ممدوح فرّاج النّابى يكتب: لقاء على ناصية زقاق المدق

 نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

ليست أهمية نجيب محفوظ (1911- 2006) لدى الثقافة التركيّة فى كونه يأتى فى موضع متميّز فى قائمة الأسماء العربيّة المترجمة إلى التركيّة وفقط، فهو يشغل الترتيب الثالث بعد جورجى زيدان وجبران خليل جبران، بل تأتى أهميته الحقيقية فى كونه علامة فاصلة فى هذا المسار حتى صار يُؤرَّخ للعلاقة بين الأدب العربيّ برمته والأدب التركيّ، عن طريق الترجمة باسم نجيب محفوظ. لذا يُجمع النقاد الأتراك على أن حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل فى الآداب عام 1988، كان نقطة التحوّل فى ترجمة الأدب العربى إلى التركيّة، فصار تقييم الترجمات وفق تقسيم ما قبل نوبل محفوظ، وما بعدها. كانت أولى الترجمات العربية قبل نجيب محفوظ إلى العربية هى ترجمة كتاب «تلخيص الإبريز فى تلخيص باريز»، لرفاعة رافع الطهطاوى، وهى الترجمة التى قام بها رستم نسيم عام 1830 فى القاهرة.

 

لكن مع فوز نجيب محفوظ حدث تحوُّل خطير، فبعد أن كان السّائد هو ترجمة الأعمال الكلاسيكيّة كمعلقات الشّعر الجاهلى، وكليلة ودمنة، والمقامات لبديع الزمان الهمزانى، وغيرها، حدثت النقلة بترجمات جورجى زيدان، وجبران خليل جبران، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وصولاً إلى ترجمة روايات حديثة ككتابات أحمد مراد وعلاء الأسوانى الأكثر شعبية من كتاب الأدب الرسمى، وأيضًا كتابات من قبيل تاكسى حواديت المشاوير لخالد الخميسى، والطابور لبسمة عبد العزيز مؤخرًا. 


لقاء السّحاب

تحدثت الروائيّة التركيّة أليف شفق صاحبة الإصدارات الأهم؛ قواعد العشق الأربعون، وشرف وبنات حواء الثلاثة، وصولاً إلى روايتها «10 دقائق و38 ثانية فى هذا العالم الغريب» والتى وصلت إلى القائمة القصيرة، جائزة المان بوكر؛ عن علاقتها بنجيب محفوظ، وبداية اللقاء بينهما. وقد وصفت نجيب محفوظ فى عنوان مقالة لها بأنه «كاتب ممزق بين الشوق إلى الحرية والولاء للبلد» كما أنها وصفته بأنه «كاتب سياسيّ من طراز رفيع». 


عن بداية لقائها بأعمال نجيب محفوظ، تقول إنه جاء صدفة أثناء دراستها فى الجامعة، كانت تتردد على بائعى الكتب القديمة فى السوق الكبير بإسطنبول، وكانت صفات هذه البائع غريبة بعض الشيء؛ حيث أنه يختار زبائنه، لدرجة أنه كان لا يتوانى عن طرد الزبائن من داخل محله، إذا فشلوا فى اختباراته ومدى معرفتهم بالأدب والتاريخ والعلوم والفلسفة، وبينما هى تتجوّل داخل المحل القديم الذى كان «سقفه منخفضًا ورائحة عفن تخرج من أرضياته الخشبية» كانت متوجسة مِن أن يطردها هذا البائع الخمسينى، حادّ الطّباع، وتصفه بأنه كان «يرتدى نظارات سميكة، أمّا قصة شعره لم تكن مألوفة فى أى عصر من العصور، يحب الكتب حقا ويكره البشر على حد سواء». ففاجأها بسؤال: «هل قرأتِ لمحفوظ؟» 


لم يخرج جوابًا من فمها، خشيت أن يطردها من المحل، فقط هزّتْ رأسها فى ارتباك، لأنّها لم تكن تعرف عمّن يتحدث؟ وما إن انتهت من جولتها واتجهت لتدفع ثمن ما اشترته، أخرج كتابًا وأعطاه لها قائلاً: اقرئى هذا؟


 العالم السَّاحر

كان الكتاب الذى أعطاه البائع لها، هو رواية «زقاق المدق» (1947) لنجيب محفوظ، بترجمة ليلى تونجوتش بصمجى، وكانت الترجمة مأخوذة عن الإنجليزية وليست عن العربية.


