تراجع أوروبى ومكسب روسى

يمر نورد ستريم 1 تحت بحر البلطيق من روسيا إلى ألمانيا
يمر نورد ستريم 1 تحت بحر البلطيق من روسيا إلى ألمانيا

كتبت: دينا توفيق

 

انزلقت أقدام الأوروبيين فى حرب العقوبات ضد روسيا والانجرار وراء الأجندة الأمريكية، لكن خطواتهم لم تحصنهم داخليًا ولم تحقق أغراضها بل ودفعوا أثمانا باهظة؛ ضغوطًا سياسية تعانى منها البلدان الأوروبية وتفاقم أزمات تضخم وشحًا فى المواد الغذائية والطاقة حتى أصبحت فى خانة الخاسرين، بعد صمود روسيا أمام العقوبات الغربية وعدم سقوطها من الداخل وجلبها هزيلة إلى مائدة المفاوضات.

الجهود الحكومية فى الدول الغنية تفشل فى احتواء تبعات العقوبات وتصاعد أزمة الجوع

من جديد تظهر التبعية الأمريكية فى خطوات أوروبا ومراجعة حساباتها تجاه موسكو، ظلت مرتجفة تعانى من مخاوف نقص الطاقة خلال الشتاء القادم وموجات الهجرة الناتجة عن نقص الغذاء، محاولات سد الاحتياجات وحلول مؤقتة حتى جاء الضوء الأخضر من واشنطن.

وعلى الرغم من العقوبات التى فُرضت على روسيا، بدأ الغرب يدرك تدريجيًا أنه لضمان الأمن الغذائى الدولى سيكون من الضرورى مراجعة الإجراءات التى تم تنفيذها حتى الآن.

وعلى ما يبدو، بدأ الاتحاد الأوروبى بالفعل فى الإعلان عن بعض الخطوات فى هذا الاتجاه، بعد الموافقة الأمريكية وإعلان مساعد وزير الخارجية لمكتب الشئون الاقتصادية والتجارية بوزارة الخارجية الأمريكية «رامين طلوى» عن قلقه مما أسماه «الامتثال المفرط» للعقوبات، الذى قد يؤثر على الإمدادات الغذائية.

فبعد أيام من المفاوضات حول القمح الأوكرانى، وتوفير ممرات آمنة لإخراجه من الموانئ، يبدو أن الاتحاد الأوروبى وافق على الشروط الروسية، بالسماح للقمح بالتصدير نحو العالم، وإخراج الملايين من الأطنان المتراكمة فى المخازن بسبب سيطرة روسيا على الموانئ الاستراتيجية فى أوكرانيا.

ووفقًا للتقارير الغربية وما نشرته وكالة «رويترز»، فإن الكتلة الأوروبية تخطط لإلغاء تجميد بعض الأموال الروسية من البنوك الروسية الخاضعة للعقوبات للسماح بتنفيذ معاملات المواد الغذائية والأسمدة.

وهناك أيضًا معلومات حول مشروع محتمل لتعزيز تسهيل الصادرات الغذائية من الموانئ الروسية التى تم تعليق خدماتها إلى الغرب بسبب فرض العقوبات. وبهذا، تأمل أوروبا فى تأمين جزئى من تجارة 37 مليون طن من الحبوب التى تخطط موسكو لتصديرها خلال العام الجارى.

وحتى الآن، نفذت الكتلة الأوروبية ست حزم من العقوبات ضد موسكو ردًا على الاعتراف بجمهوريات دونباس وبداية العملية العسكرية الخاصة فى أوكرانيا. ومن بين الإجراءات القسرية القيود المالية والمصرفية التى تشمل تجميد أموال البنوك الروسية.

وتقدر السلطات الأوروبية أن أكثر من 300 مليار دولار من أصول البنك المركزى الروسى قد تجمدت بالفعل نتيجة للعقوبات الغربية. وبالإضافة إلى ذلك، يزعم مفوض العدل فى الاتحاد الأوروبى «ديدييه رايندرز»، أنه تم أيضًا حظر 14.2 مليار دولار أخرى تخص أفراد وكيانات روسية.

إقرأ أيضًا

«بلومبيرج»: انخفاض أسعار القمح العالمية بنسبة 3.3%

ولكن من الواضح أن هذه الإجراءات أضرت بمصالح الأوروبيين؛ خاصة أن تدفق التجارة بين الاتحاد الأوروبى وموسكو كبير ومكثف وديناميكى، بالإضافة إلى أنه يشمل قطاعات استراتيجية للغاية مثل الطاقة والزراعة. ومع ذلك، فإن الكتلة الأوروبية، كجزء من المظلة العسكرية لحلف الناتو التى تقودها الولايات المتحدة، تواجه صعوبات كبيرة فى التصرف بشكل سيادى عندما تتعارض مصالحها مع طموح وأهداف واشنطن.

ويفكر الأوروبيون فى مراجعة العقوبات لمجرد أنهم حصلوا على نوع من «التفويض المطلق» للقيام بذلك، حيث سمحت الولايات المتحدة مؤخرًا بمراجعة جزئية. وفى أوائل يوليو، خففت الحكومة الأمريكية بعض الإجراءات القسرية المناهضة لروسيا، وسمحت بالمعاملات المتعلقة بالأسمدة والبذور والمواد الزراعية الأخرى.

