الفراغ الثقافي.. وسلاح العصر

خاطر عبادة
خاطر عبادة

فى عالم يتغير سريعا كل يوم.. أصبحت لوسائل التواصل والتكنولوجيا الحديثة دورا لا غنى عنه لتيسير الأعمال والتواصل، لكنها فى نفس الوقت أصبحت سلاح العصر الحديث في إطار الحروب التكنولوجية أو الثقافية والنفسية بين الدول أو ما يعرف بحروب الجيل الرابع.

ونحن فى زمن العولمة، إذا لم يكن هناك حائط صد ثقافى بمثابة مناعة وتحصين للمجتمع لمنع تفشى عدوى السلوك والأخلاق أو غزو الثقافات الأجنبية من خلال تعدد وسائل التواصل، سنسمع كل يوم عن تصدر السلوكيات العشوائية والسوقية لـ"ترند" الأخبار أو حالة من العشوائية والفوضى الثقافية 

وجود فراغ ثقافى نتيجة تخلى المثقفين عن دورهم قد أعطى مساحة حرة ونشطة يستغلها المتربصون أو تيارات موجهة فى الداخل أو الخارج لاختراق وعى الناس وتحويل تلك المواقع إلى ساحات جدال ومعارك، كما أنّ المتاجرون بالدين لا يمكنهم تحقيق مكاسب إلا على حساب من يجادلون فى أمور الدين بغير علم، واستغلال التصريحات الجدلية لتحيق مكاسب ومصالح حزبية بحتة على حساب حالة السلم المجتمعى.. ولا يجب أن ننسى أنها جماعات لا تعارض إلا من أجل مصلحتها الحزبية فقط حتى لو على حساب مصالح الناس والوطن. 

ولا يخفى على أحد استخدام التكنولوجيا كسلاح فى الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا، ولم تقتصر على الحرب الإليكترونية والقرصنة؛ ولكنها شملت أيضا نهجا جديدا وهو اختراق الوعى، حيث اتهمت واشنطن كتائب إليكترونية روسية بمحاولة إثارة احتجاجات عرقية وخلق انقسامات داخل المجتمع الأمريكى وتأليب الرأى العام ضد إدارة دونالد ترامب السابقة عبر  حسابات وهمية أو الاشتراك فى مجموعات عامة بمواقع التواصل وتأجيج حالة الكراهية مستغلة الحوادث العنصرية ضد مواطنين سود أو اللهجة البغيضة التى انتهجتها تلك الإدارة ضد المهاجر اللاتينى، كما بالمثل تدعم أمريكا المعارضة الروسية، وقد لجأت موسكو مؤخرا لحظر فيسبوك وانستاجرام وجوجل.

لسنا بمعزل عن العالم، أو أى دولة أخرى مستهدفة ولها أعدائها الذين لا يملون من تكرار محاولات زرع الفتنة والانقسام ودعم المعارضة المعادية التى لا تهتم سوى بمصالحها وتتصيد الأخطاء وإثارة مناخ عام من الإحباط حتى يتسنى لها تحقيق أهدافها الخبيثة فى إطار نهج يفرق ويفسد مفهوم الدين وسيادة الدولة.

التكنولوجيا إذن سلاح العصر.. فإذا كان انتشار السلاح النارى فى مجتمعات غير متدينة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا الجنوبية يؤدى إلى زيادة الجرائم..  وكذلك فإن انتشار مواقع التواصل الاجتماعى فى أى مجتمع دون الالتزام بضوابط أخلاقية داخل إطار ينظمه سيتحول إلى سلاح فى متناول الجميع، يحصل عليه كل من يطلبه أو يصل لأشخاص غير مؤهلين لحمله.. الكل يذيع وينشر بشكل عشوائى.. وليس كل ما يقال فى هذا المجتمع الافتراضى يعبر عن الحقيقة، بل حالة من العشوائية قد تفرض على أى وافد جديد التعامل على طريقتها ومجاراة الواقع والجدال فى أتفه الأسباب.

وقد تبدو تلك الوسائل التواصل الحديثة جذابة فى البداية، فيظنها وسيلة لتبادل الأفكار أو حتى توثيق لحظات جميلة، أو تسهل التواصل وفى متناول الجميع وحتى فى أى مكان يذهبون إليه، لكن سرعان ما يصاب صاحبها بالملل لدى رؤية البعض ينزلقون إلى أخلاقيات الفيسبوك من نشر الشائعات والأكاذيب والبغضاء والكراهية والتنمر فيساهمون فى جعل مواقع التواصل أداة غير منضبطة وضارة للمجتمع نتيجة إدمان تلك المواقع فيما لا يفيد.. أو يستغلها البعض فى أمور حزبية مغرضة، ثم ندرك أن هذا مجتمع فارغ.

أما أسوأ عيوبها هى محاولات جهات فى الداخل أو الخارج لاختراق أو سرقة وعى الشباب واستغلال خلافات سياسية لاستهداف وحدة وترابط المجتمع وسلمه ونشر وإذاعة الأفكار الضارة فى إطار ونهج عشوائى دون أن يدرك الجميع ما وراء المحتوى من أهداف أو خطورة الكلمة.

