قراءة في كتاب قبل النكسة بيوم:موجهات الخطاب السردى وانحيازاته

كتاب قبل النكسة بيوم
كتاب قبل النكسة بيوم

محمد سليم شوشة

إن تداول الخطابات باختلافها بل بتعارضاتها أو تناقضاتها أحيانا هو بذاته ظاهرة دالة على الحالة الصحية للمجتمع، ودالة كذلك على قدر ما يسود المجتمع من قيم الديمقراطية والانفتاح الفكرى والثقافى ومؤشرات الصحة والتواصل الإيجابى بين أفراد هذا المجتمع، وكما يقول ميشيل فوكو فى كتابه نظام الخطاب، فإنه بدل المعرفة المحتكرة والسرية فى الاستبداد الشرقى تقدم أوروبا المثال المعاكس المتمثل فى التواصل الشمولى للمعرفة والتبادل اللامحدود والحر للخطابات. ولهذا فإنه من إيجابيات الحالة الثقافية التى نعيشها فى مصر بعد 30 يونيو أن تكون هناك خطابات أدبية تمتلك هامشا أرحب من الحرية ومن البحث والتنقيب أو حتى مجرد القدرة على التعبير عن الغضب أو الانفعال حتى ولو كان فرديا. 

هذا ما يتمثل ويتجسد بقوة فى رواية قبل النكسة بيوم للروائى الدكتور إيمان يحيى وهى رواية دالة على عدد من الظواهر وفيها نقاط كثيرة جديرة بالتأمل والبحث والدراسة لعدد من الأسباب. هذه الرواية نموذج لخطاب سردى مشحون بالانفعال والغضب وموجه بحالة من الحزن والضيق والألم الممتد لعقود منذ نكسة يونيو 67 وحتى اللحظة، ألم ربما لم تخففه أو حتى تهون من آثاره حرب أكتوبر واستعادة الأراضى المصرية والانتصار على إسرائيل، هذه التجربة الروائية الثرية والمهمة تكشف عن تحول ثقافى مهم لدينا يرتبط أولا بهامش الحرية المتاح لكافة الخطابات وبخاصة الخطاب الأدبى الذى هو بالأساس ذو هوية جمالية وفنية ترتبط بالمتخيل والمجازى والإبداع بدرجة أكبر مما يرتبط بالحقيقى أو التاريخى مثل الخطابات العلمية أو الأكاديمية. وثانيا فإن هذه التجربة الروائية موجهة كذلك نحو أسئلة مهمة ترتبط بعلاقة الفن بالحقيقة العلمية أو التاريخية، وكذلك موجهات الخطاب ورسائله أو أهدافه ونزعة المؤلف أو منشئ هذا الخطاب وأنه لا يمكن أن يكون هناك خطاب برىء تماما، وهذا أمر طبيعى ويجب أن نتفهمه وأن الخطاب بشكل حتمى وربما بدون تخطيط يكون منحازا أو نابعا من موقف معين أو مدفوعا فى إنشائه من انحيازات معينة. ولهذا فإن هذه التجربة ومثيلاتها مهمة لكونها مبدئيا توجه إلى مزيد من الاهتمام بعلم تحليل الخطاب وتطوير ممارسات وإجراءات هذا العلم وتطبيقاته على نحو يتسم بالطابع العلمى ويتجاوز المقولات السطحية والمكررة السائدة. وأول مداخل هذا التحليل يتمثل فى سؤال الحقيقة التاريخية فى الخطاب الروائى عموما، وهل يعنى استقصاء كم هائل من المعلومات والحقائق التاريخية أن الخطاب الروائى لا يطرح إلا الحقائق وأنه برىء تماما من أى مقاصد أخرى غير الحقيقة التاريخية؟ وهو سؤال يدفع ناحية النظر فى أساليب الخطاب واستراتيجياته مثل الانتقاء والحذف أو الاختزال والاختيار وتشكيل النموذج، وهى كلها أساليب وتقنيات لا ترتبط بالطابع الجمالى أو بالاستراتيجية الجمالية وحسب ولكنها بالأساس مرتبطة برسالة الخطاب أو ما ينتج من دلالة ومعان وتلميحات. 

