حكايات| التاريخ السري للنساء.. إعادة اكتشاف الجمال المحجوب عبر العصور

لوحة للفنانة بيرث موريسيو من القرن التاسع عشر
لوحة للفنانة بيرث موريسيو من القرن التاسع عشر

كتب: رشيد غمري

 

عُرِف تاريخ الفنون التشكيلية حول العالم دائما، وكأنه صناعة مجموعة من العباقرة الرجال، ما ألقى ظلالا من الشك حول مهارات النساء، وملكاتهن الإبداعية.

 

لكن دراسات حديثة تكشف كل يوم أنه برغم التضييق، كان للمرأة حضور إبداعي فاعل حتى في أكثر العصور ظلامية، ومن الحضارة اليونانية إلى القرون الوسطى، وحتى العصر الحديث، يجرى تحريك الأفكار الراكدة، وإضاءة إسهامات جمالية مهمة للنساء فى كل العصور، ما يعيد كتابة مجمل تاريخ الفن.

 

مطلع السبعينيات، كتبت الباحثة ليندا نوشلن مقالا لافتا بعنوان «لماذا لم تكن هناك فنانات عظيمات؟» وطرحت فيه الطرق التي استبعدت بها النساء من تاريخ الفن، والاضطهاد الذى تعرضن له. ومنذ ذلك الحين، جرى إعادة النظر فى مصادر تاريخ الفن، بعيدا عن الرؤى النمطية، وخاض العديد من الباحثين مغامرة إظهار الأدوار الفاعلة للنساء المبدعات فى العصور المختلفة على عكس ما كان معروفاً. 

 

فنانات اليونان المجهولات


لم تكن حياة اليونانيات سهلة، وفي أوج حضارة اليونان، كان فلاسفتهم ما زالوا يطرحون السؤال حول ما إذا كانت المرأة إنسانا، كما فرض عليهن غالبا البقاء داخل «الجينايكون» وهو الجزء المخصص للنساء بالطابق الثاني من المنزل، ما يذكرنا بالحرملك الشرقي لاحقا.

 

وإذا كانت قد وصلتنا أسماء العديد من الفنانين الذكور، مثل «فيدياس»، «ليسيبوس»، «ميرون»، «أجاتاركوس» «كيروس» و«أنتينور» وغيرهم، فقد بقيت علاقة اليونانيات بالإبداع مجهولة، ومسكوتًا عنها.

 

ووفقا لإعادة قراءة المصادر التاريخية، فإن «كورا» من «سيسون» هي أول رسامة يونانية، وكان أبوها نحاتًا وخزّافًا معروفًا، وقد ذكر «كليمان» السكندري أخريات، وهو من القلائل الذين ناصروا المرأة، وله مكتوب بعنوان «النساء قادرات على الكمال كالرجال»، وفيه تحدث عن فنانة تدعى «أناكساندرا»، عاشت وأبدعت أعمالها خلال القرن الثالث قبل الميلاد، وتتلمذت على يد والدها الفنان المعروف «نيلكس».

 

وورد ذكر الفنانة نفسها في كتاب للباحث الهلنيستى «ديديموس»، كما تحدث «بيللينى الأكبر» بإيجاز عن فنانة ثالثة تدعى «إيريني»، وهي ابنة الفنان «كيراتينوس». وكانت تقوم بعمل رسوم دينية، مثل لوحتها عن «كاليبسو» حورية الماء، وغيرها.

 

 

وقد استعادها «جيوفانى بيكاتشيو» فى عصر النهضة، وكتب عنها بوصفها امرأة استثنائية. كما ذكر فنانة أخرى باسم «تيمارت»، من القرن الخامس قبل الميلاد. وهى ابنة الفنان الأثينى «ميكون الأصغر»، واشتهرت برسم «أرتيميس».

 

وهى من القلائل اللاتى وصلتنا أعمالهن، كما وصلنا رأيها حول وضع النساء فى عصرها، حيث كتب «بلليني» أنها كانت تحتقر الدور المرسوم لليونانيات، وتتمسك بقدرة المرأة على الإبداع كالرجال. ولا ننسى الفنانة «هيلانة» المصرية التى عاشت فى القرن الرابع قبل الميلاد، وصورت معارك الإسكندر ضد «داريوس» الثالث ملك الفرس.