ولا نقول للناس امتنعوا نهائيا عن استخدام أداة عصرية ترتبط بها كثير من المصالح والعمل لكن تسلحوا بالوعى الكافى والنظر بعين ناقدة والتحرى والتدقيق فى كل ما ينشر من معلومات فى إطار وهم حرية التعبير بلا رابط أو قيود أخلاقية أو أعراف تمنع بعض المغرضين من الإضرار بقيم المجتمع.. وجود حد أدنى من الثقافة العامة ولو بمعرفة أساسيات أو حتى قشور فى كل مجال تسمح على الأقل بتكوين رأى وتوجه شخصى مستقل حتى لا يكون أحدنا عائما مع كل تيار أو اتجاه ولا يستطيع التمييز بين كل ما يكتب أو يقال.
والفن مسؤولية.

هناك ثوابت ثقافية وأخلاقية وهى جزء لا يتجزأ من سيادة الدولة والقانون وأمنها القومى المستهدف، لكن-كما ذكرنا- فإن حالة الفراغ الثقافى جعلت وسائل التواصل بجانب تقديم فن مبتذل وغير جاد، وأغانى المهرجانات الهابطة تساهم فى نقل عدوى السلوكيات العشوائية أو السوقية وغزو الثقافات.. وبدون أى مبالغة، لو بحثنا عن أسباب دقيقة لظهور نوع جديد من الجرائم والعنف بين فئات جديدة فى المجتمع مثل الشباب والطلاب سنجدها مرتبطة بعدوى تلك السلوكيات الخاطئة أو الثقافات الأجنبية بجانب تعاطى المخدرات بين الشباب.. فالجرائم الشائعة من قبل كانت أكثرها بين صنوف معروفة فى المجتمع مثل البلطجية والمدمنين، وهناك أسباب مادية أخرى للجريمة مثل زيادة نسبة الفقر أو المال الحرام، لأن الفقر الشديد أو الثراء الفاحش قد يفتن صاحبه، والجريمة طبع وسلوك عدوانى وشرير. 

وتطبيق القانون وحده لا يكفى لمواجهة زيادة معدل الجريمة، لكن نحتاج حل جذرى بتعزيز دور الثقافة.. والحفاظ على الهوية الدينية والحضارية والمكون الثقافى المصرى من عبث العابثين.. فمثلما تنتقل العدوى بالنسبة للأمراض العضوية، فإن الأمر كذلك فيما يتعلق بالأخلاق والسلوك العام، فنرى أثر ذلك فى زيادة مناخ الكراهية والتعصب والغضب أو تفشى ثقافة العنف وتعظيم المادة، مما يؤثر على زيادة الجرائم، فيظن الناس أن هناك حالة من الفتنة أو هناك مس شيطانى أثّر على زيادة الغضب فى المجتمع، ولكن الواقع هو أن هناك عدوى أخلاق قد تتفشى إذا لم يتم عزل الفكر والسلوك الضار.

وعى الناس وثقافتهم مسؤولية وأهم من أية مكاسب شخصية سريعة قد يترتب عليها فساد أجيال.. لو أصبح دور المثقف هامشيا وتردت الثقافة ستهدم الأخلاق وتهدد حالة السلم المجتمعى؛ وقد يحدث فى أى خلاف بين شخصين أن يتحول إلى غضب و شجار وعنف وتعصب وتهديدات لم نكن نسمع عنها من قبل..

وازدهار الثقافة والأدب فى أى مجتمع يرتبط بتغليب القيم والأخلاق على الماديات أو الابتذال..  وعدم اللجوء لثقافة مبتذلة وعزل أى فكر دخيل أو ضار؛ ولكى تقوم الثقافة بدورها فى عملية التنوير وتكون أداة من أدوات الإصلاح ونموذجا للجمال فى بلد أذهلت حضارته العالم.

والفن له تأثير مباشر وسريع على سلوك الناس، والدليل أنّ البعض يكاد يجزم بأن عمل فنى قديم مثل مسرحية مدرسة المشاغبين، كان له تأثير سلبى على احترام قدر وقيمة المعلم بجانب عوامل أخرى.. مما يحتم على أي جهة فنية أو منصة إليكترونية الانتصار للثقافة الأصيلة وليس أن يحول الفن إلى سلعة فينشر كلمات مبتذلة أو تافهة مادية فى بعض الأفلام وأغانى المهرجانات حتى ظهر مطرب شعبى يقول " أشرب خمور وحشيش" قبل أن تحذفها الرقابة بعدها، فهنا كأنه وجه ضربة للثقافة فى مقتل.. حتى لو أصبح لهم ملايين المعجبين والهواة، لكن على الأقل عليهم وقف استخدام لغتهم السوقية والإيقاع المبتذل.

وأخيرا.. فإن اضطلاع المثقف بدوره الوطنى سيغلق أى ثغرة تستغلها تيارات مأجورة أو تتاجر بالدين، ونسوا أنّ المصريون أهل علم وحضارة قديمة تمزج بين الأصل الطيب والدين ومعدن خير لا ينضب.. ويلقنون أى شخص يتاجر بالدين أو يحهل أو يجهل ويجادل فى أمور الدين بغير علم، دروسا فى العلم والدين.

قوة ووحدة مصر بشعبها وصلابة جيشها ومؤسساتها الدينية والوطنية تمثل صخرة تتحطم على أبوابها أى مؤامرات أو حتى محاولات لتغيير نهجها الوسطى المحافظ.، لكن لا يمكن أن نترك جيلا بأكمله ليكونوا مصيدة لفساد الثقافات الأخرى ويكتسبوا رذائلهم، أو تستمر عدوى نشر التفاهات والسلوكيات غير السليمة بلا ضابط!