د.محمد سمير عبد السلام يكتب : السندباد الأعمى: نحو تشكيل فضاء داخلي آخر

د. محمد سمير عبد السلام  يكتب : السندباد الأعمى: نحو تشكيل فضاء داخلى آخر
د. محمد سمير عبد السلام يكتب : السندباد الأعمى: نحو تشكيل فضاء داخلى آخر

تؤكد الروائية الكويتية المبدعة بثينة العيسى - فى روايتها السندباد الأعمى، أطلس البحر والحرب، الصادرة عن منشورات تكوين بالكويت 2021 - العلاقة بين التشكيل المتجدد للذات من خلال السرد، وفعل الكتابة، وتشكيل العالم الخيالى الخاص للبطلة / مناير، والتحولات الجمالية، والثقافية فى بنية الفضاء.

تؤسس ساردة بثينة العيسى خطابها السردى التجريبى   - إذا - على التكرار الدائرى لاضطرابات المكان، وتحولات علاقات القوة الثقافية، والسياسية؛ مثلما حدث فى حرب الخليج، أو الاحتجاب داخل المكان فى أزمة وباء كورونا.

أو تحول إدراك الذات الجمالى للمكان فى فترة ما قبل الحرب بمدلولها العائلى، أو السياسى، وفترة استعادة البطلة لعالمها الخيالى الخاص فى بنية سردية تفسيرية تؤكد كينونتها الخاصة، وهويتها السردية الدينامية وفق تصور بول ريكور للهوية السردية بوصفها مدلولا تأويليا لتاريخ الشخصية.

وتعهداتها الأخلاقية، وصيرورتها الوجودية ضمن دراسته الذات والهوية السردية المتضمنة فى كتاب الذات عينها كآخر، عن المنظمة العربية للترجمة ببيروت بترجمة د. جورج زيناتى 2005.

ومن ثم سنعاين تكرار علامات القواقع، وأصواتها العجيبة فى وعى، ولاوعى مناير، واللعب مع ابن عمها فواز، والانطباعات الجمالية الخاصة عن الأم، وعامر صديق والدها نايف، وقطتها العمياء، وصوت البحر الأول، ومناجاته الداخلية التى تؤكد استنزاف صوته التجريبى لسياق الاضطرابات العائلية، والحرب.

وهيمنة الخطاب الأبوى عند الأب / نايف، والجدة مثلا؛ وترصد الساردة تطور شخصية مناير من الوعى الطبيعى الفائق بالذات، والمكان، وتداخل الفضاءات، والأصوات، والأزمنة إلى إدراك تحولات الواقع الاجتماعى، والثقافي.

وازدواجية اضطرابات العائلة بحرب الخليج؛ وغياب علامات عالمها الخاص وشخصياته؛ مثل غياب الأم / نادية عقب شك نايف فى علاقتها بصديقه عامر، وغياب القطة لعدم رضى الجدة عنها، وغياب عامر الملتبس فى نهايات الحرب؛ وتحاول مناير- عبر فعل السرد التأويلى.

استعادة خطاب الأم الإبداعى المؤجل، واستعادة صوت البحر، والاستماع إليه من خلال شعرية صورة القواقع ضمن عالمها الأنثوى الخاص، وتوريث هذه الصورة الإبداعية لابنتها على الشاطئ فى بنية حضور مغايرة تحتمل تكرار احتجاب الذات فى المكان فى الماضى، وانبعاث صوره، وأحداثه.

وعلاماته عبر السرد التفسيرى فى سياق ثقافى وتكنولوجى مختلف؛ فوضع الاحتجاب صار عالميا، وطرائق الاتصال بالماضى، وأخيلة الأدب، والحكايات صارت أقرب إلى أجهزة المحمول.

ومواقع التواصل، وفضاءات الألعاب الإلكترونية لدى جيل ابنة مناير؛ يمكننا - إذا- تخييل حكاية السندباد البحرى فى الليالى، وصيرورة أودسيوس، وعوالم بورخيس، وجويس، وفرجينيا وولف ضمن دورتين زمنيتين تتضمنان التكرار، والاختلاف؛ فالساردة أشارت.

وفى تضمينات الخطاب إلى إمكانية تكرار تخييل العلامات نفسها فى سياق ثقافى، وإبداعى جديد حين أشارت إلى توليد انطباعات صوت القواقع العجيب فى مستقبل ابنتها؛ ومن ثم تؤكد دائرية التحولات الصاخبة للمكان.

