتنا بتعليم الأبجدية، وكلمات من ثلاثة أو أربعة حروف، ثم كتابة أسمائنا، بالإضافة إلى الأرقام، ثم عمليات جمع وطرح بسيطة، وكانت حريصة على أن يشعر كل تلميذ أنه محل عنايتها الخاصة ووفقت فى ذلك إلى حد بعيد، ولم نعرف فضلها إلا عندما انتقلنا إلى المرحلة الابتدائية، فكان من تتلمذ على يديها متميزاً، بخلاف من لم يمر بالحضانة.

فى الحضانة ـ أيضاً ـ تعلمنا النظام عبر طابور الصباح، وتحية العلم، وترديد نشيد بلادى بلادى.

الآن تفتقر مدارس كثيرة إلى فناء يتسع لطابور!

فى مدرسة عمر بن الخطاب الابتدائية، كنا نفاخر بالتحاقنا بأكبر وأفضل مدرسة فى المدينة، بأساتذتها الذين يجمعون بين سمعة ومهابة، وعلم يظلل صيتهم.
لا أنسى الأستاذ سيد عليوة ـ رحمه الله ـ الذى كان أول من تنبأ لى ـ أو بشرنى ـ بأننى سوف أكون موفقاً فى اختيارى للصحافة كمهنة، وأنا حينذاك ابن العاشرة! كان يدرس لنا اللغة العربية والدين والمواد الاجتماعية، ولاحظ أننى لا أتقن الحفظ النصى، لكنى أملك القدرة على التعبير بدقة عن المعنى الذى يتضمنه النص، وكان الأمر سبباً لحزنى، إلا أنه خفف عنى، مؤكداً أن ما حبانى به الله يستوجب الشكر ولا يستدعى الغضب، فهل يحظى أحفادى بمثل هذا الأستاذ؟!

عندما انتقلت إلى «ميت غمر الإعدادية بنين»، لم أملك إلا الانبهار بالمبنى الذى شُيد على شكل حرف «يو»، يشتمل مزرعة صغيرة يرعاها الأستاذ عبد الكريم مدرس التربية الزراعية، الذى يحرص على اصطحابنا للمزرعة فى حصته، كما كان ذات الحرص من جانب الأستاذ محمد فرج عيد مدرس التربية الموسيقية، أن تكون حصته فى غرفة الموسيقى التى تضم ما يكفى لعازفى أوركسترا صغير.

ثم كان مسك الختام فى «ميت غمر الثانوية بنين»، أساتذة يشار إليهم بالبنان فى شوارع المدينة، علم وخلق ووقار، الأستاذ الهريسى مدرس أول اللغة الانجليزية شخصيته كاريزمية أهلته لأن يكون رائداً لاتحاد الطلبة حين كنت رئيسه، الأستاذ الرملى مدرس الأحياء، والأستاذ صلاح غريب مدرس الفيزياء، كلاهما عارضنى فى الالتحاق بالقسم الأدبى، لوجودى بفصل المتفوقين فى الصف الأول، ولا أنسى الأستاذ عبد الفتاح مصطفى مدرس المواد الفلسفية الذى درس لى «التربية الوطنية»، لكنه كان يشارك زميليه حماسهما لأن التحق بالقسم العلمى، وتمزقت ورقة الرغبات بيننا، عندما تبين له أننى مُصر على التسجيل بالقسم الأدبى، وتدور الأيام، ونلتقى صدفة بعد أن بدأت مشوارى المهنى، ليعترف بأننى كنت على صواب، وأننى حين أكتب يذكر لتلاميذه واقعة «تمزق الورقة» حتى صاروا يحفظونها من كثرة ما رددها!

الذاكرة تحمل فيضاً، ربما تحول فيضاناً لو أطلقت له العنان.

كنت وجيلى ـ بالفعل ـ نحظى بأساتذة عظماء، كانوا يجمعون بين علم نافع غزير، يجعل التلميذ يحب المعرفة قبل أن يبحث عن النجاح فى الامتحان، ثم كانوا فى سلوكهم يمثلون القدوة عبر الالتزام بالقيم كضرورة حياة.

القدوة.. ودرس التواضع

أستطيع القول إن معظم أساتذتى كانوا يتمتعون بالتواضع الجم، وحين كان أحدنا يقول لأستاذه: انت قدوتى، يرد بالشكر والرفض فى آن معاً! واللطيف أن يكشف لنا عن قدوته.

الأستاذ عبد الفتاح القلش مدرس أول العلوم فى الإعدادى، يؤكد أن قدوته د.مشرفة الذى كان يلقب بأينشتين العرب.. الأستاذ موسى زراع مدرس أول العربى فى الثانوى كان يفخر بأن د.طه حسين قدوته، وينصح من يبحث منا عن قدوة أن يتبنى توجهه.

الأستاذ على الشيخ الذى كان مديراً لمدرستى الإعدادية ثم الثانوية كان يعلن دائماً أن أحمد شوقى قدوته دون منازع.

و....و.... وهذه مجرد أمثلة، تشير إلى تواضع أساتذة ذلك الزمان رغم عظمتهم، وكان ذلك بحد ذاته درساً لتلاميذهم مهما بلغوا من تفوق، أو أى من إمارات التميز أن يتحلوا بالتواضع، من ثم بقوا يحتلون فى القلوب مكانة بارزة، ويسكنون الذاكرة بجدارة، حتى يكتب الله لنا اللقاء.