عمرو عاطف رمضان يكتب: «سيدة الأوز.. قصة البحث عن القصة»

عمرو عاطف رمضان يكتب : سيدة الأوز: قصة البحث عن القصة
عمرو عاطف رمضان يكتب : سيدة الأوز: قصة البحث عن القصة

أنا من عشاق مسلسل السيت-كوم» الكوميدى الأمريكى الشهير«Seinfeld». وفى كل مرةٍ أشاهده فيها، أظل منبهرًا أكثر من أى شيء بالفكرة الرئيسية التى تقوم عليها دراما هذا العمل، والتى يوضحها صديق البطل جورج بجلاء كافٍ حين يقترح عليه أن يتقدم لإحدى الشبكات التليفزيونية بفكرة مسلسل جديد يتحدث عن «لا شيء».

أجل.. لا شيء.. لا حكاية ولا بناء قصصى بأى شكلٍ كلاسيكياً كان أو حديثاً، فقط تصوير الحياة اليومية التى يمر بها مؤدى «الستاند أب» كوميدى بطل القصة «ساينفيلد».

والذى يقوم بدوره هو نفسه.. الممثل والستاند أب كوميديان الأمريكى المعروف جيرى ساينفيلد، وأصدقاؤه الذين يمضى معهم معظم يومه. وأما حكاية كل حلقة وما تدور حوله فببساطة عليهم إيجادها وسط تفاصيل الحياة اليومية الروتينية الرتيبة التى نعيشها. 


وهنا تكمن تلك المفارقة العبقرية، فى كون المسلسل ببساطة يتحدث - وهذه الحبكة دون مبالغة تمثل أكثر من نصف المسلسل كله - عن كينونته هو، يتحدث عن نفسه ويجعل من ممثلى العمل، بل والمؤلف والمخرج، أبطالًا رئيسيين فى القصة!.

وكأن المسلسل يتساءل بفلسفة خفيّةٍ ساخرة - متخللةً الكوميديا الصارخة الناتجة عن فكرة البحث عن الكوميديا من الأساس - عن ماهية الحكاية من الأساس! كيفَ تأتى وتتشكَّل، وكيف أن الحكاية ما هى إلا حدثٌ يوميٌ عابر، لا قيمة له على الأغلب، لكن عقل الفنان، المهووس أبدًا بالحكاية، يكاد يرى فى أتفه الأشياء وأقلها شأنًا، بذرةً لقصةٍ عظيمة.

أو على الأقل، قصةً تلمس لديه وترًا عميقًا، وترًا نفسيًا شخصيًا يجعله يتساءل عن نفسه، وعن ماهية الأنا وماهية الغير، وعن مآل الأشياء وصروف الزمن، الذى يبدو لأول وهلةٍ مملًا وعاديًا، يجرى كالجدول الصغير فى سكون وتؤدة، بينما هو فى الحقيقة قد يبدل فى جريانه المخادع الهادئ هذا حيوات كاملة، أو قد يصنع قصصًا فارقةً تغير من حياة البشر ونفوسهم.


ومن هذه الفلسفة التأملية المحضة، تأتلف معظم قصص هذه المجموعة القصصية التى بين أيدينا «سيدة الإوز»، للقاص الجنوبى الشاب، رئيس نادى أدب أسوان محمد علاء الدين. المجموعة القصصية الفائزة بجائزة النشر الإقليمى للهيئة العامة لقصور الثقافة لعام 2020- 2021. 


«كان ميلُ الشجرة غريبًا، وكثيرًا ما تساءلتُ.. تُرى هل تسقطُ يومًا!»..هذا هو مطلع قصة «الشجرة المائلة» فى المجموعة، والتى تتحدث ببساطة عن البطل/القاص/الراوى العليم/ الراوى الأول معًا.

وهو جالسٌ فى مكانه المعتاد فى ركن القهوة، يراقب الناس والجميلة والشجرة المائلة. هذه بالضبط هى الرؤية التى يُبنى عليها أسلوب القاص فى هذه المجموعة.. «هل تسقط يومًا؟!».. هذا السؤال الذى يفتتح به القصة.

