نشوة أحمد تكتب :صباح الخير يا يافا: رواية ترصد معاناة عرب 1948

نشوة أحمد تكتب :صباح الخير يا يافا: رواية ترصد معاناة عرب 1948
نشوة أحمد تكتب :صباح الخير يا يافا: رواية ترصد معاناة عرب 1948

الكلمات حرة  والكاتب طليق، لا توقفه أسلاك شائكة ولا يمنعه جدار عازل، هكذا انهارت كل الحواجز أمام الكاتب المصرى  أحمد فضيض، ليوثق عبر روايته «صباح الخير يا يافا» - الصادرة أخيرًا عن دار الرافدين فى  بيروت والحائزة على جائزة الدار- واقعا مريرا يعيشه فلسطينيو الداخل، فى  مدينة يافا، وهم من تبقوافى  المدينة بعد نكبة 1948،بعد قيام سلطة الاحتلال بتغيير التركيبة الديموغرافية لسكانها، عبر تهجيرهم القسرى.لتتحول الأغلبية الفلسطينية، التى  كانت تقترب من 100 ألف نسمة، إلى أقلية عربية، لا تتجاوز 20% من سكان المدينة. تتعرض لسيناريوهات ممنهجة من الإذلال والافقار والتهجير. 


عبر إهداء ذى  مغذى؛ بدأ الكاتب رحلته.ليعلن عبر هذه التوطئة، عن الهوية الفلسطينية ليافا، رغم محاولات طمسها»إلى آدم جبر ابن الثلاثة أعوام، والذى  بعد أن تولت عنه نظرة الدهشة الأولى إلى بحر يافا، نظر إليه فى  تحدٍ، ووضع يديه على جانبى  خصره قائلاً: (هذا البحر لي) وإلى التى  ضحكت إليه عن قرب، مؤيدة كلماته، إلى رئام عساف» .


كانت التوطئة الثانية فى  اختيار الكاتب اسم شخصيته المحورية «يافا». ليبرز فى  مستهل الرحلة، تناظرا بين الشخصية وبين المدينة، فكلتاهما جميلتان، أبيتان، قويتان، وفلسطينيتان أيضًا.


أخلص فضيض فى  نقل مفردات البيئة الفلسطينية، ما عزز من واقعية البناء؛ بداية من اللهجة، مرورا بالعادات والفلكلور، الغناء، الأزياء المطرزة، وانتهاءً بالأكلات ذات الطابع الفلسطيني، ورغم اعتماده اللغة الفصحى؛ استخدم بعض العامية الفلسطينية التى  أنعشت النسيج.

فضلاً عن النكهة الشامية للغة، والتى  بدت حتى مع استخدامه الفصحى. وكانت فى  معظمها لغة بصرية جسّد عبرها وعبر تقنيات الوصف الإبهاري؛ ملامح مدينة يافا وساكنيها من الفلسطينيين، وتفاصيل حياتهم اليومية.


واقع مأزوم
يعيش فلسطينيو يافا واقعا معقدا ومأزوما، منذ استيلاء عصابات «الهاجاناه» الصهيونية على المدينة 1948، بمساعدة الانتداب البريطانى. وتهجير أهلها الأصليين. إذ استولى المحتل على بيوت المهجرين. وفرض واقعا جديدا على من رفضوا مغادرة المدينة.

وأصروا على البقاء فيها.بحيث لم يعد بمقدورهم امتلاك منازلهم. وباتت السكنى فيها دربا من المعاناة، لقيام «عميدار» برفع أسعار الإيجارات، وهذا ما رصده الكاتب بعين السرد. إضافة لما رصده من مشكلات أخرى، مثل ضيق سبل العيش أمام الشباب الفلسطينى، وقلة فرص العمل، والتمييز الصارخ ضدهم، لا سيما فى  ظل قانون القومية، الذى  يضر ضررا مباشراً بعرب 1948.