تحكى أليف أنها لم تقرأ الكتاب فور الحصول عليه، وإنما تأخرت القراءة إلى ما بعد الشهرين، وما إن بدأت فيه، حتى اكتشفت عالمًا غنيًّا وساحرًا، وبدأت معالم هذا العالم تتضح حيث القاهرة بأحيائها الشعبية وحاراتها وأسواقها وأناسها، كالعلائلات والباعة المتجولين، والشعراء، وصانعى الثقاب، والحلّاقين، والمتسوّلين وغيرهم - وهو ما ذكّرها بإسطنبول العامرة أيضًا بشوارعها وأحيائها والتى كما ذكرت كانت «أيضًا مليئة بهذه الشوارع والأحياء التى لم تتمكن من مواكبة التغيُّرات المحيرة المحيطة بها، وبقيت معزولة ووسطية، سواء داخل المدينة أو فى محيطها.»


قرّب لها نجيب محفوظ هذا العالم، حتى شعرت أنها تعرفهم وتألفهم، فقد أظهر لها محفوظ «ما هو غير عادى داخل العاديين، وغير المرئى داخل المرئى، والعديد من الطبقات تحت السطح»، فكتاباته كما رأت «مثل القاهرة نفسها، نابضة بالحياة وقوية وهادئة»، منذ هذا اللقاء الذى تمّ فى مكان صاخب ومريب، لم تفارقها كتابات نجيب محفوظ، وواصلت قراءته باللغة الإنجليزية، وأهم ما لفت نظرها فى أعمال محفوظ، وهو الجانب الذى كان يتوارى عن إظهاره محفوظ نفسه فى أحاديثه وحواراته، أقصد الجانب السياسى عنده، فتقول إنه كان «كاتبًا سياسيًا كما صنفته»، كما تشير إلى العلاقة الشائكة بين الكُتَّاب فى العالم الثالث والسياسة، ومن ثمّ فهو «كان يعلم أن الروائيين من الأراضى المضطربة لم يكن لديهم ترف كونهم غير سياسيين». 


كانت هذه الرواية (أى زقاق المدق) نافذتها على عوالم محفوظ المتعدّدة، فقرأت أيضا مقابلاته باهتمام. وتتطرق فى جزء من مقالتها إلى ما تعرّض له محفوظ من اغتيال جسدى عندما اعتدى أحد الشباب المارقين عليه، وأصابه فى عنقه عام 1994، وأَثَر هذه الحادثة عليه، التى أصابته بالحزن لعدم قدرته على مواصلة كتاباته كما كان من قبل، وأيضًا أشارت إلى الاغتيال المعنوى الذى تعرّض له بمصادرة الكثير من كتاباته فى العالم العربي.(وأعتقد أنها كانت تشير إلى رواية أولاد حارتنا، فأعمال محفوظ لم تتعرض للمصادرة باستثناء هذه الرواية التى أثارت زوبعة كبيرة وقت صدورها).


أليف على خط النار

فى ظنى أن استدعاء أليف شفق لنجيب محفوظ فى هذا التوقيت (من نشر مقالتها قبل عامين) ليس صدفة، وإنما جاء لأسباب تتعلّق بأليف شفق نفسها التى كانت تمرُّ بأزمة، لا أقول مشابهة لنجيب محفوظ، وإنما تتوازى معها فى ردّة الفعل، فهذا الاستدعاء يأتى كنوع من المقاومة باعتبارها كاتبة تنتمى إلى ذات البقعة التى كان يعيش فيها نجيب محفوظ، وهى منطقة الشرق الأوسط المتأجّجة دومًا بالصراعات، والأهم ما يعانيه كُتّابها من حصار ومطاردة، ومحاكمات وتهديد بالاغتيال. 