 

شموع العصور المظلمة


رغم قسوة الظروف خلال العصور الوسطى والإمعان فى تهميش النساء، فإن بعض الموهوبات حفرن فى الصخر، ليمارسن إبداعهن. وتظهر الدراسات التاريخية الحديثة أن عددا من الفنانات خلال تلك الفترة عملن فى مجال رسم وزخرفة المخطوطات، والحفر والطباعة الفنية، وغيرها من الفنون المتاحة.

 

ووفقًا لكتاب قاموس الفنانات لـ«ديليا جيز» فهناك أسماء فنانات مهمات ينتمين للعصور الوسطى، ومنهن «دوميديوس»، و«إيندي» الراهبة الإسبانية من القرن العاشر، و«جودا» الراهبة الألمانية من القرن الثانى عشر، و«كلاريشيا»، وهي امرأة بافارية علمانية من القرن الثانى عشر.

 

 

لكن يبدو أن هذا الهامش المتاح للنساء خلال العصور الوسطى المبكرة سرعان ما تآكل مع صعود ما يعرف بحركة الإصلاح «الجريجوري» في أوروبا، والتي بدأت منتصف القرن الحادى عشر، واجتاحت أوروبا، موسعة سلطة الكنيسة، وفارضة الرقابة على تصرفات الناس. وأصبح صعباً أن تجد النساء الفرصة لاكتساب المهارات.

 

ولم يستثن من ذلك سوى بعض الأديرة الألمانية التى غالباً ما أدارتها راهبات من عائلات ملكية وأرستقراطية. وضمن هذا برز اسمان مهمان هما «هيرادي»، و«هيلدغارد»، وكانتا فنانتين بارعتين، ومفكرتين أيضاً.

 

ومع ذلك، فمنذ القرن الثانى عشر وصعود المدن والتجارة والسفر والجامعات، حدثت مستجدات اجتماعية أتاحت مزيداً من الفرص للنساء. وفى تلك الفترة حققت الفنانة «جان لو نوار» مزخرفة المخطوطات، نجاحا كبيرا، بعملها على مزامير داوود، بدعم والدها.

 

وبحلول القرن الخامس عشر كان دور النساء قد تعاظم فيما يتعلق بزخرفة المخطوطات، لكنه انحسر فيما يتعلق بفنون الحفر والطباعة على الخشب. وخلال القرن نفسه برز اسم الفنانة «ماريتا باروفييه» ابنة الفنان «أنجيلو باروفييه» فى مجال فنون الزجاج، وتصاميمه. كما أنه من المعروف أن ورش اللوحات التطريزية قد شاعت فى إنجلترا، وكان إنتاجها مطلوبا فى أوروبا كلها، كانت منتجاتها من صنع نساء فنانات.

 

أما فى الدول الإسكندنافية الوثنية وقتها، فقد عرف اسم مدربة للفنون، هى «جونبورجا»، عاشت خلال القرن الحادى عشر فى السويد. كما نجد أسماء فنانات علمانيات أبدعن خارج حدود الكنائس، وكن متعلمات، يرسمن، ويكتبن باللاتينية، ومنهن «جيسلا» وابنتها «ألبا» بنت «جويبرت»، وعاشتا فى القرن الحادى عشر أيضا. وعلى العموم فقد كان فنانو تلك الحقبة ينتمون لطبقة تسمح لهم بالتحرر من الأعمال الشاقة، وممارسة الفنون. أما الفنانات فكن ينتمين إلى إحدى فئتين، إما الطبقة الثرية، أو الراهبات.

 

رائدات القرن الـ19


سنتخطى هنا عصر النهضة، لأن فناناته حظين بموضوع مستقل، نشر فى «آخرساعة» فى يناير الماضى تحت عنوان «نافسن الرجال، وأسقطهن التاريخ.. فنانات عصر النهضة» وبه الكثير من الاكتشافات عن الإبداعات النسائية. وننتقل إلى القرن التاسع عشر، حيث أقام معهد «كلارك» فى «وليامز تاون» بولاية «ماساتشوستس» عام 2018 معرضا مهما تحت عنوان «فنانات باريس» ويضم أعمال مجموعة من فنانات ذلك القرن الرائدات، ممن تحدين مجتمعاتهن، وذهبن إلى باريس لدراسة الفن، وممارسته.