وتشكيل الكينونة من خلال تأويل علامات عالمها الخاص، وإعادة بناء هذا العالم سرديا من منظور إدراكى / نسبى أقرب إلى هوية البطلة، أو منظور الساردة، وخطابها التجريبى الذى يتجاوز الإشارات الإخبارية للأحداث باتجاه الإبقاء على بعض الفجوات فيما يخص مصائر بعض الشخصيات.

أو تضمين الانحياز إلى فعل الاستعادة الإبداعية / السردية، والتفسيرية للحدث التاريخي؛ وإمكانية تداخل الأصوات، وعبورها للمؤشرات الزمنية، والمكانية، والإشارات اللسانية إلى الذات، والآخر.


جمعت ساردة بثينة العيسى بين خطاب الساردة الذى يرصد تحولات السياق الثقافى، وعلاقتها الإشكالية بتطور الشخصيات، والأحداث بصورة احتمالية تنطوى على الإكمال.

والاحتفاء المضمر بالفجوات التى تفكك مركزية علم الساردة بتفاصيل الشخصية، أو الحدث، وكذلك تستبطن عالم مناير منذ طفولتها، وإعادة بنائها لوجهة نظر تأويلية حول مدلول تاريخها، وهويتها.

ومن ثم تستخدم التبئير الداخلى لتضعنا داخل العالم الإدراكى للبطلة، وتمثيلاتها الذهنية، واستنتاجاتها، وشعرية عالمها الخاص؛ وتحيلنا الساردة أحيانا إلى فعل السرد نفسه، أو إلى فعل التخييل السردي.

ومن ثم تستخدم ملمحا من ملامح الميتافيكشن؛ كى تؤكد- فى تضمينات الخطاب- وفرة شخصيات مثل مناير، وفواز وقت حدوث الحرب، وإمكانية تكرارها فى المسافة بين الإحالة الخبرية.

والإحالة إلى فعل التخييل، وتفترض هذه التقنية أيضا تشكيل الساردة لمضمر يمكننا استنتاجه من وجهة النظر؛ وهو أصالة العلاقة بين التاريخى، والسردي؛ فافتراض الساردة لوجود شخصية تدعى مناير بين التخييل، والإخبار، يوحى باتساع تشكيل السياق الثقافى.

وسياق موقف التواصل الفعلى إدراكيا؛ والتداخل بين الأصوات، والحكايات، والأزمنة داخل مرجع مكانى تجريبى فى نموذج التواصل الأول- فى الرواية- بين الساردة، والمروى عليه.


تحيلنا الساردة- فى وحدة الخطاب- إلى تكرار حالة الاحتجاب فى المكان فى أزمة وباء كورونا؛ ولا يمكن فهم هذه الغربة المتكررة عن الفضاء إلا من خلال إشارات الخطاب الأولى إلى اضطراب السجناء، وتناقضات انفعالاتهم بين الرعب، والأمل، والمرح المؤجل.

وحالة الأداء التى تنفصل عن بناء استنتاج منطقى للحدث فى وقت الحرب؛ وأرى أن التأشير العائدى إلى الوعى بحضور الذات فى الفضاء قد يعيدنا إلى فضاءات أسبق يضمرها الخطاب.

مثل الإشارة إلى علاقة الذات الأولى بالمتاهات المكانية المتداخلة فى العالم الحقيقى، أو العالم الافتراضى، أو عوالم الفانتازيا الممكنة فى تعقيدها البنائى، أو إلى جزيرة الغول الأسود فى حكاية السندباد البحرى فى الليالى، أو إلى بدايات علاقة أودسيوس بالبحر عقب نهايات حرب طروادة فى الأوديسا.

وسنلاحظ أن اسم السندباد ذكر كمرجع شخصى تجريبى فى خطاب الساردة للمروى عليه، ووجد أيضا فى خطاب البحر المتخيل إلى مناير عبر أصوات القوقعة العجيبة.

وتخبرنا الساردة أيضا بأن مناير تحب رسم الأطلس والخرائط؛ لشعورها الدائرى بالغربة؛ ومن ثم تشير- فى تضمينات الخطاب إلى التوسع فى إدراك الفضاء الذى يتداخل مع عوالم الحكايات القديمة، والعوالم الحلمية، أو الافتراضية؛ وكأن تعددية الفضاءات.