ومع ذلك يتوقف عنده ولا يلتفت إليه مرةً أخرى. ورغم أن الصورة تبعث فى الذهن سريعًا قصيدة محمود درويش الشهيرة: «السروة انكسرت»، إلا أن الرابط هنا عكسيٌ فى الواقع، فبينما عبَّرت سروة درويش المنكسرة عن حتمية الأقدار وعن فنائية المشهد، تفتح شجرة محمد علاء المائلة بابًا دراميًا واسعًا أمام الاحتمالات وأمام المجهول.

وأمام القصص الغيبية التى لن تنتهى ما دامت الشجرة مائلة، فلا هى قامت ولا هى سقطت! وبين هذا وذاك ينبعث العالم القصصى - أو ما نسميه هنا «عالم البحث عن القصة» - لهذه القصص. 


هذه الفكرة تبعث فى الذهن روح القصص الفلسفية عند بعض قصص توفيق الحكيم»، حيث يغرق الأبطال كثيرًا فى ماهية الحياة وماهية الحكاية التى يعيشونها. بل إن هنالك قصة فى مجموعة الحكيم القصصية «رأيت الله»، بعنوان: «ميلاد فكرة»، موضوعها حوارٌ دائرٌ بين بطل القصة/ الكاتب وبين بذرة لفكرة قصة بدأت تنبع فى ذهنه، ويدور الحوار عن ماهية الأفكار وما قيمتها، ومن أين تأتي، وهل هى صنيعة عقل الكاتب.. أم أنها مجرد هبة ألقيت إليه.. عثرةً عثر بها فى الطريق أو فى وجه أحدهم، فأمسك بها دون تعب.

ثم فى النهاية تضيع الفكرة من رأسه فى كبرٍ، فيلعنها ويقول لنفسه - فى حيرةٍ وعدم ثقة - إنها ليست أول فكرةٍ تضيع، وأنه كما وجدها فسوف يستطيع أن يجد غيرها، فالقيمة عنده هو وليست عندها!


هذه الحيرة الخفية تتجلّى أكثر عند بطل قصة «فى محطة مصر» فى مجموعة «سيدة الإوز».. القاص الجنوبى الذى لطالما أكد لصاحبه أن زحام الوجوه فى القاهرة أدعى لزخم الحكايات من الجنوب، وأنه كان فى كل مرةٍ يذهب فيها إلى «محطة مصر» يصطدم بزحام الوجوه وزحام الحكايات.

وحين يذهب أخيرًا إلى القاهرة، متعبًا ملولًا، يتساءل فى حيرةٍ: «إذا كنا دومًا معشر الكتاب عن أقصوصتنا الخاصة فى وجوه الخلق.. فأى حكاياتٍ يحملها لى كل هذا الزحام؟؟». ثم يعود كأنما يجيب على نفسه.

«ولكنى أحسب أن أناى هى التى تغيرت وليست المدينة.. أنا الذى كان هنا منذ أعوامٍ ليس أنا الذى يجلس الآن على الكافتيريا.. يبحث عن الحكايات فى وجوه الخلق.. فى محطة مصر!” 
وهذا يأخذنا إلى إشكاليةٍ أخرى تمثّل عنصرًا قويًا وأساسيًا فى كيان هذه القصص.

وهى أنه كما أن القاص يبحث عن القصص وعن الأفكار فى التفاصيل من حوله، بل ويكوِّن من عملية البحث والإيجاد نفسها قصصه، فإن الأشياء والعناصر أيضًا - التى تكوِّن القصص - تتأثر به هو، بما يدور فى نفسه، بما هو عليه فى اللحظة الآنية للكتابة، بنظرته تجاه الحياة برمتها. وأعنى بالتأثر أى بما ينتهى شكلها إليه فى قوام القصة الذى يصل إلينا. فمثلًا.