هذه الرواية من الناحية الجمالية مهمة وتمثل لبنة مهمة فى مشروع إيمان يحيى السردى المتكون من ثلاث روايات هى الكتابة بالمشرط والزوجة المكسيكية وهذه الرواية الجديدة؛ «قبل النكسة بيوم». وهى مزيج من السرد الخبرى والسرد المشهدى والتضفير المحكم بين الماضى والحاضر ومستويات مختلفة من الأزمنة، وتطرح نماذج إنسانية تتسم بالحيوية والتكامل الإنسانى والنبض والديناميكية وتتحرك فى فضاءين زمانى ومكانى يتسمان بالثراء والامتداد والتنوع والتشعب، وتنقب فى مساحات خاصة بها وتبدو رواية مشغولة أو مهمومة بأسئلتها الخاصة وهى كلها أمور تحسب لهذه الرواية وتنضم لمجمل سمات سرد إيمان يحيى الذى يبدو مدفوعا فى مجمله بانحيازات وانشغال بقضايا عامة مهمة وأسئلة ذات طابع إنسانى منها ما يرتبط بالسياسة أو بالعلم والأمانة والمهنية أو ما يرتبط بالثقافة والتأريخ والقضايا الوطنية أو إشكاليات التطور أو أزمات التأخر أو التراجع الحضارى. 

بعد البداية غير الموفقة فنيا فى تقديرنا حيث يهيمن عليها السرد الخبرى فى صوت كريمة نجد أن سرد الرواية هيمن عليه تماما أسلوب إيمان يحيى الأقرب إلى المشهدية والاستراتيجية السينمائية وكنت قد كتبت عن هذا الأسلوب لديه فى أكثر من مقالة وهو سمت يتميز به ويهتم فيه بأدق التفاصيل الصغيرة التى تجعل القارئ كما لو كان يشاهد بعينه هذه العالم الروائى يتحرك على شاشة أو يشارك الشخصيات الحضور فى هذا العالم ويعيش بينهم، فيتابع الأنشطة اليومية للشخصيات من العمل والمشاركة السياسية أو الاجتماعات أو اللقاءات الرسمية وغير الرسمية أو مقابلات الأصدقاء على بعض المقاهى أو الأماكن العامة فى وسط البلد أو فى معهد إعداد القيادات فى حلوان أو الحديقة اليابانية أو فى الإسكندرية فى الجامعة أو بعض المطاعم الشهيرة أو الشواطئ أو غيرها من الأماكن، والأهم أن هذا السرد المشهدى يأتى مشحونا بحالات إنسانية نابضة ويأتى ضمن ترهين خاص بالسياق الدرامى أو حالات الانفعال أو الصراع الذى تعبر عنه الرواية، والحقيقة أن هذه النقطة عن السرد المشهدى تنقلنا إلى نقطة أخرى جمالية مهمة تتمثل فى أن غالبية شخصيات الرواية تقريبا تعيش حالات مختلفة أو متنوعة من الصراع؛ إما الصراع من أجل تحقيق الذات أو الصراع من أجل تحقيق المبدأ السياسي، وأشكال أو أنماط الصراع على السلطة، أو الصراع من أجل الحب أو البحث عن السعادة أو مجابهة العادات والتقاليد وصور الرجعية، أو غيرها من الأمور التى تشكل نسيجا من التعارض فى المصالح الذى يجعل الرواية على قدر كبير من الحيوية وتبدو مشحونة بأكبر قدر من التوتر والطابع الحركي.

فباستثناء صفحات البداية القليلة من ص7 حتى ص12 التى تكثفت فيها الأخبار الإجمالية عن كريمة وتاريخ عائلتها نجد أننا بعد ذلك أمام الأسلوب السردى السينمائى المعهود لدى إيمان يحيى والذى صار يتميز به، وكنت أتصور أن الرواية لو كانت قد بدأت من المشهد الراهن المحدد القسمات بين الجدة كريمة وحفيدها وأحداث يوم الجمعة هذا والمحددة ملامحه بدقة من الصفحة 12 بداية من فتح شباك شقتها المطلة على المقطم وبداية حوار حفيدها الانفعالى عن الغضب الثورى المتصاعد ثم العودة إلى الوراء تدريجيا إلى المعلومات التعريفية المتناثرة عنها لكانت بداية الرواية أوفق وأكثر روعة واتساقا مع بقيتها.