وعمقها الرأسى المحتمل، واتصالها برسم الخرائط الداخلية- فى وعى، ولاوعى مناير -  تسهم فى استنزاف مركزية الاحتجاب فى الفضاء الحقيقى، كما تحيلنا إلى دهشة الذات الأولى إزاء تفاصيل المكان، وخرائطه، وخطوطه، وظلاله المحتملة، ومحاولاتها المستمرة لتشكيل مدلول للكينونة داخل الفضاء، وتحولاته الجمالية والثقافية.


وأرى أن الوعى الفائق بالمكان- فى رواية بثينة العيسى- يتوافق مع الحساسية الجمالية الإدراكية المعاصرة للفضاء، وكذلك الدراسات المكانية متعددة التخصصات التى أشار إليها روبرت ت. تاللى فى كتابه حول الوعى بالمكان؛ صدر عن راوتليدج بنيويورك سنة 2012.

وقد أشار فيه إلى الاتساع فى بناء فضاءات خيالية، وافتراضية، وكونية قد تتصل بتفاصيل لها صلة بالحقيقى فى النصوص الروائية، وأشار إلى تعددية بناء وجهات النظر النقدية، وطرائق إدراك المكان لدى روبرت ويستفال.

أو إعادة بناء المكان- فى الخطاب- عند فرانكو موريتي؛ ونلاحظ حساسية خطاب ساردة بثينة العيسى نحو تعددية الفضاءات التى تسبق فضاء السجن الأول، واضطراباته؛ وكأنها تنشئ مكانا آخر- فى تمثيلاتها الذهنية، واستنتاجاتها، وانحيازها لتشكيل هويتها عبر السرد التخييلى.

ويجمع بين البحر؛ وفضاءات متخيلة تتجلى فيها حكايات الأم، وصور لشخصيات فنية قد تشبهها مثل جين إير لدى شارلوت برونتى، أو السيدة براون فى عوالم فرجينيا وولف.

أو فضاء سردى تخييلى يشبه مكتبة بابل لدى بورخيس؛ البحر- إذا فى خطاب ساردة بثينة العيسى- يفتتح عوالم وفضاءات فنية أخرى قد تحيا فيها علامات الأم، وعامر، وقطة مناير العمياء، والعوالم الفانتازية التى تقع فيما وراء صور القواقع، وأصواتها.

وعوالم الليالى التى تؤسس لإشكالية شخصية السندباد البحرى، ونشوة الاستماع لحكاياته لدى السندباد البرى الحمال؛ قد تندمج مثل هذه الصور، والأصوات فى فضاء آخر محتمل دائما يضمره خطاب الساردة فى إشارته إلى غربة مناير الوجودية فى الفضاء، واحتجاباته المتكررة.

وامتزاجه بعالمها الخيالى، وحكاياتها، وبفعل التخييل الذى لازم وجودها نفسه؛ والذى يسمح ببناء تفاصيل خيالية أخرى فى صيرورتها الحكائية فى الفضاء التجريبى المتخيل.


وتحيلنا الساردة إلى حوار داخلى بين مناير، وصوت البحر المتخيل؛ نجد البحر يعلن فيه عن اتساعه الفيزيقى، والثقافى، والحكائى، وإلى الحوريات، والسندباد البحري؛ ونجده يكرر اسم مناير مصحوبا بنداء الهاتف: ألو؛ ويطرح عليها الأسئلة، ويطلب منها أن تعيد إليه سمكة ميتة على الشاطئ؛ وقد تجسد صوت البحر التمثيلى من خلال أصداء القوقعة.


لقد اختارت الساردة علامة القوقعة كمؤثر سياقى قابل للتوسع وفق مبدأ الصلة لدى سبيربر وويلسون، وبوصفها جزءا من عالم مناير الخيالى، وهويتها الذاتية الدينامية الأنثوية التى تنطوى على السرد؛ مثلما هو فى تصور ريكور عن الهوية السردية.

وكأن مدلول حياة مناير الوجودى الأخلاقى يتمثل فى الاستماع إلى حكايات البحر، وإلى أصوات علامات عالمها الشعرى الخاص؛ فهى تشبه السندباد البرى فى صمتها إزاء أصالة الحكايات القديمة؛ ويوحى صمت مناير هنا ببهجة الاستماع.

وهارمونى الحوار الداخلى من جهة، ووجود حالة من الانفصال المؤجل بين حالة تعارضات الذات، والآخر / الآخرين المتمثلة فى الحرب، والصراعات العائلية بسبب الشك، أو المنظور المركزى للأب.