يمثل «حوض السمك الملون» فى الصورة الجمعية صورة البهجة والجمال، والرفاهية أحيانًا، بينما فى قصة «السمك الملون»، يمثل السمك الملون عند البطل آخر حبال الزيف التى يمكن التعلق بها فى الحياة، لدرجةٍ أنه يود أن يتوحدّ معها، فيغطس برأسه فى الحوض، لعله يموت أو ينسى نفسه، فقد بلغ به الضجر والسخط مبلغه! أو حين يرى امرأة جميلةً.

تأخذ بروحه وعينيه، ثم يبتعد عنها غائصًا فى ظلام المسرح كما فى قصة «شيءٌ من البهجة»، أو يهتف فى ندمٍ بعد فوات الأوان، كما فى قصة «فتّحى يا وردة»: «كان لزامًا علينا أن نتكلم ذلك الصباح»!


هذا الحوار الدائم، وهذه العملية الدائبة من الكر والفر بين عقل الكاتب وروحه وبين العناصر والأفكار الذائبة فى الأشياء والوجوه، بحثًا عن القصة والحكاية، تمثل أوج الصراع فى تكنيك القاص محمد علاء فى هذه القصص.

ويبدو لنا أحيانًا أن القاص يأبى إلا أن يحيل الأمر إلى صراعٍ ذاتى له هو، أو تحدٍ يواجهه أمام عملية القص نفسها، فكما استلّ دون كيخوته رمحه وامتطى حصانه راحلًا، محاربًا طواحين الهواء، باحثًا عن الوحوش والأخطار. فإن القاص هنا يمتطى «موتوسيكله» ويستل عينيه التى يكاد يرصد بها كل الأشياء.

حتى حركة اندلاق اللبن فى كوب الشاى كما فى قصة «شاى بلبن»، ويجوس خلال مقاهٍ وأماكن معروفة بعينها فى مجتمعه الأسواني، مثل «قصر ثقافة أسوان» و»جامع الطابية» وغيرها. وكأنما يؤكد تلك الفكرة أن هذه القصص تحكى لنا تلك الحكاية التى لم يحكها لنا القاصّون المغامرون من قبله.

فهم دائمًا يعطون لنا الجائزة، القصة الفارقة التى توصل إليها بعد كدٍ وتعب، وبعد رصدٍ وتأمل للأشياء والوجوه، وكأنه يقول لهم ولنا: «وماذا يا إخوتى عن حكاياتنا الصغيرة فى الطريق إلى الحكاية؟ ألم تكن أصدق وأقرب للحياة ولدفء القلب من تلك المنمقة التى نملؤها حليًا وزخرفًا؟! ألم تجدوا أنفسكم الخاصة فى تلك القصص التى عشتموها.. أكثر من تلك التى تقدمونها لقمةً سائغة لقرّاءكم؟ أليس لهؤلاء الأبطال الصغار على الطريق، ونحن منهم، الحق فى أن تُحكى حكاياتنا؟».. 


وختامًا.. تقدم لنا هذه المجموعة الفارقة رؤية مختلفة حقيقية، فكرةً تشبه الرحلة إلى القصة، وفى الرحلة أجمل القصص والأفكار. تشابهت بعض القصص فى الموضوعات والرؤية، وحتى وإن كانت فى مواقف مختلفة فهو لا يعذر التكرار والتشابه.

وتناولت أخرى ثيمات قديمة ومتكررة ولكن بروح ولغة جديدة، تمثل لغة البحث والحيرة الحكائية التى تحدثنا عنها، تلك الحيرة التى تفتح لنا أبواب الحكايات والأفكار، والجنون، كما يقول فى قصة «السقف السماوي» البطل/ القاص/ الراوى العليم/ الراوى الأول معًا، وهو يحدقُ فى السماء والخلاء من حوله من أعلى سطح منزله: «أيُّ جنونٍ تحمله لى أسطح المنازل»!

اقرأ ايضا | آندرو مارفيل يكتب: حوار بين النفس والجسد