عبد الهادي عباس يكتب: سيدي القاضي.. حضرات المستشارين!

عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس

أمواج من العيون المتلاطمة تتجه إلى مكان واحد، في انتظار لحظة الأمل المنبثق من العدم، لحظة انبلاج ضوء القاضي يدلف من ذلك الباب الموصد إلا من قفزات لحظية لسكرتير الجلسة المتحرك بخفة قط فرعوني نحيف، تقفز معها قلوب المتهمين وذويهم، وترهف آذانهم السمع لتمتماته التي لا تقول جديدا، لتنهد الأجساد المتعبة على الدكك الخشبية للمحكمة في همود مستسلم للرطوبة اللزجة، ولحرارة بدايات سبتمبر اللئيمة؛ يعلو الأمل في صدور الحضور عند كل طلة ثم يخبو كبرق خاطف، كصرير مراوح السقف المتهالكة، درجة ألم حضرة الدكتور المتهم أكبر من الأمل في دفقات هواء تُجفف العرق.

وجدت نفسي على حافة السرور رغم كل تلك المعاناة، فأنا أبحث في الأعماق، في الكوامن الخفية عن الأعين، وهذا المكان فرصة ذهبية لتأمل تلك النماذج البشرية نادرة الوجود، إذ قد يتحول البني آدم هنا إلى قرد خبير في التنطيط من غصن إلى غصن، وقد ينقلب إلى ضبع غادر أو ذئب ضار فينقض على فريسته ولا يتركها إلا عظاما بالية، وقد تراه جاموسا بريا تحمل عيناه مسكنة الفقير المعدم وهو سميك الجلد عديم الشعور، أو تجد خليطا بين نمر وثور أو بين حمار وحشي وطاووس، وما شئت من تمازجات الأعضاء والرؤوس؛ المهم أنك بالنسبة إلى هؤلاء جميعا مجرد زبون، وافد جديد، حالة، قضية، أو ما شئت من مسميات تكون نتيجتها أنك ستدفع بالتي هي أحسن، أو بالتي هي أسوأ، لا فرق، لا بد من "تقليبك" على سفود التسول الرمزي، دون مراعاة لسنك أو حالتك الاجتماعية، ستدفع إتاوات لحمدي والشناوي، حتة بعشرين أو بخمسين أو بمئة، يتم التحديد حسب ملابسك، وستدفع لعمال البوفيه الذين يُلقون عليك بزجاجات المياه الساقعة على طريقة متسولي المواصلات، وثمن الزجاجة الواحدة سبعة جنيهات، أكثر من ضعف ثمنها، وكأنك تقضي الويك إند في الجونة، وليس في محكمة، العدل عنوانها والرحمة مدخلها، وأنت فيها ضعيف شريد.. يضغط عليك حمدي والشناوي ويتناوبان إرهاقك على طريقة الضابط الطيب والضابط الشرير، أو على طريقة بيبو وبشير، هجوم ودفاع، حتى تفتح مخك أو تفتح محفظتك؛ إنني أعذرهما وآسى لهما، فمعاملة الجمهور صعبة جدا ومخالطة فئة المجرمين أو المتهمين تحتاج إلى صبر جميل وروح رويح، لكن استمراء الهبش وتحليله جريمة نفسية وتسول مرذول، إذ سيدفع المتهم وأهله جميعا عند البراءة ما يملكون عن طيب خاطر وليس قبل ذلك، فلا تتعجل الإكرامية وانتظر رزقك سيأتيك مغلفا بابتسامة ود ومحبة، بدلا من أن تأخذه مشبعا باللعنات؛ وارحم من لا يجد حتى ثمن كفالة إخراج ابنه من الحبس.

يجلس الدكتور (حسام) مفترشا هموم الدنيا، خائفا يترقب؛ إنها المرة الأولى التي يشتبك فيها مع القانون، أمضى حياته يمشي داخل الحيط وليس بجواره، كقطار لا يعرف غير الخط المستقيم، لا يعرف المداراة والمناورة، يُحبه كل من يُحيط به وكأنه بابا نويل المنطقة، لا يُدقق مع المرضى الذين يصرفون الدواء من صيدليته الموجودة في مكان شعبي بأحد أحياء حدائق الزيتون، رغم أنه يسكن في مدينة نصر، ولكنه يُحب عمله ويحترمه ويعتقد دوما أنه صاحب رسالة، وأنه لا تجارة في أمراض الناس، وأن توفير العلاج أبسط حقوق الإنسان وأولاها بالاهتمام، يحب الرئيس والدولة لأنه يُحب النظام، ويكره الإخوان لأنهم خروج على وتيرة النظام والهدوء الذي يعيش فيه؛ كل أموره الإدارية منضبطة بصورة دقيقة جدا، إذ إن مخالفة القانون مخالفة للشرع، ولهذا فكل فواتيره وترخيصاته وضرائبه وتأميناته يتم التعامل معها في وقتها تماما دونما تأخير؛ حتى كانت لحظة الابتلاء حين وجد أحد أمناء قسم الشرطة يُخبره أن عليه قضية غرامة تم الحكم فيها بعشرين ألف جنيه لافتتاحه محلا بدون ترخيص؛ هكذا فجأة تنقلب الدنيا ويتغير وجه العالم وتبدأ مأساة اللف والدوران بين المحاكم، لتتبع محضر متضارب يحمل في نفسه وسائل هدمه؛ وإذا كانت القضية بسيطة عند المحامين أو معتادي المحاكم، فإنها ليست كذلك عند أولئك الذين لا يعرفون طريقها ويستعيذون بالله من طبيب الدنيا ومحاميها، خاصة عند الدكتور حسام الذي حصل بالفعل على عدالة البراءة، ولكن نفسه ستحتاج إلى شهور لتعود إلى سيرتها الأولى.

"العمولة" و"الإكرامية" و"الحلاوة"، وغيرها من مسميات التسول المقنع في مؤسساتنا لم تعد تليق بجلال جمهوريتنا الجديدة، خاصة أن وزارة العدل تبذل جهدا كبيرا ومُضنيا لتحقيق عدالة ناجزة في المباني والنفوس على السواء لاحتواء هذه الهنات الهينات عن طريق مشروع ميكنة المحاكم المصرية، للقضاء على لفافات القضايا المربوطة بدوبارة ومركونة فوق دواليب المحاكم في صورة بدائية قبيحة، وكذلك للقضاء على "كرمشات" الحتة بخمسين في يد الموظف لتصوير ورقة، وهو أمر سينقلنا إلى مستقبل أكثر عدالة وتحضرا؛ غير أن ذلك يحتاج إلى سنوات من العمل المتواصل لإصلاح المبنى والمعنى، لنرى البهاء الحقيقي والمعدن النقي لمنظومة: "سيدي القاضي.. حضرات المستشارين".