والجدة من جهة أخرى؛ ولكن صوت السندباد سيؤكد- فى وحدة الخطاب- الأصالة، والتسامح، والتنوع الثقافى، والمغامرة الإشكالية، والعودة، وأصداء الرعب، ومعاينة الفضاءات البديلة دائما.

وهو ما يتصل أيضا بمدلول تاريخ مناير من حيث استلزام وجود فضاء آخر دائما فى حالات حضورها المكاني؛ ويوحى تكرار اسم مناير- فى خطاب البحر- بالتجانس فيما يتعلق بتشكيلها المستمر.

والدينامى لهويتها الذاتية فى حوارها مع علامات عالمها، وكتابات الأم، واستعادة النماذج القديمة فى بنية الحضور؛ أما تكرار لفظ ألو؛ فيوحى- فى تضمينات الخطاب- بإمكانية بناء صوت تمثيلى طيفى عن طريق الوسائط التكنولوجية التى امتدت من سماعة الهاتف فى تسعينيات القرن الماضى إلى عوالم الكمبيوتر.

والمحمول الافتراضية فى سياق الموقف الاجتماعى الآني؛ وهو ما يؤكد التجريب فى تشكيل التمثيلات الذهنية السمعية- البصرية فى عالم مناير الإدراكي؛ فمناير لا تكتفى بإنشاء تجسدات ذهنية للحقيقى، أو للمدخلات السمعية- البصرية- الخطابية، ولكنها تنشئ تمثيلات ذهنية من المستوى الأعلى الذى يتعلق بالمجرد، والممكن؛ وهو صوت البحر التجريبى.

وصوت السندباد الإشكالى الملتبس باضطراب بنية الموقف الفعلى للتواصل؛ وتؤسس مثل هذه التمثيلات الذهنية لاستنتاج التنازع بين قوة فضاء الحكاية، وتعارضات الفضاء الحقيقى، والتداخل بين فضاء البحر الحكائى القديم.

وحالة سكونه الآنى المؤجل فى وعى البطلة؛ وقد أضمرت الساردة أيضا عودة صوت البحر بصورة مختلفة فى عالم ابنتها الإدراكى، وعبر تكنولوجيا المحمول؛ وكأنها توحى باتساع الفضاء المرئى.

وتداخله الاستعارى المستمر بفضاء الحكاية فى استعارة إدراكية؛ ينتج عنها فضاء إبداعى للمزج طبقا لمنظور مارك تيرنر الإدراكي؛ وسينطوى هذا الفضاء التجريبى على نماذج الماضى، وشخصياته.

وفاعلية علامات الهوية الذاتية، وحكاياتها، واتصالها بشخصيات الفن، والأدب فى جزر متراكبة تفكك مركزية الاحتجاب داخل المكان الواقعى، وتتجاوز غياب الأم، وعامر، والقطة، والسندباد الإشكالي.


وأرى أن الحجة الاستدلالية الرئيسية التى يقوم عليها خطاب ساردة بثينة العيسى، تقوم على صحة فرضية وفرة الحكايات، والتأويلات، والأصوات الخيالية الكثيفة أثناء الاضطرابات الثقافية فى المكان، أو فى وجود أحداث، وشخصيات ملتبسة بالفجوات، والغياب، والحضور الظاهراتى فى الوعي؛ ومن ثم تصير النتيجة هى فاعلية الحكايات، وشخصياتها، وفضاءاتها المجازية فى بنية الحضور، وطرائق إدراك البطلة الفائقة للمكان، ولعالمها الداخلى الخاص.


ونلاحظ أن أفعال الكلام فى خطاب البحر الداخلى لمناير قد جمعت بين تمثيلات صورته الحكائية الواسعة، والانحياز التعبيرى للاتساع الثقافى، والتسامح، وتشكيل هوية مناير الذاتية، وتوجيهها إلى معاينة إغواء الفضاء الآخر / البحر الآخر المجازى الذى قد تحيا فيه السمكة، أو البحر الافتراضى البعيد عن صراعات الأسمنت.

وتوحى علامة الأسمنت هنا بإمكانية لقاء الذات بالفضاء المجرد الممكن، وخطوطه المتداخلة التى تشبه الأحداث المتداخلة المملوءة بالفجوات، وإمكانية لقائها أيضا بفضاء الحكاية القديم، أو فضاء استعادة الحياة المجازية لعلامات الهوية الذاتية.

اقرأ ايضا | «مويان» في محاورة مع «مارتن فالزر»: كل كاتب يصف نفسه أولًا