عزالدين نجيب يكتب :الحكمة الشعبية نبع للتصالح مع الحياة

عزالدين نجيب وأحمد مرسى
عزالدين نجيب وأحمد مرسى

 أحمد مرسى وأنا - وجهان لعملة واحدة فى الحياة والعمل الثقافى، نجمع بين التأصيل والتغيير، وصولًا إلى هدف مشترك فى النهاية، وهو بناء جسور التواصل والتفاعل بين الثقافة المعاصرة والثقافة الشعبية.

فى صداقتنا الممتدة منذ أواخر الستينيات كنا - أحمد مرسى وأنا - وجهين لعملة واحدة فى الحياة والعمل الثقافى، نجمع بين التأصيل والتغيير، وصولًا إلى هدف مشترك فى النهاية، وهو بناء جسور التواصل والتفاعل بين الثقافة المعاصرة والثقافة الشعبية، وإلى تغيير وعى الجماهير من منطلقات تراثية أو ثورية.


 رأيته لأول مرة فى أحد أيام صيف ١٩٦٨بمكتب الدكتور عبد الحميد يونس رائد الأدب الشعبى وأستاذه بهذا القسم بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وكان منتدبًا حينذاك لرئاسة جهاز الثقافة الجماهيرية خلفًا لرئيسها الكاتب الصحفى سعد كامل، عقب التغيير الدراماتيكى الذى أطيح فيه بجميع قيادات وزارة الثقافة اليساريين.

 ومنهم المشاهير والأَعلام على يد نفس الرجل الذى أتى بهم إلى مناصبهم بموافقة الرئيس عبد الناصر وهو الدكتور ثروت عكاشة، قبل أقل من عامين من تعيينهم وقيامهم بدور مشهود بإقامة حياة ثقافية وصلت إلى أقصى ربوع البلاد وشيدت دعائم نهضة ثقافية لم تشهدها مصر من قبل فى شتى مجالات الفنون والآداب والسينما والمسرح والكتاب والمتاحف والمعاهد الفنية وغيرها، فكان التخلص منهم فجأة، بعد أقل من عام على وقوع هزيمة ١٩٦٧.

وبدون سابق إنذار وبطريقة غير كريمة، علامة استفهام غامضة حتى اليوم، ولم يكن أمامى، كمدير شاب لقصر الثقافة بكفر الشيخ (بعد أن تم تجريدى من كل اختصاصاتى وحتى من جميع العاملين والسعاة، بعد تخلص عبد الناصر من مراكز القوى المناوئة له، إلا التقدم باستقالتى إلى الرئيس الجديد للثقافة الجماهيرية.


كان الشاب الذى يرافق رئيس الثقافة الجماهيرية الضرير د. عبد الحميد يونس والمنوط التصديق بخاتمه الصغير بدلًا منه على القرارات والمكاتبات هو تلميذه النجيب والمعيد بقسم الأدب الشعبى الذى يرأسه بكلية الآداب جامعة القاهرة، أحمد مرسى.

ولا زلت أذكر كيف تجمدت يده بالخاتم النحاسى عاجزًا عن ختم ورقة استقالتى بختم رئيسه الذى لم يتردد فى قبولها مُرحٌبًا وهو يطلب منه التصديق عليها، بينما يسألنى (من باب برو العتب): ليه يا بنى هو حد ضايقك فى حاجة؟! وعندما شعر بتردده أخذ منه الخاتم، وعرفت يده طريقها إلى الورقة بمهارة فختمها وكانه يعرف مكان التوقيع تمامًا، وقال له: أكتب يا أحمد.. موافق.


ومرت سنوات بعد ذلك لم نتقابل فيها أنا وأحمد، حتى التقينا يومًا فى إحدى الندوات، وكان سلوكى أقرب إلى الحذر معه، تحت شعور يخامرنى بأنه يد السلطة التى صكت كلمة «النهاية» لمشروعى الثقافى، فإذا به يذكرنى بذلك الموقف ويفسر لى سبب توقفه عن ختم ورقة استقالتى، قائلًا أنه كان متحمس لتجربتى بكفر الشيخ، فهو من أبناء قرية «شباس».

على ما أذكر، وهى إحدى قرى المحافظة، وكان يتابع بإعجاب زياراتى إليها بقافلة الثقافة وما لمسه من ردود فعل إيجابية لدى أبناء قريته وأهل المحافظة ككل من تأثير وإعجاب، هكذا أسقط فى يده عندما وجد أن عليه التوقيع بقبول استقالته.

