الفلبين.. بولندا أخرى

مع زيارة بيلوسى إلى تايوان وتصاعد غضب الصين

بيلوسى ورئيسة تايوان تساى إينج وين
بيلوسى ورئيسة تايوان تساى إينج وين

كتبت: دينا توفيق

تصارع متزايد للقوى المتنافسة وتوترات.. تصعيد وتهديد.. تحركات عسكرية وتأهب على كافة الأصعدة، جاءت إثر زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكى "نانسى بيلوسي" إلى تايوان خلال الأسبوع الماضي، وتجاهل لمخاوف الصين الخطيرة ومعارضتها مرارًا لهذه الزيارة للجزيرة المتنازع عليها، مع إصرار المسئولين الأمريكيين على عدم إلغائها.. خطوة استفزازية، دفعت بكين إلى محاصرة تايوان بمناورات عسكرية ضخمة فى البحر وما يهدد المياه الإقليمية للجزيرة.. قلق كبير من التوتر المتصاعد ليس فقط فى الصين ولكن جميع دول المنطقة، كـ"الفلبين"، خاصة أن وجود مسئولة أمريكية رفيعة المستوى يؤكد دعم واشنطن لتايبيه، وفى زحام سيناريوهات صينية مفتوحة.

فى زيارة استغرقت ساعات، هى الأولى من نوعها منذ ٢٥ عامًا، جاءت بيلوسى إلى تايوان، وسط وضع عالمى محتقن بين القوى الكبرى بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وما لحق به من إعادة تشكيل التحالفات وترتيب الأوضاع فى النظام الدولى على نطاق واسع. وشددت الوثائق الاستراتيجية الأخيرة لإدارة الرئيس الأمريكى "جو بايدن" على أهمية تحالفات واشنطن بين دول المحيطين الهندى والهادئ، مثل الفلبين، التى لا تزال تكافح مع تحركات بكين لتأكيد السيادة على معظم بحر الصين الجنوبي. وترى الولايات المتحدة أن الفلبين تقدم مساهمة محدودة للأمن فى منطقة المحيطين، ومع تحديث مؤسساتها الدفاعية، يمكن لمانيلا، العاصمة الفلبينية، المساعدة فى تعزيز اتفاقية الدفاع المتبادل والأمن الإقليمي.

خاصة أن الوضع الجيوسياسى المميز للفلبين سيظل يتحكم فى معظم الأزمات الأمريكية، وغالبًا ما كانت محط أنظار القوى المهيمنة على القرارات الدولية سواء واشنطن أو بكين، ومؤخرًا أتت التوترات بين الصين والولايات المتحدة بسبب تايوان لتعيد تسليط الضوء على دور الفلبين المحوري، الذى ربما لن يكون لها التأثير الفعلى فيه، بقدر ما هو دور مرسوم لها الدخول فيه. وسيجد الفلبين صعوبة فى البقاء على الحياد فى حالة تصاعد التوترات فى المنطقة، وفقًا لما نشره موقع "بيزنس وورلد" الفليبيني.

وبينما تحاول الفلبين التهرب من النزاع الذى أشعلته زيارة بيلوسى إلى تايوان، إلا أنها لن تكون مجرد مراقب لأنها مكشوفة بشكل مباشر من خلال القرب الجغرافى المطلق، وبالنظر إلى عدد من المصالح المشتركة بين الأطراف.

وأثبت التحالف بين الولايات المتحدة والفلبين، على مدار سبعة عقود، أنه من بين أكثر الناجين مهارة فى الشئون العالمية. على الرغم من فترات الخلاف المتكررة، والعداوة الشخصية التى حملها الرئيس الفلبينى السابق "رودريجو دوتيرتي" تجاه الولايات المتحدة ومهاجمته للتحالف مرارًا وتكرارًا طوال فترة ولايته، وهدد بإلغاء الاتفاقيات الأساسية مثل اتفاقية القوات الزائرة واتفاقية التعاون الدفاعى المعزز ومعاهدة الدفاع المشترك (MDT)، وقوض أنشطة التحالف الرئيسية، والأضرار التى لحقت به خلال رئاسته.

ولكن يمكن القول إن التحالف أقوى الآن مما كان عليه عندما تولى منصبه، مع احتشاد مؤيدو التحالف فى كلتا الحكومتين، وخاصة داخل القوات المسلحة الفلبينية ووزارة الدفاع الوطني، لدعم الشراكة والحفاظ على الأنشطة الثنائية، مع تولى "بونج بونج ماركوس" الحكم؛ ومن المساعدة العسكرية وتقنية أثناء أزمة وحصار مراوى إلى الاستجابة للكوارث وإغاثة كوفيد-19، أثبت التحالف لا يزال شراكة حيوية، حسب ما ذكره موقع "war on the rocks" الأمريكي.

وشهد التحالف عدة تطورات ناجحة وظل عنصرًا أساسيًا إقليميًا عبر عصور جيوسياسية متعددة. منذ أن احتلت القوات الأمريكية الفلبين عام 1898، خدمت أجيال من الفلبينيين فى القوات المسلحة الأمريكية وكشف المؤرخ الأمريكى "كريستوفر كابوزولا" فى كتابه "ملزمة بالحرب" عن هذا التاريخ المنسي، موضحًا كيف شكلت الحرب والخدمة العسكرية تحالفًا دائمًا؛ مع توسع الجيش الأمريكى فى آسيا، واجهت القوات الأمريكية منافسيها فى المحيط الهادئ من القواعد الفلبينية. ومنذ الحقبة الاستعمارية إلى غزو العراق وأفغانستان، كان الفلبينيون شركاء أساسيين فى ممارسة القوة الأمريكية.