وعبر واقعية الأحداث، استطاع الكاتب دحض أكذوبة الديمقراطية المزعومة، ودولة القانون، التى  تدعيها الحكومة الإسرائيلية، والتى  تغض الطرف عن الجريمة فى  الأحياء العربية، وما ظهر بهذه الأحياء من تشكيلات عصابية.»القتل صار هنا مثل السلام عليكم.

والذى  يحدث يقول أن هنالك عصابات وقد تسلمت أسلحة، فنزلت تصفية بعضها فى  بعض» وهى  كذلك لا تردع مواطنيها اليهود، من الاعتداء على العرب. ولا تلتزم شرطتها بالقانون، حين تقوم بالقبض على مواطنين من فلسطينيى  الداخل، بل تمارس كل أنواع الانتهاكات الصارخة ضدهم، والتى  تصل فى  كثير من الأحيان إلى حد القتل.


محاولات التعايش
رصد فضيض محاولات التعايش، التى  انتهجها ودعا إليها، بعض من اليهود والعرب فى  يافا. وحاول عبر أسلوب الراوى  العليم، الولوج إلى دواخل العرب الذين يناصرون هذا التعايش.

وفى  المقابل؛ أولئك الذين يرفضونه. لكنه فتح باباً للتأويل يشى  بأن محاولات التعايش دائماً ما تؤول إلى الفشل. فالملهى  الذى  يمتلكه عربى  «الأنا لولو»، ويمثل أنموذجا للتعايش، يشهد فى  النهاية اعتداءً، قام به أحد الإسرائيليين ضد الشاب الفلسطينى  «بحر» محاولاً قتله، ليس لشىء سوى أنه عربى! .


الصراع والتناقضات والسخرية
جسد فضيض الصراع التاريخى  على الهوية، مبرزا سلوكيات المحتل الإسرائيلى، ومساعيه لطمس الهوية والثقافة الفلسطينية. بينما يحاول فلسطينيو الداخل التمسك بهويتهم وتاريخهم.ثم ولج إلى العوالم الداخلية للشخوص.

وأضاء صراعاتها الداخلية. ف»خالد» يؤيد يوسا، يتأثر بفكره العلماني، الذى  يرى ارتباطاً بين انتشار أى  دين وبين الحروب، بينما يستند إلى القرآن والسنة لتعزيز أراء بعينها ورفض أخرى.


والأب «سالم» يعيش صراعاً بين رغبة فى  الحياة، وبين الرغبة فى  الانتقام.فى  حين تعيش يافا صراعاً بين قبول وضع ظالم مشوب بالفقر وقلة الحيلة، وبين الرفض والغضب والمقاومة. ثم تعيش صراعاً أخر، بينالخوف والجسارة.


وفى  طيات هذا الزخم من الصراعات، جسد الكاتب ألواناً من التناقضات، التى  تعكس واقع عرب 1948، فبينما يجارى  الأبناء الحياة الحديثة فى  تفاصيل حياتهم اليومية، كاستخدامهم مواقع التواصل الاجتماعى. يميل جيل الأمهات إلى الموروث من التفسيرات الغيبية، والتطير فى  بعض الأحيان.

وبرغم ما يعيشه اليافاويون من واقع مأزوم، ومعاناتهم فى  مجتمع يزعم الديمقراطية، بينما يسلبهم حقوقهم فى  حياة عادلة؛ فلا يزالون يحبون الحياة، يتحلون بالأمل يقيمون الأعراس، يمارسون عاداتهم فى  الرقص والاحتفال، يغنون أغانيهم التراثية التى  تتسم بالتناقض ذاته.

فى  إيقاعها الصاخب؛ بينما تحمل كلماتها معانى  الحزن والألم، كما فى  أغنية يا «ظريف الطول».ورغم عمق آلامهم ما يزالوا يضحكون ويسخرون وهذا ما منح الكاتب مجالا؛ ليس لإبراز مزيد من التناقضات وحسب، ولكن لإنعاش النسيج ببعض الفكاهة واللمحات الساخرة.