ولم يكن يستطيع التعبير عن مشاعره برفضها ضد إرادة أستاذه، الذى عينه معيدًا واصطفاه ليكون مساعدًا له، قال لى ذلك بلهجة تنضح بالصدق، ولم يكن هناك ما يدعوه إلى نفاقى وقد أصبحت مغضوبًا عليّ ومُبعدًا عن أى سلطة، فصدقته وارتحت إليه.


منذ ذلك اليوم صرنا أصدقاء، تجمعنا المودة كلما تقابلنا، وإن فرقت بيننا السياسة، فإنه كان يرى أن العمل الوطنى لا يقتصر على العمل السياسى، بل إن السعى لإحياء وتنقية التراث الشعبى يعد من صميم السياسة، لأنه تأصيل لثقافة وهوية الشعب، كما أن تركيزى على الإبداع الفنى والأدبى مشروع وطنى يستحق أن أتفرغ له، لأن للسياسة آلاف يمارسونها، أما الإبداع فمن يمارسونه أفراد معدودون، فكيف تهدر مواهبك فى صراعات ستكون فيها الخاسر دائمًا، وكثيرًا ما كان يستعين بالأمثال الشعبية ليدلل على وجهة نظره.


وظل موقفه التصالحى أو التوفيقى يشغلنى على مدار السنوات التالية، وأنا أحاول إيجاد صيغة للتوفيق بين النشاط الإبداعى وبين العمل العام، حتى علمت عام ١٩٩٢ بنشر إعلان عن مسابقة لشغل منصب مدير عام الحرف التقليدية بوكالة الغورى.

وكان شرط الاشتراك هو التقدم بمشروع متكامل لإحياء وتطوير هذا المجال. ووجدت فى المشروع حلًا للمعادلة الصعبة، يمكن تطبيقه فى مبنى وكالة الغورى، كونها حاضنة لمراسم الفنانين وورش عمل الحرفيين معا فى بوتقة واحدة. وعندما حصلت على المنصب كان أحمد مرسى أكبر الداعمين لى بالمشورة والمعرفة النظرية.

وكان بنفس الحماس معى بعد ذلك حين حين قمت بتأسيس جمعية أصالة لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة، رغم تخصصه الأكاديمى فى الأدب الشعبى، لكن الفلسفة وراءهما واحدة، حتى جمعت بيننا لجنة الفنون الشعبية  التى كان يرأسها بالمجلس الأعلى  للثقافة طوال عدة  سنوات، وظل يدعم جهودى فى «الوكالة» وفى «أصالة».

وساعدنا فى ذلك زميلنا فى اللجنة د. أسعد نديم وكان يدير مؤسسة خاصة لمنتجات الحرف التقليدية، حتى انتهى ذلك الاهتمام المشترك بالحرف إلى تأسيس جمعية المأثورات الشعبية، وصعدت الحرف التقليدية إلى سطح اهتمامات الجمعية وإنجازاتها، وهكذا اكتملت دائرة التعاون والتأثيرالمتبادلين بيننا، بالتنافس الإيجابى بين الجمعيتين، نحو هدف مشترك هو النهوض بقضية التراث والأصالة، لكن رحيل أسعد نديم كان ضربة قوية للجمعية التى يرأسها أحمد مرسى، فى الوقت الذى تزايدت اهتماماته البحثية، خاصة مع التغيير المستمر من جانب الدولة على الجمعيات الأهلية عامة، فذبلت جمعية المأثورات الشعبية وانحسرت قوة الدفع لها من خارجها ومن داخلها على السواء، وانحسر إشعاعها وتأثيرها فى الحياة الثقافية والحرفية، وهو ما تعرضت له أيضًا جمعية أصالة بنفس القدر.


غير أن شيئًا واحدًا لم ينحسر إشعاعه على مر السنين حتى نهاية حياته، وهو شخصيته الإنسانية وحضوره الفريد وتأثيره فى تلاميذه وزملائه، وهو فى الحقيقة إشعاع كان ينبع من الحكمة الشعبية التى خلقت لديه حالة تصالحية مع الحياة والناس والتعايش مع المتناقضات، قوامها النأى بعيدًا عن الصراع والصدام، مع القدرة على اجتياز الجنادل الصخرية التى تعترض مجرى العلاقات، بدءًا من العلاقات الشخصية ومرورًا بالروابط المهنية وانتهاء بالخلافات السياسية، فحاز بذلك حب الجميع، فوق ما قدمه إليهم وإلى الحياة الثقافية من فيض علمه ومن خلاصة الحكمة التاريخية للإنسان المصري.

اقرأ ايضا | د.سيد إسماعيل ضيف الله يكتب :أحمد مرسى و ليبرالية ابن الأصول