أصبحت كل من واشنطن ومانيلا تعترف بشكل متزايد بالصين كتهديد عسكرى رئيسى لهما، بعد أن فشل نهج دوتيرتى فى تجنب مواجهة الصين على أمل جنى الفوائد الاقتصادية، ولكن بعد مرور خمس سنوات، يبدو أنه لم يؤت ثماره بالكامل، لا يزال هناك مضايقات.

حيث تجوب السفن الصينية المنطقة الاقتصادية الخاصة بالفلبين دون انقطاع، وغالبًا لا تستطيع القوارب الفلبينية الوصول إلى مناطق الصيد التقليدية فى "سكاربورو شول" بسبب المضايقات الصينية. فالفوائد الاقتصادية الملموسة من الانفتاح على بكين، لاسيما مشاريع البنية التحتية، لم ترق إلى مستوى التوقعات، وفقًا لمنظمة "مجموعة الأزمات الدولية" البلجيكية غير الربحية.

يرتبط النزاع البحرى المحتدم بين مانيلا وبكين بشكل متزايد بالمنافسة الجيوسياسية بين الصين من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى. وعلى الرغم من صداقة دوتيرتي، إلا أن المواقف الصينية والفلبينية فى النزاع البحرى لا يمكن التوفيق بينها، مع عدم استعداد الصين لتغيير مطالبها الإقليمية لحل المشكلة وديًا. تم التركيز على هذه النتائج فى حوار الأمن القومى الفلبيني، التى أكدت بشكل متزايد على الحاجة إلى تطوير رادع عسكرى موثوق به.

ويرى أستاذ الدراسات الدولية بجامعة دى لا سال "ريناتو كاسترو"، بما أن المعاهدة تتطلب من الولايات المتحدة والفلبين مساعدة بعضهما البعض فى حالة حدوث أى عدوان خارجي، فمن الطبيعى أن تكون مانيلا إلى جانب واشنطن.

ويمثل موقع الفلبين كلاً من المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة والصين فى الأرخبيل. فى منتصف الطريق بين البر الرئيسى لجنوب شرق آسيا وإندونيسيا، الأرخبيل الآخر فى المنطقة، تضم الفلبين خامس أطول خط ساحلى فى العالم، حيث تطل معظم مقاطعاتها على البحر؛ قربها من مضيق تايوان يجعلها قريبة من الصراع. كما أنها تقع بين جزء من ساحل الصين والوصول إلى المحيط الهادئ، وبالتالى تشكل جزءًا مهمًا مما يشار إليه باسم "سلسلة الجزر الأولى" التى تحدد حدود الصين القريبة من البحر.

ومع تشدد موقف واشنطن تجاه الصين، ظهرت الفلبين كحلقة وصل مركزية فى خطط الدفاع الأمريكية؛ جزر الأرخبيل الفلبينى هى مفصل جغرافى بين شرق وجنوب شرق آسيا، وفى حالة نشوب نزاع مسلح بين الولايات المتحدة والصين، ستكون الفلبين منطقة انطلاق أساسية للقوات الأمريكية. أصبحت هذه الرؤى مطروحة بقوة خاصة بعد تصريحات الرئيس الأمريكى بايدن بشأن الدفاع عن تايوان، إذا قامت الصين بغزو الأخيرة، فمن المرجح أن تلعب الفلبين، التى تقع على بعد 719,4 ميلاً جنوب تايوان، دورًا مشابهًا لبولندا فى الحرب الروسية الأوكرانية، حيث يعمل "لوزون" والجزر الشمالية مثل مجموعة "باتانيس" كروابط مهمة بين أراضى الحلفاء الأمريكية والمسرح الأساسى للقتال.

فيما تعد "قناة باشي"، الممر المائى بين جزيرة "يامي" الفلبينية وجزيرة "أوركيد" التايوانية، ضرورية أيضًا للدفاع عن الولايات المتحدة، حيث يمكن للغواصات الصينية التى تخرج من الممر إلى غرب المحيط الهادئ إطلاق صواريخ باليستية قادرة على الوصول إلى الساحل الغربي.

إقرأ أيضًا

البحرية الصينية: المدمرة «لاسا» جاهزة للمهام البعيدة

وخلال مؤتمر صحفى فى طوكيو فى 23 مايو، سأل أحد المراسلين الرئيس بايدن، "هل أنت على استعداد للتدخل عسكريا للدفاع عن تايوان إذا تعلق الأمر بذلك؟" أجاب الرئيس بإجابة واضحة: "نعم... هذا هو الالتزام الذى قطعناه". أرسلت هذه الإجابة موجات صدمة عبر المحيطين الهندى والهادئ. كما هو متوقع، نددت بكين بشدة بالبيان، مدعية أن تايوان "شأن داخلى للصين بحت ولا يحتمل أى تدخل أجنبي"، وفقًا لما ذكره معهد أبحاث الشئون الخارجية.

ومع استمرار الصراع وتصاعد التوترات، يبدو أن مانيلا فى المواجهة ولكن عليها أن تكون ودية مع الصين والولايات المتحدة. من ناحية، فإن مانيلا مرتبطة بواشنطن من خلال تحالف وتقارب ثقافى طويل الأمد. ومن ناحية أخرى، تدفع الضرورات الجغرافية والاقتصادية الأرخبيل إلى إيجاد تسوية مؤقتة مع بكين.