ومن ثم توازى بين المصير الذى تعرّض له نجيب محفوظ من شاب موتور، اتّهمه بالإلحاد، وما تعرض له الكاتب والشاعر والمسرحى الساخر عزيز نسين، عندما قرّر أن ينشر كتاب «آيات شيطانية» لسليمان رشدى باللغة التركية، كدفاع عن نفسه أولاً، وحرية التعبير ثانيًا، فهاجمه الأصوليون عبر أحد الغوغائيين فى مدينة سيواس الأناضولية، التى كان متواجدًا بها لحضور مهرجان ثقافى، وقد تمّ إحراق الفندق القاطن به، وهو ما خلَّف خسائر كثيرة فقتل 35 شخصًا، معظمهم من الشعراء والكتاب والموسيقيين والراقصين. 


وكأنّ لسان حال أليف يقول إن المتعصبين استهدفوا «الفن والأدب والكلمات والملاحظات ودمروا حياة الأبرياء»، ومن ثمّ ما تتعرّض له ليس بجديد، ولن يتوقف ما دام هناك كُتّاب يقفون فى وجه الأصولية والاستبداد، ويهتكون زيفها بأسنة أقلامهم، أو حتى بانحيازهم لمعسكر الرفض، والأهم أنه لن يوقفها عن دفاعها عن قضايا الرأى. 


فدومًا أليف على خط النار، فآراؤها تُقابل بهجوم شديد، وملاحقات قانونية، بل وصل الأمر إلى اتهامها بانتحال أعمالها، فعندما صدرت روايتها «عشر دقائق وثمانى وثلاثون ثانية فى هذا العالم الغريب» اتهمت من قبل مرتادى موقع التدوينات القصيرة (تويتر) بأن النص منتحل من رواية «العاهرات لا يُخدعن» للروائى التركى كهرمان تشايرلى، والتى صدرت عام 2007. التشابهات التى ذكروها لا تقتصر على الحكاية وفقط حيث عالم العاهرات، بل ثمّة تشابهات فى مشاهد الرقص الشرقى، والمقبرة، وإن كان باختلافات بسيطة، وأيضًا فى استخدام أسماء الشخصيات مع تبديل فى الحروف، كما أن شخصيتى (أيسال وأدن) عند كهرمان تقابلهما (ليلى ودلي) عند شفق.


الغريب فى الأمر أنَّ المؤلف كهرمان، خرجَ وأشاد بكتابات شفق وخصوصًا هذه الرواية، مرتين: الأولى على موقع الصُّور انستجرام بقوله : لم أقرأ  أى روايات عن الحبّ من سنوات طويلة  مثل هذه الرواية، إنها بنفس قيمة روايات (الصوفى ومحرم)، والمرة الثانية فى موقع التدوينات القصيرة تويتر قال: «أليف شفق كاتبة أحبها وأحترمها كثيرًا، لا يوجد بين كتابها الأخير «عشر دقائق وثمانى وثلاثون ثانية» وكتابى «العاهرات لا يُخدعن» أى تشابه أو انتحال. وإن الادعاء بانتحال أليف شفق، لهو أمر مقيت ومقزز»


وتنهى أليف شفق مقالتها عن علاقتها بمحفوظ، بقولها: «إن أعمال محفوظ تؤكّد وتثبت حبُّه الذى لم يتزعزع للقاهرة وأهلها، وبما أن هذه المدينة، هى التى شكّلتْ نجيب محفوظ، ففى المقابل قام هو بإحيائها فى كتاباته». ومن المفارقات التى تظهرها، والتى تعتبرها من التحدى الوجودى، وقد تركت وقعًا عميقًا من نفسها، أن محفوظًا كان بشكل واضح تواقًا للحرية والاستقلال الذاتى، ولكن كان له – أيضًا – ولاءٌ واضح وحنين لموطنه الذى أنكّر عليه هذه الحقوق البسيطة.


تشدّد أليف على معنى مهمّ استلهمته من إحدى قصص نجيب التى عُثر عليها فى أوراقه، المعنى التى تشدّد عليه هو أننا نحتاج إلى بعضنا البعض، حتى لو كنا نعيش فى أماكن مختلفة، فالتوحد يذيب حدود اللغة والجغرافيا وأيضًا الثقافات، فكما تقول: «كل واحد منا يحتاج إلى الآخر. يحتاج الكتّاب والقرّاء من البلدان التى شهدت ما يكفى من البؤس والظلم والحزن إلى بعضهم البعض، تماماً بنفس الطريقة».

اقرأ أيضا | أحمد أبو الغيط يهنئ جوخة الحارثي بفوزها بجائزة المان بوكر الدولية