>>>

من ناحية الشكل الفنى هناك الكثير مما يمكن تناوله فنيا فى هذه الرواية وبخاصة فيما يتصل بسمات المكان والزمان والعودة إلى التقاليع وسمات العصر السابق وأنماط المعيشة فيه ونقل حياة كاملة بنبضها وحيويتها وعبر مذاق خاص فيه حماس الشباب واندفاعهم وتصوير إيقاع المجتمع بشكل كامل فى حيويته واندفاعه نحو الإنجاز والتعليم والطموح وغيرها من الأمور مثل حالات من القلق السياسى أو التشكك والتخوف لدى بعض الفئات أو الأفراد، ورصد تحولات المجتمع بكل دقة وبخاصة فيما يتصل بالأسعار ونتائج الخطة الخمسية الأولى وتعثر الخطة الخمسية الثانية وإيقاع الحكومة والتحديات التى كانت تجاببها، وتلميحات إلى الصراع الداخلى أو قدر ما يمكن أن يكون حاصلا من التعارض فى المصالح بين رجال الثورة وقادتها وهكذا يكون للرواية منجز آخر حول جمعها بين إيقاع المجتمع فى قاعه أو طبقاته مع إيقاعه وحركته فى مستوى السلطة أو القمة أو الربط بين هذه الأطراف التى تبدو متباعدة أو كان يصعب السيطرة عليها فى كثير من الأعمال الروائية الأخرى، فنجد أن بعض الروايات إذا ما اهتمت برصد المجتمع فقط تعجز أو يصعب عليها أن تتناول المكون السياسى كذلك مع هذا الرصد الاجتماعي، أما هنا فنجد أن هناك مزجا بين ما هو اجتماعى وسياسى وثقافى ودمجهما بل تذويبهما إلى حد كامل وهو أمر مهم ويجعل الرواية تطرح صورة جديدة عما كان سائدا من كتابة روائية عن هذه الحقبة تختلف كثيرا عن كتابات كثيرين مثل صنع الله إبراهيم برواياته الشهيرة عن هذه التحولات الاجتماعية ولا يتماس فيها مع المكون السياسى إلا قليلا أو من باب الإشارة العامة العابرة، فى حين أنه حين كتب رواية سياسية هى 1970 غاب عنه المكون الآخر الذى تميز به وهو الاجتماعى والثقافى أو التأريخ لتحولات المجتمع. والأمر ذاته مع إبداعات سلوى بكر مثلا فى تعبيرها عن تحولات المجتمع وحركة الرجعية فيه وتقلب الإنسان المصرى بين الأمل والخيبة والطموح والإخفاق والدهشة، ونجد ذلك مثلا فى أحدث رواياتها فيلة سوداء بأحذية بيضاء، لكنها لا تتصدى للمكون السياسى كذلك، أما لدى إيمان يحيى فى رواية «قبل النكسة بيوم» فنجد الاجتماعى قد التحم بالسياسى وأصبح كل منهما صدى مباشرا للآخر واتضح تلاحم هذين البعدين وما ذلك فى تقديرنا إلا لكونه اتجه إلى النكسة بما فيها من الألم ولكونه مشغول بالأساس بالمكون السياسى بقدر اهتمامه بالحياة الاجتماعية أو بقدر إلمامه بما هو اجتماعى وتاريخي. ومن إنجازات الرواية كذلك على المستوى الدلالى أو مستوى المضمون جرأته فى التعبير عن اختراقات الغرب لثقافاتنا ودولنا وتركيزه من وقت مبكر على استقطاب العقول والاستحواذ عليها أو الإفادة منها وتشغيلها فى مجالات معلوماتية أو مجالات التحليل الفكرى والمعرفى وتشغيلها فى مجالات الاستشارات الفكرية، وهو ما يمثل شكلا جديدا من الهيمنة عن بعد أو أساليب ما بعد الكولونيالية فى التوجيه السياسى والفكرى والسيطرة على شعوبنا عبر الشركات التى تبدو فى ظاهرها تعمل فى أنشطة عامة أو معرفية أو مجالات اقتصادية ومالية وهى فى الحقيقة أنشطة استخباراتية غير تقليدية. فنجد فى الرواية جرأة كبيرة فى التعبير عن هذه الحالة وبدون مواربة أو تلميح بل بالأسلوب المباشر المعهود فى خطابات إيمان يحيى الروائية. 

لكن بعد هذه الإنجازات ونقاط التوفيق هناك مواضع ومساحات كثيرة للاختلاف حول ما طرحت الرواية أو حول موقفها بوصفها خطابا سرديا موجها أو مدفوعا بتوجيه معين من المؤلف أو مواقفه الفكرية وانحيازاته، فهل تعبر الرواية بشكل حقيقى عن جوهر النكسة وأسبابها أو حقيقتها أو ما دفع إليها؟ أو هل يمكن أن تمثل الرواية مراجعة تاريخية لهذه المرحلة أقرب للحقيقة؟ أو هل يمكن أن تكون على قدر من الشمولية فى إرادتها للمعرفة أو إرادتها للحقيقة؟ أتصور أن كل هذا من قبيل الوهم، وأن الرواية بقدر ما يمكن أن تكون فى تصور مؤلفها خطوة نحو الحقيقة ربما تكون فى جوهرها خطوة نحو مزيد من الوهم وخطوة نحو مزيد من التيه أو التضليل، فالخطاب الذى قد نتصور أنه يقربنا إلى الحقيقة ربما يكون فى حقيقته مجرد تضليل أو مجرد خطوة إضافية فى طريق الابتعاد عن الحقيقة وبخاصة إذا كان خطابا منفعلا أو منحازا أو مشبعا باليقين. لا أقول إن الرواية كلها تبتعد عن الموضوعية ولكن أقول إن الحقيقة بالأساس أصعب من أن تنال بهذه الطريقة أو أصعب من أن يكشف عنها بكل هذه البساطة. 