المقابلة ودحض الزيف
اعتمد الكاتب تقنية المقابلة بين شخصيتى  الإسرائيلى  والفلسطينى، ليعيد إنتاج الحقيقة التى  زيفتها الآلة الدعائية الصهيونية، التى  وصمت المقاومة بالإرهاب. وجملت التعصب والتعنت  تجاه الفلسطينيين.فالإسرائيلى  لا يشترى  من التاجر العربي، ينتج قصصاً للأطفال عن الهولوكوست فيغرس فيهم بذور العنف والكراهية.

فى  حين أن سالم الفلسطينى  يصادق طفلا يهوديا، هاجر من أمريكا إلى يافا، ويكن له ألفة ومحبة صادقة. يجلب له قصة السندباد البحرى  التى  تعزز حب السفر والمغامرة والاكتشاف والصداقة. ويقيم «بحر» علاقة حميمية مع يهودية أوكرانية ويعتزم الزواج منها.كذلك تعبر علياء «صاحبة المقهى» فى  حى  البلدة القديمة؛ عن رغبة فى  التعايش المشترك. فى  الوقت ذاته لم يقع الكاتب فى  فخ التعميم، ولم يلصق صفات التعصب والعداء بعموم اليهود. وإنما حرص على إبراز الجانب الإنسانى  والمتسامح لدى بعضهم.

وجسده فى  شخصية تانيا التى  أحبت بحر، وباعت منزلها بعد موته، من أجل تحقيق حلمه وتخليد ذكراه. وأبرزه أيضًا حينكسر التدفق الأفقى  للسرد، وعمد إلى الاسترجاع، عبر استعادة بطلته «يافا» قصة العائلة اليهودية، التى  وجدتها عندما ضاعت طفلة من أخيها، وأصرت على البقاء معها فى  قسم الشرطة، حتى عثر عليها أهلها. 


ظلال سياسية وحمولات معرفية
مرر الكاتب عبر السرد بعض الرؤى السياسية، والنقد الذاتي؛ لانقسام الفلسطينيين وتخاذل السلطة الفلسطينية والتآمر ضد المقاومة.كما مرر حمولات معرفية كثيفة اتسم بعضها بالطرافة، كما فى  استدعائه «عادات الزفاف فى  أوكرانيا». ورصد عبر بعضها تاريخ النكبة، وما فعلته عصابات «الهاجاناه»؛ من تشتيت الفلسطينين وتهجيرهم.

ومقاومة رموز فلسطينية، مثل جورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. واستعاد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التى  كانت شرارتها؛دهس أربعة عمال فلسطينيين بحافلة يهودي، ما أدى إلى مقتلهم. واستعاد أيضاما حدث من إرهاب ومذابح فى  دول أوروبية مثل مذبحة فيوميتشينو فى  روما على أيدى  جماعة «أبو نضال».


التناص
اعتمد الكاتب تناصا مباشرا عبر استدعائه الخطب الدينية المسجوعة لشيخ المسجد، والشعر العربى  القديم من الكتب التراثية، وقصص صحابة الرسول من الموروث الدينى  «أبو هريرة». وزاد عبر هذا التناص من جمالية السرد. كما مرر عبره؛ رؤى فلسفية مفادها وجوب تفنيد القديم؛ لتمييز الجيد من الرث. وكذا ترسيخ المبدأ، فالفقر والجوع ينبغى  ألا يدفع الإنسان إلى أن يحيد عن منظومة القيم. كذلك طرح –ضمنا- تساؤلات فلسفية، حول جدلية الموت والحياة والقدر والمصير.


 بدت ثمة ثغرات سردية، فى  بعض ما ساقه الكاتب من أحداث، لاسيما فيما يتعلق بشخصية سعاد التى  نوه عن شرورها، دون أن يفسر ما أحاطها به من غموض. والشى  نفسه فى  استباقه بما تعرضت له يافا فى  طفولتها، دون أن يعود إلى تفسير ما استبق به.وهى  فجوات يصعب ملؤها على عكس النهاية المفتوحة التى  وفق فيها إلى حد بعيد، إذ منح القارئ عبرها؛ حق تقرير مصير الشخوص.

اقرأ ايضا | شوقي عبدالحميد يحيى يكتب: دانيال يحارب الطواحين في مدينة الخيوط