أوروبا تخفف العقوبات المفروضة على البنوك الروسية وتسمح بتجارة المواد الغذائية

ومن غير هذه السابقة، لن يكون لدى الاتحاد الأوروبى بالتأكيد الحرية فى تخفيف العقوبات أيضًا، على الرغم من حقيقة أن قادة الكتلة قد أعربوا بالفعل عن هذه الرغبة عدة مرات، بعد أن أحبطت خططهم بسبب خضوع أوروبا الجيوسياسى للولايات المتحدة.

ومن الواضح وجود تباين فى موقف البلدان الأوروبية، خاصة بعد زيارة وزير خارجية المجر «بيتر سيجارتو» إلى موسكو وطلبه مزيدًا من الغاز لتخطى أزمة الطاقة، خصوصًا أنها جاءت غداة طلب بروكسل من الدول الأعضاء تقليل الطلب على الغاز بنسبة 15% لتخطى تراجع الإمدادات والتحرر من التبعية لروسيا فى هذا المجال. وعارضت عدة دول أوروبية خطة الاتحاد مثل اليونان والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا ومالطا وقبرص.

وفيما يتعلق بالولايات المتحدة نفسها، من الغريب التفكير فى الأسباب التى دفعت الإدارة الأمريكية إلى تخفيف الإجراءات، وفقًا لموقع «إنفوبركس» التابع لدول مجموعة BRICS.

ومن الواضح أنه يتم فرض تدابير ليتم الامتثال لها؛ إذا كانت آثار الامتثال سلبية، فهذا يعنى أن الإجراءات نفسها سلبية ويجب حظرها. وتدرك الإدارة الأمريكية جيدًا آثار هذه العقوبات، لكنها اختارت سياسة مواجهة روسيا رغم الضرر وقبول الآثار الجانبية والمضى قدمًا فى خطط مقاطعة موسكو، ولكن المجتمع الدولى هو من يتكبد الخسائر وبات غير قادر على تحملها.

وتظهر كلمات الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو جوتيريش» فى الجمعية العامة عدم الرضا العالمى عن العقوبات قائلًا «إننا نواجه خطرًا حقيقيًا بحدوث مجاعات متعددة هذا العام ولكن يمكننا تجنب هذه الكارثة إذا تحركنا الآن».

وفى الواقع، أزمة الإمدادات الغذائية مشكلة لا يمكن وقفها بالكامل؛ خاصة مع خفض إمدادات الحبوب، بسبب انهيار نظام التصدير فى أوكرانيا، ولأن العقوبات المفروضة على روسيا قد أوقفت التجارة بالفعل لمدة خمسة أشهر.

ومع ذلك، يمكن إدارة الموقف ومعالجة الآثار إذا كان هناك إجراء فورى من أجل وقف العقوبات، وبسبب هذا بالتحديد أصبحت القضية أجندة عالمية مشتركة، مما أجبر واشنطن - ثم أوروبا - على إلغاء بعض الإجراءات.

ولكن من الوهم الاعتقاد بأن مجرد إلغاء تجميد بعض أصول البنوك يمكن أن يحل المشكلة. تتصرف أوروبا وكأن هذا نوع من «الدبلوماسية»، بمعنى تخفيف الإجراءات لإعادة التجارة فى المقابل. ومن ناحية أخرى، يمكن أن ترفض موسكو بيع الحبوب والأسمدة، إذا رأت أنه من غير المناسب الحفاظ على التجارة مع الدول التى تفرض عليها عقوبات.

ومن ناحية أخرى، وحتى لا يظهر فى موقف ضعف وتراجع قرر الاتحاد الأوروبى بشكل منفصل، فرض عقوبات جديدة ضد روسيا تبناها فى اجتماعه الأسبوع الماضي، حيث خضع بنك سبير، أكبر بنك فى روسيا، لتجميد أصوله، باستثناء الموارد اللازمة لتجارة المواد الغذائية، حسبما صرح مسئول فى الاتحاد الأوروبى لرويترز.

كما فرض مزيدًا من العقوبات التى ستشمل واردات الذهب وتشديد الضوابط على تصدير بعض السلع عالية التقنية. ونقلًا عن تقرير موقع «بوليتيكو» الأمريكي، طالبت رئيسة مجلس النواب الأمريكى «نانسى بيلوسى»، من وزير الخارجية «أنتونى بلينكين» باستخدام سلطاته وتصنيف روسيا على أنها دولة «راعية للإرهاب»، ويمكن للكونجرس أيضًا القيام بذلك عن طريق تمرير التشريعات.

ويهدف التصنيف إلى توسيع العقوبات على الدولة المستهدفة. ورغم أن العقوبات التى فرضتها الولايات المتحدة على روسيا كانت كثيرة، إلا أنها كانت غير مجدية ولم يكن لها تأثير يذكر على موسكو.

ولكن تصنيفها كدولة راعية للإرهاب سيفتح الباب أمام العقوبات على الدول الأخرى التى تتعامل معها. وتشير هذه الخطوة أيضًا إلى أن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا لن يتم إصلاحها لسنوات قادمة لأن مثل هذه التصنيفات عادة ما يكون من الصعب تغييرها.