 

ومنهن المعروفات مثل «مارى كاسات» و«بيرثى موريسو» و«روزا بونور» لكن أخريات تم الكشف عن وجودهن خلال المعرض، وهن 37 فنانة من 11 دولة.

 

كما سلط المعرض الضوء على حياتهن ومعاناتهن فى ظل الظروف الشاقة، والتهميش. ومن ذلك أن كلية الفنون الجميلة الحكومية لم تقبل انضمام الطالبات قبل عام 1897، بالإضافة إلى تقييد حركة النساء عموما والفنانات خصوصا، وعدم الاعتراف بهن، ولا عرض أعمالهن إلا بصعوبة كبيرة، بل كانت الأكاديمية الحكومية المجانية، تطلب من النساء مقابلا لتعليمهن، وضمن دروس مخصصة للنساء، منعن خلالها من رسم العارضات، ما حد من إكسابهن المهارات.

 

ومن الفنانات اللائى كشف المعرض عنهن «مارى براكيموند» وكانت من أسرة فقيرة، ولم تستطع الإنفاق على التعليم، فعلمت نفسها، حتى أن أول لوحة رسمتها كانت لأمها، وصنعت ألوانها بنفسها من مسحوق بعض الزهور، قبل أن تدرك أسرتها موهبتها، وتهديها علبة ألوان مائية. وقد أتيح لها على استحياء عرض أعمالها ضمن بعض معارض الانطباعيين.

 

ولكنها تزوجت من شخص مستبد وأناني، اسمه «فيليكس»، وفى النهاية اضطرت للتخلى عن فنها رغم موهبتها. كذلك الفنانة «مارى باشكيرتسيف»، والتى رغم كونها ابنة لأسرة أوكرانية أرستقراطية، فقد كتبت فى مذكراتها عن معاناتها فى باريس، وتمنت لو استطاعت الخروج بمفردها، والتنقل بحرية بين المتاحف والكنائس والحدائق. وقالت إنه بدون الحرية لا يمكن أن يصبح الشخص فنانا حقيقيا.

 

وقد درست فى أكاديمية «جوليان»، ورحلت مبكرا فى الخامسة والعشرين شاعرة بالقهر، بعد مشاركات فى قليل من المعارض. كذلك الفنانة «إليزابيث نورس» التى حققت نجاحا كبيرا معتمدة على عملها، حيث أعالت نفسها وشقيقتها دون مساعدة، وكافحت حتى نالت الاعتراف. وعانت الفنانة «إدمونيا لويس» الكثير، حيث كانت ابنة لأب من أصل أفريقى وأم من سكان أمريكا الأصليين.

 

وكلاهما توفى عندما كانت صغيرة. وقد تعرضت لسوء المعاملة والعنصرية، حتى أنهم اتهموها بالسرقة، وبتسميم زملائها فى المدرسة، وعلى إثر ذلك تعرضت للضرب العنيف على يد جماعة من المتعصبين، ثم خضعت للمحاكمة وأثبتت براءتها. ولم تمنعها الظروف من تحقيق النجاح.

 

ولا تكتمل صورة حياة الفنانات فى القرن التاسع عشر، دون ذكر الفنانة «إلينى بوكورا» والتى تعتبر أول فنانة يونانية فى العصر الحديث، وكانت حياتها مأساوية. وقد ولدت لعائلة أرستقراطية عام 1821، وكان والدها راعيا للفنون، واهتم بتعليم ابنته الرسم حيث انتقلت إلى نابولى فى إيطاليا، ولكنها اضطرت لارتداء ملابس الرجال، كى تتمكن من ذلك، لأنه كان ممنوعا على النساء دراسة الفن. وهو ما صورته فى إحدى لوحاتها وهى ترسم بملابس رجل.

 

محاولات عديدة تجرى لرد اعتبار المرأة المبدعة، تضمنت صدور العديد من الدراسات والكتب، ومنها كتاب «فنانات عظيمات» والذى سلط الضوء على أكثر من ثلاثمائة فنانة خلال خمسمائة عام متناولا إياهن بالترتيب الأبجدي. وهن ينتمين إلى عصور وبلدان ومدارس فنية مختلفة.