من حق أى خطاب سردى أو خطاب أدبى أو أى خطاب بشكل عام أيا كان نوعه أن يقرر ما يشاء أو يطرح ما يريد من فكر أو تصور حول أى قضية، ولكن من المهم كذلك أن تكون لدينا الحالة النقدية الواعية بما فيه الكافية ليكون لدينا من اليقظة والتنبه لكون الخطابات وبخاصة الفنية ليس من وظيفتها استقصاء الحقيقة، فهذه الرواية ليست تقريرا قضائيا أو تحقيقا للجنة قانونية أو قضائية أو تتسم بالطابع الفنى العسكرى أو القضائى حتى تنال بدرجة أكبر من حقيقة النكسة أو تكشف عن أكبر قدر ممكن من ملابساتها، والمتلقى الذى يتعامل مع هذه الرواية بوصفها نوعا من الإدانة الكاملة والأكيدة لطرف أو لجهة أو لشخصية وتحمله مسئولية النكسة هو بالتأكيد متلقى على أعلى قدر من السذاجة السطحية الفكرية والابتعاد عن كافة أشكال الوعى الثقافى والوعى بجوهر فن الرواية والخطابات الأدبية التى مهما نالت من التاريخ أو حقائقه وأحداثه فإنها تظل فنا وإبداعا، فلا يمكن أن تجد فى إسرائيل مثلا روائيا يمكن أن يكتب عن حرب أكتوبر أو حرب عيد الغفران لديهم بما يجعله يطرح نفسه بديلا لمخرجات لجنة أجرانات مثلا، وهذا أمر طبيعى ومنطقى لمن كان لديه وعى ويبتعد عن الخلط، فالفن الروائى يبقى فنا ويبقى ذاتيا وشخصيا وتبقى حقائقه محكومة بدوافع الذات المنشئة للخطاب وانحيازاتها وتكوينها أو ملابسات نشأتها، فالجيل الذى تتركز لديه إشكالات الصدمة النفسية للنكسة من الطبيعى أنه سيكون جيلا له خصوصيته أو مواقفه الخاصة ومعالجته الخاصة للنكسة أو حتى مجرد استرجاعها ولو بينه وبين نفسه. 

>>>

ولهذا يمكن حصر عدد من المواضع التى غابت فيها النظرة الشمولية عن الرواية وهى ليست مطالبة بها، لأن هذه الآثار ناتجة عن خصوصية الذات المنشئة للخطاب، وناتجة عن إكراهات الخطاب وموجهاته الظاهرة والضمنية أو الخفية أو المرتبطة باللاوعي. أولها أن مقاربة خطاب الرواية للرجعية جاءت محدودة ومحصورة فى شكل وحيد من الرجعية التى كانت تناوئ ثورة يوليو أو تهدد مسيرتها، فنجد أن الرجعية فى منظور الرواية تركزت فى رجعية الرجل النوبى الذى يرفض أن يزوج ابنته لزميلها المتعلم الذى يحبها حتى ولو كان من طبقة أعلى أو صاحب منصب وهى نظرة ضيقة ومحدودة إلى أقصى درجة لأن الرجعية كانت متغلغلة ومتشعبة وبخاصة الرجعية الدينية التى يشير إليها خطاب الرواية إشارة مختزلة متمثلة فى جماعة الإخوان، بل إن هذه النظرة المختزلة والضيقة للرجعية أغفلت بعض المواضع فى حوارات الرئيس عبد الناصر يمكن تفسيرها على نحو أدق وبخاصة حين تحدث فى مؤتمر المبعوثين عن إمكانية عمل حزبين اشتراكيين وصعوبة ذلك فى وجود أحزاب أو حتى حزب واحد رجعى يهيمن على الساحة. وأتصور أن هذا هو الفارق بين إبداع نجيب محفوظ وتناوله الرمزى لإشكالياتنا وبين تناول بعض روائيينا الآن، فإبداع محفوظ وتناوله فيه من الشمولية والإحاطة ما لم يكن متاحا لغيره، فهو دائما ما يرمز لكل تيار أو لكل اتجاه أو نمط أو مظهر من مظاهر التقدم أو مظاهر الرجعية، ولهذا تجد لديه كافة المكونات والأطياف حاضرة بصورة فنية ورمزية، والحقيقة أن بالرواية الكثير جدا مما يمكن تناوله أو مقاربته وتفسيره وسأحاول التكملة فى قراءة أخرى.